بدا الأمر مثل بقعة حبر أسود، سقطت فجأة على ثوب مازال متشبثا ببياضه، وعشرات الطيور البيضاء غيرت ريشها في موكب عزاء. تجاوزت ـ على نحو ما ـ كابوس الصدمة الأولى منذ أتاني الخبر الحزين. شربت كثيرا من الليمون والينسون والقهوة، وتناولت كميات لا بأس بها من المهدئات والمنومات، وسمعت كما هائلا من كلمات المواساة وتهدئة القلب والخاطر دون جدوى. في المرآة بدوت لنفسي كمن تحاول أن تمحو تجاعيد الزمن التي داهمت وجهها وروحها. حزن أمه التي تسكن الطابق العلوي يجاور حزني، فتحاصرني بعيون قلقة، لتسألني من وقت لآخر عن سر هجري للفراش الوثير ونومي فوق بلاط الحجرة. أخبرتها أنني أقسمت في ذلك المساء الحزين على ألا يلامس جسدي ذلك الفراش، مادام هو هناك في قبضة بيت العنكبوت. الآن أعيد قراءة رسالته في محاولة لاستقراء ما بين السطور، وما أخفاه خاتم رقابة العدو. لم أستطع إقناع نفسي بخنوع السطور المبتسرة والأسيرة خلف خاتم الرقابة، ولا أدري لماذا بحثت في جيوب ثيابه عن منديل أو ورقة مطوية، أي شيء لامس يده قبل الأسر مباشرة. وجه أمه يراوح بين السؤال والحزن. الآن صرت أشعر تجاهها بتعاطف يشبه على نحو ما ذلك الذي أحسه تجاه نفسي. ابتلع حزني وحزنها كل النباتات الشريرة التي طفت على سطح حياتنا في الفترة الأخيرة، وما جره علينا جنون غيرتي وجنون سطوتها عليه وأنا أرى فارس يتسلل صاعدا إليها، ليحصل على جرعة الحب وجرعة الحنان اليومي كما كان يسميها. منذ أخذته آخر قاطرة ليل وحشية، وصورته لا تغادر مخيلتي وصوته لا يبارح أذني. أتململ مع رتابة ساعة الوقت، أحصي مشابك الغسيل على الحبال الرخوة، وأتابع الطيور البيضاء الفارة إلى فضاء آخر، ولا يستهويني ترف النساء مع الثرثرة والمساحيق والمرايا. نظرات أمه وأخته وأخيه تحاصرني بأن أقول شيئا. هل تبددت خلافاتي معه هكذا فجأة، وهم الذين جاهدوا كثيرا من أجل فض الاشتباك الدائم بيننا، وأنا أحاصره بجيوش الأسئلة وجحافل الوساوس والظنون.
من تلك الشقراء التي حدثتك على قارعة الطريق؟ ومن صاحبة الصوت الحريري الدافق الذي داهمني في التليفون؟ ومن السمراء التي..؟ ومن فارهة الطول تلك؟ حقيقة كان يتلقى أسئلتي بإجابات حادة، واضحة، قوية الحجة، غير أنها لا تروى ظمأ ولا تشفي غليلا. شكل الفراش الوثير في حجرتنا يعد بتبديد برودة الليلة وليال أخرى قادمة، وأنا أؤكد أن ذلك الفراش لن يلامس جسدي مادام هو هناك في بيت العنكبوت. كان "فارس" يفسر غيرتي بمهاترات غير مبررة، تعززها تصورات وهمية، ويفسرها بخوائي الروحي والعقلي، وكنت أرى تفسيراته مثل تعليمات الأطباء وارشادات كراسات المدارس التي لا يقرؤها أحد. لم أكن أستطيع مكاشفته بأسباب غيرتي، لتظل كامنة في صدري، وتتبدى بعنف واضح في أحلامي، تلك التي تنتهي دائما بكابوس، لا تنصرف أشباحه إلا حين يوقظني من نومي. كانت أحلامي وكوابيسي تلك تتكرر على شكل حواديت ليلية، مثل تلك التي كانت تحكيها جدتي عن أمنا الغولة، وامرأة السبع دواهي وشيطان البحر. تلك الحكايات التي كانت تجعلنا نهرب في النوم، فنحلم بأننا أبطال الحواديث، نمسك سيوفا، ونتعارك مع أمنا الغولة، وامرأة السبع دواهي، وشيطان البحر ثم تنتهي المعارك دائما لمصلحة هؤلاء. مازلت أشعر بشيء يحول بيني وبين فراشنا الوثير، فقد تكفر الأرض التي افترشتها منذ غيابه، بعضا من ذنوب عما سببته له وطأة غيرتي. منذ باغتني الخبر، صارت الحرب تبدو لي مثل حالة شخصية، خاصة بي وحدي، وقد صار لي مع العدو ثأر. يطالبني الجميع بأن ألقي بحزني جانبا حتى يحين يوم الثأر. مضى عام وأكثر ولم تأتني رسالة أخرى. الرسائل بين أيدي زوجات الأسرى، موشومة بأختام وسواد ومرارة، وفي عيونهن فرحة برسائل مطوية، مفتوحة، تتجاور فوقها أختام الرقابة والشئون المعنوية وغيرها، تعضدها بحياد بارد اتفاقية جنيف الدولية. كل ثلاثة أشهر أقف في طابور زوجات الأسرى أو الأرامل المحتملات ولا تأتي رسالة. ورودي اليابسة تتساقط في دوامات الحزن، فتتكسر روحي شظايا، بتروس آلة غبية اسمها الحرب.
بعد قراءة الرسالة لم أستطع أن أقف في مكاني المعهود كزوجة محبة، وانتابتني حالة غريبة، ربما أزاحت أشباح الغيرة وشجاراتنا معا، ورنين التليفون الذي تغافلني أمه وتوصل سلكه حتى تستطيع الاطمئنان علي، يؤكد صبر الطالب ـ أقصد الطالبة ـ على الرغبة في إيجاد رد عاجل. كانت امرأة ذات صوت ناعس، سألتني عنه في شوق ولهفة فأكدت لها أنه مسافر. كررت السؤال واللهفة ورغبتها في مزيد من التفاصيل، غير أن صبري نفد سريعا فأغلقت الخط مسرعة. من ثنايا الصوت تستطيع أن تجر خيوطا للشوق وإحساسا عارما بالفقد. من تلك يا "فارس" التي تتحرق شوقا ولهفة عليك؟ ينتابني إحساس غامض ومبهم فأفتح الدولاب، وأفتش في جيوب ثيابه، ربما وجدت شيئا يؤكد شكي وريبتي، غير أنني سرعان ما أغلقت الدولاب وقد صفعتني ثيابه الرسمية، فرحت أصوب عيني باتجاه باب البيت ونوافذه، خشية من عيون الأهل والجيران. يحاصرني الفراش الوثير بصرامة الرغبة في الدفء، وبرودة الليلة تدعوني لمنازلة نفسية أتوسم فض اشتباكها سريعا.
وجوه أمي وأمه وأختى وأخته تنظر إلي، عبر شحوب ضوء الحجرة. أغلبهن يعلمن جيدا شجاراتنا التي كانت تأتي بالبعيد والقريب من الأهل والجيران، غير أنني باعدت بيني وبين الفراش سريعا حين بدا لي مثل شوك. ربما جعلني فراش الأرض أكثر قدرة على ترتيب صورة حياتنا معا، تلك التي تشظت وتكسرت وتفتتت في داخلي. وربما كنت أسعى في محاولات تعسة أن أجد صيغة للتصالح مع نفسي، علها تقول لي إن الحياة جد ممكنة، إلى حين يخلص "فارس" نفسه من بين خيوط العنكبوت، أظنني أراه هناك مثل عصفور صامد، مازال في قبضة صياده، يرقب الفرصة السانحة ليحلق فوق الرءوس ويطير بعيدا ليلامس السحب، وهل يفرط العنكبوت في غنائمه. ليت "فارس" يفعلها سريعا ويهرب ليحسم بنفسه كل الأسئلة التي تدق في رأسي مثل أجراس الخطر. تذكرت كيف كانت ليالينا تطول مرة بالشجار ومرة بالجدل حول أتفه الأمور، ومرات وأنا أتحول إلى طفلة بعض الوقت، ثم تلميذة لوقت آخر، ثم زوجة مشاكسة، تغضب لأتفه الأسباب. كان يستثير أعصابي كلما ذكر أمامي اسم امرأة أخرى، فأبدو وكأنني مهددة من كل النساء اللائي يعرفهن، بمن فيهن زوجة البواب التي تأتيه بعلبة سجائر وتلقي عليه بتحية الصباح وتمسح زجاج سيارته. كنت أشعر بفقدان الثقة في أنه يحبني وحدي، دون أن يكون ذلك مصحوبا بنساء أخريات. لم أشعر بأي تعاطف تجاه أي امرأة عرفته بمن في ذلك أمه وأخته. بعد أيام رفعت خط التليفون، وعطلت جرس الباب وألقيت بستائر سميكة داكنة على نوافذ وشرفات البيت عدا واحدة. أراقب في الليل تلك الشجرة التي أرى في ساقها اعوجاجا، وفي أغصانها انحرافا وفي قاعدتها نخرا، وأفكر أنه ربما كان ذلك بفعل الطيور والحشرات. كلما نظرت لتلك الشجرة أدرك على نحو ما، ما عانته تلك الشجرة من مصادمات الرياح والصواعق. لا أرغب في أن يشاطرني أحد تعاستي، غير أن شيئا ما يطالبني بمطلق الأمل وأنا أتحسس فراش الأرض. هذا الشعور الذي يظل يرفرف بين جوانحي لفترة ليست طويلة مثل أعلام الوطن، يظل مثل صفحة نهر رائق سرعان ما يعكره رنين الجرس، الذي تتبعه يد خفيه لتدفع برسالة من أسفل الباب. حين أقرؤها تفور الدماء في رأسي وأنتفض إلى السرير أجلس وأقرأ الرسالة مرة ثانية.. من ذلك أو تلك التي تحرص على تكدير حتى الذكرى التي أقتات عليها لحين عودته? عاودتني مرارة الشعور القديم بأنني قطعة أثاث يتركها في البيت ويمضي ثم يعود ليجدها. يجدها كما هي بنفس اللمعان أو ذرات الغبار، ثم تتوالى مهاترات الأيام تغزو رأسي مثل صفارة الغارة. كان كل شيء يبدأ بدردشة، مجرد دردشة تنتهي بأن يتصاعدالشجار الذي يعقبه صمت يتطاير مثل الأوراق في الهواء، وكان الوقت يمضي ثقيلا، وحين أشم رائحة بارفان حريمي، لا تنقضي الليلة وقد تحولت الأوراق إلى حجر وصخر، وتتوالى الأيام، تباعد فيما بيننا نظرات الشك والريبة، وكان شعوري بالانتصار والزهو لحالة الشك المزمنة التي تلبستني منذ زواجنا، بأنني ضبطته متلبسا، وأنه ليس ثمة وهم أتعاطاه كل ليلة مع قرص المنوم كما كان يقول، كلما عاد متأخرا أو قرر السفر فجأة. ذلك الوهم الذي يدخلني في مسارات شديدة التعقيد والعتمة، فأدرك على نحو ما أن الخريطة التي بدأنا بها حياتنا معا ضاعت معالمها، ولا نستطيع أن نتكاشف أو نتصارح إذا ما قابلنا شيء مفزع، ثم نتوه كل بطريقته. هو في الإفراط في الغياب، وأنا في دوامات الوهم. ولا يتلو ذلك لحظة أقبض فيها على الحقيقة، التي أؤكد له دائما أنني مالكتها الوحيدة وكأنني قابضة على الجمر.
عدت إلى الأرض ومضى وقت طويل وفراشنا الوثير يراوغني من آن لآخر، فأفكر في أن أنادي زوجة بواب العمارة لتفك معي السرير ونصعد به لنلقيه فوق السطح كأثاث فائض عن الحاجة. مضى وقت أطول ولم تأتني رسالة من "فارس" تبعث في نفسي بعض الطمأنينة. أخبرتني أمه أن المسألة قد تطول وأن الشتاء هذا العام قاس للغاية، كما طالبتني بضرورة إحداث بعض التغييرات في حياتي، منها معاودة زيارة أختي الصغرى أو الكبرى والعودة إلى العمل، ربما ساهم ذلك في تبديد كآبة المرحلة، طمأنتني أمي وأختي وابنة خالتي التي أهدتني بعض الكتب والمجلات في محاولة للتخفيف من وطأة الأيام. كل المجلات تزخر بوجوه نسائية جميلة. آلاف النساء في خيالي جميلات، رقيقات، أنيقات، لا أرى خدوشهن حتى تحت الضوء الغزير، ولا أدري لماذا يكبر بداخلي ذلك المجهر الذي أرى من خلاله خدوش نفسي وجروح روحي وتشوهاتها. تراودني من جديد فكرة ترك الأرض للبرد والدخول في دفء الفراش الوثير. تحت الضوء الخافت أرى التهاويم والهلاوس، وأشباح القلق تكبر وتتعاظم، غير أنها تتضاءل شيئا فشيئا وأنا أتخيل وجهه وهو يقترب، مانحا روحه ووقته وماله لإرضائي.
جاءتني رسالة أخرى بعد ثلاثة شهور عبر الصليب الأحمر، لم تحو سوى كلمات رسمية، مثل بيانات البطاقة الشخصية، بدا أنه دخل في طور آخر، ونفسي تستشعر قتامة الأحداث هناك عبر ذلك الغموض الوحشي الذي يكتنف الرسالة. صورته الجميلة على الجدار، يعوزها إطار مذهب. كان هوسي بنفسي مثل قدر غير مفهوم، يلعب ألعابه البهلوانية من أجل إفساد حياتي معه. نبع التفاهة وثراء القسوة نضب تماما هذه الأيام، وترسب على جدرانه غرين الوحدة وأعشاب المرارة. أستطيع الآن أن أدرك سر احترامي وإجلالي له، وقد نضحت في نفسي مشاعر الندم والأسف. فتحت الراديو على جميع المحطات العالمية، بحثت بين وضوحها وتشوشها عن شيء يطمئنني دون جدوى. غير أن شيئا ما في نفسي كان يصر على أن محاولاتهم اليومية مع مئات الأسرى لن تطول كثيرا. كل أخبار الإذاعات الدولية تحولني إلى كائن متأمل، أحاول تفادي درجات هائلة من النزيف النفسي، وفارس يمارس علي ضغط الغياب والحضور الكثيف في آن واحد. أنظر إلى صورته على الجدار، ابتسامته تبدو مثل علامة اطمئنان، وعيناه تشبهان عيني صقر، فأتذكر حكاياته الليلية عن مغامراته وهو طالب، وحبه الأول لجارته الشقراء التي تكبره سنا، وحبه الثاني لابنة خاله، وأحلام الرمل وطبق العسل مع صوت أم كلثوم، تحت ضوء القمر.
اليأس الجليدي يدفعني دفعا إلى الفراش الوثير، غير أن شوكا كالإبر يجرني جرا لوادي الذكريات، كان إذا ما أبدى رغبة في زيارة شارعهم القديم، وبيتهم الأول، وقد فاحت في أنفه رائحة الذكريات والحنين إلى الأطلال القديمة، كنت أرافقه إلى هناك، كما كان يرافقني إلى بيتنا القديم، والحارات والأزقة التي شهدت خطواتي الأولى إلى المراجيح وبائع العسلية وطفولة الأشياء. كنا نمضي وقتا ممتعا، وأنا أرافقه صمته النبيـل، وتأمل الأشياء والأماكن، التي لم تعد كما كانت. ثم تروح السكرة وتأتي الفكرة. كانت أمي تطالبني بمزيد من الصبر، حتى تفجرت الوساوس والظنون وحاصرتني مع تأخيره، وسفره المباغت وذلك الغموض الذي راح يكتنف كل تصرفاته. كان سريري الذي هجرته مرة أخرى يرسل ضحكاته ساخرا مني، ويصفني بالعته لأنني أعذب نفسي، وقد صرت مجرد جلادة لها. غير أن صورته على الجدار، وابتسامته التي تفتح بابا للجنة، مازالت تبدو مثل علامة اطمئنان. دق جرس التليفون وحين رفعت السماعة لم أجد أحدا على الجانب الآخر، وربما كان هناك أحد يحصى أنفاسي ويحسب غضبي وتوتري وأنا أزعق في السماعة دون جدوى.. آلو.. آلو.. مائة ومائتان والخط على الجانب الآخر مفتوح.. أستطيع أن أجزم بذلك وأن أحصي أنفاس هذه الأخرى وصمتها، الذي راح ينخر في روحي ليمس القاع، ولم يمض وقت حتى صار الفراش الوثير يلاحقني بضحكات السخرية والاستخفاف، غير أنني وفي هذه المرة رحت أستجمع كل صبري وشفقـتي وحزني وقـوتي لأنادي زوجة البواب ونفك السرير ونلقي به فوق السطح.
نعمات البحيري
اغسطس 2000
من تلك الشقراء التي حدثتك على قارعة الطريق؟ ومن صاحبة الصوت الحريري الدافق الذي داهمني في التليفون؟ ومن السمراء التي..؟ ومن فارهة الطول تلك؟ حقيقة كان يتلقى أسئلتي بإجابات حادة، واضحة، قوية الحجة، غير أنها لا تروى ظمأ ولا تشفي غليلا. شكل الفراش الوثير في حجرتنا يعد بتبديد برودة الليلة وليال أخرى قادمة، وأنا أؤكد أن ذلك الفراش لن يلامس جسدي مادام هو هناك في بيت العنكبوت. كان "فارس" يفسر غيرتي بمهاترات غير مبررة، تعززها تصورات وهمية، ويفسرها بخوائي الروحي والعقلي، وكنت أرى تفسيراته مثل تعليمات الأطباء وارشادات كراسات المدارس التي لا يقرؤها أحد. لم أكن أستطيع مكاشفته بأسباب غيرتي، لتظل كامنة في صدري، وتتبدى بعنف واضح في أحلامي، تلك التي تنتهي دائما بكابوس، لا تنصرف أشباحه إلا حين يوقظني من نومي. كانت أحلامي وكوابيسي تلك تتكرر على شكل حواديت ليلية، مثل تلك التي كانت تحكيها جدتي عن أمنا الغولة، وامرأة السبع دواهي وشيطان البحر. تلك الحكايات التي كانت تجعلنا نهرب في النوم، فنحلم بأننا أبطال الحواديث، نمسك سيوفا، ونتعارك مع أمنا الغولة، وامرأة السبع دواهي، وشيطان البحر ثم تنتهي المعارك دائما لمصلحة هؤلاء. مازلت أشعر بشيء يحول بيني وبين فراشنا الوثير، فقد تكفر الأرض التي افترشتها منذ غيابه، بعضا من ذنوب عما سببته له وطأة غيرتي. منذ باغتني الخبر، صارت الحرب تبدو لي مثل حالة شخصية، خاصة بي وحدي، وقد صار لي مع العدو ثأر. يطالبني الجميع بأن ألقي بحزني جانبا حتى يحين يوم الثأر. مضى عام وأكثر ولم تأتني رسالة أخرى. الرسائل بين أيدي زوجات الأسرى، موشومة بأختام وسواد ومرارة، وفي عيونهن فرحة برسائل مطوية، مفتوحة، تتجاور فوقها أختام الرقابة والشئون المعنوية وغيرها، تعضدها بحياد بارد اتفاقية جنيف الدولية. كل ثلاثة أشهر أقف في طابور زوجات الأسرى أو الأرامل المحتملات ولا تأتي رسالة. ورودي اليابسة تتساقط في دوامات الحزن، فتتكسر روحي شظايا، بتروس آلة غبية اسمها الحرب.
بعد قراءة الرسالة لم أستطع أن أقف في مكاني المعهود كزوجة محبة، وانتابتني حالة غريبة، ربما أزاحت أشباح الغيرة وشجاراتنا معا، ورنين التليفون الذي تغافلني أمه وتوصل سلكه حتى تستطيع الاطمئنان علي، يؤكد صبر الطالب ـ أقصد الطالبة ـ على الرغبة في إيجاد رد عاجل. كانت امرأة ذات صوت ناعس، سألتني عنه في شوق ولهفة فأكدت لها أنه مسافر. كررت السؤال واللهفة ورغبتها في مزيد من التفاصيل، غير أن صبري نفد سريعا فأغلقت الخط مسرعة. من ثنايا الصوت تستطيع أن تجر خيوطا للشوق وإحساسا عارما بالفقد. من تلك يا "فارس" التي تتحرق شوقا ولهفة عليك؟ ينتابني إحساس غامض ومبهم فأفتح الدولاب، وأفتش في جيوب ثيابه، ربما وجدت شيئا يؤكد شكي وريبتي، غير أنني سرعان ما أغلقت الدولاب وقد صفعتني ثيابه الرسمية، فرحت أصوب عيني باتجاه باب البيت ونوافذه، خشية من عيون الأهل والجيران. يحاصرني الفراش الوثير بصرامة الرغبة في الدفء، وبرودة الليلة تدعوني لمنازلة نفسية أتوسم فض اشتباكها سريعا.
وجوه أمي وأمه وأختى وأخته تنظر إلي، عبر شحوب ضوء الحجرة. أغلبهن يعلمن جيدا شجاراتنا التي كانت تأتي بالبعيد والقريب من الأهل والجيران، غير أنني باعدت بيني وبين الفراش سريعا حين بدا لي مثل شوك. ربما جعلني فراش الأرض أكثر قدرة على ترتيب صورة حياتنا معا، تلك التي تشظت وتكسرت وتفتتت في داخلي. وربما كنت أسعى في محاولات تعسة أن أجد صيغة للتصالح مع نفسي، علها تقول لي إن الحياة جد ممكنة، إلى حين يخلص "فارس" نفسه من بين خيوط العنكبوت، أظنني أراه هناك مثل عصفور صامد، مازال في قبضة صياده، يرقب الفرصة السانحة ليحلق فوق الرءوس ويطير بعيدا ليلامس السحب، وهل يفرط العنكبوت في غنائمه. ليت "فارس" يفعلها سريعا ويهرب ليحسم بنفسه كل الأسئلة التي تدق في رأسي مثل أجراس الخطر. تذكرت كيف كانت ليالينا تطول مرة بالشجار ومرة بالجدل حول أتفه الأمور، ومرات وأنا أتحول إلى طفلة بعض الوقت، ثم تلميذة لوقت آخر، ثم زوجة مشاكسة، تغضب لأتفه الأسباب. كان يستثير أعصابي كلما ذكر أمامي اسم امرأة أخرى، فأبدو وكأنني مهددة من كل النساء اللائي يعرفهن، بمن فيهن زوجة البواب التي تأتيه بعلبة سجائر وتلقي عليه بتحية الصباح وتمسح زجاج سيارته. كنت أشعر بفقدان الثقة في أنه يحبني وحدي، دون أن يكون ذلك مصحوبا بنساء أخريات. لم أشعر بأي تعاطف تجاه أي امرأة عرفته بمن في ذلك أمه وأخته. بعد أيام رفعت خط التليفون، وعطلت جرس الباب وألقيت بستائر سميكة داكنة على نوافذ وشرفات البيت عدا واحدة. أراقب في الليل تلك الشجرة التي أرى في ساقها اعوجاجا، وفي أغصانها انحرافا وفي قاعدتها نخرا، وأفكر أنه ربما كان ذلك بفعل الطيور والحشرات. كلما نظرت لتلك الشجرة أدرك على نحو ما، ما عانته تلك الشجرة من مصادمات الرياح والصواعق. لا أرغب في أن يشاطرني أحد تعاستي، غير أن شيئا ما يطالبني بمطلق الأمل وأنا أتحسس فراش الأرض. هذا الشعور الذي يظل يرفرف بين جوانحي لفترة ليست طويلة مثل أعلام الوطن، يظل مثل صفحة نهر رائق سرعان ما يعكره رنين الجرس، الذي تتبعه يد خفيه لتدفع برسالة من أسفل الباب. حين أقرؤها تفور الدماء في رأسي وأنتفض إلى السرير أجلس وأقرأ الرسالة مرة ثانية.. من ذلك أو تلك التي تحرص على تكدير حتى الذكرى التي أقتات عليها لحين عودته? عاودتني مرارة الشعور القديم بأنني قطعة أثاث يتركها في البيت ويمضي ثم يعود ليجدها. يجدها كما هي بنفس اللمعان أو ذرات الغبار، ثم تتوالى مهاترات الأيام تغزو رأسي مثل صفارة الغارة. كان كل شيء يبدأ بدردشة، مجرد دردشة تنتهي بأن يتصاعدالشجار الذي يعقبه صمت يتطاير مثل الأوراق في الهواء، وكان الوقت يمضي ثقيلا، وحين أشم رائحة بارفان حريمي، لا تنقضي الليلة وقد تحولت الأوراق إلى حجر وصخر، وتتوالى الأيام، تباعد فيما بيننا نظرات الشك والريبة، وكان شعوري بالانتصار والزهو لحالة الشك المزمنة التي تلبستني منذ زواجنا، بأنني ضبطته متلبسا، وأنه ليس ثمة وهم أتعاطاه كل ليلة مع قرص المنوم كما كان يقول، كلما عاد متأخرا أو قرر السفر فجأة. ذلك الوهم الذي يدخلني في مسارات شديدة التعقيد والعتمة، فأدرك على نحو ما أن الخريطة التي بدأنا بها حياتنا معا ضاعت معالمها، ولا نستطيع أن نتكاشف أو نتصارح إذا ما قابلنا شيء مفزع، ثم نتوه كل بطريقته. هو في الإفراط في الغياب، وأنا في دوامات الوهم. ولا يتلو ذلك لحظة أقبض فيها على الحقيقة، التي أؤكد له دائما أنني مالكتها الوحيدة وكأنني قابضة على الجمر.
عدت إلى الأرض ومضى وقت طويل وفراشنا الوثير يراوغني من آن لآخر، فأفكر في أن أنادي زوجة بواب العمارة لتفك معي السرير ونصعد به لنلقيه فوق السطح كأثاث فائض عن الحاجة. مضى وقت أطول ولم تأتني رسالة من "فارس" تبعث في نفسي بعض الطمأنينة. أخبرتني أمه أن المسألة قد تطول وأن الشتاء هذا العام قاس للغاية، كما طالبتني بضرورة إحداث بعض التغييرات في حياتي، منها معاودة زيارة أختي الصغرى أو الكبرى والعودة إلى العمل، ربما ساهم ذلك في تبديد كآبة المرحلة، طمأنتني أمي وأختي وابنة خالتي التي أهدتني بعض الكتب والمجلات في محاولة للتخفيف من وطأة الأيام. كل المجلات تزخر بوجوه نسائية جميلة. آلاف النساء في خيالي جميلات، رقيقات، أنيقات، لا أرى خدوشهن حتى تحت الضوء الغزير، ولا أدري لماذا يكبر بداخلي ذلك المجهر الذي أرى من خلاله خدوش نفسي وجروح روحي وتشوهاتها. تراودني من جديد فكرة ترك الأرض للبرد والدخول في دفء الفراش الوثير. تحت الضوء الخافت أرى التهاويم والهلاوس، وأشباح القلق تكبر وتتعاظم، غير أنها تتضاءل شيئا فشيئا وأنا أتخيل وجهه وهو يقترب، مانحا روحه ووقته وماله لإرضائي.
جاءتني رسالة أخرى بعد ثلاثة شهور عبر الصليب الأحمر، لم تحو سوى كلمات رسمية، مثل بيانات البطاقة الشخصية، بدا أنه دخل في طور آخر، ونفسي تستشعر قتامة الأحداث هناك عبر ذلك الغموض الوحشي الذي يكتنف الرسالة. صورته الجميلة على الجدار، يعوزها إطار مذهب. كان هوسي بنفسي مثل قدر غير مفهوم، يلعب ألعابه البهلوانية من أجل إفساد حياتي معه. نبع التفاهة وثراء القسوة نضب تماما هذه الأيام، وترسب على جدرانه غرين الوحدة وأعشاب المرارة. أستطيع الآن أن أدرك سر احترامي وإجلالي له، وقد نضحت في نفسي مشاعر الندم والأسف. فتحت الراديو على جميع المحطات العالمية، بحثت بين وضوحها وتشوشها عن شيء يطمئنني دون جدوى. غير أن شيئا ما في نفسي كان يصر على أن محاولاتهم اليومية مع مئات الأسرى لن تطول كثيرا. كل أخبار الإذاعات الدولية تحولني إلى كائن متأمل، أحاول تفادي درجات هائلة من النزيف النفسي، وفارس يمارس علي ضغط الغياب والحضور الكثيف في آن واحد. أنظر إلى صورته على الجدار، ابتسامته تبدو مثل علامة اطمئنان، وعيناه تشبهان عيني صقر، فأتذكر حكاياته الليلية عن مغامراته وهو طالب، وحبه الأول لجارته الشقراء التي تكبره سنا، وحبه الثاني لابنة خاله، وأحلام الرمل وطبق العسل مع صوت أم كلثوم، تحت ضوء القمر.
اليأس الجليدي يدفعني دفعا إلى الفراش الوثير، غير أن شوكا كالإبر يجرني جرا لوادي الذكريات، كان إذا ما أبدى رغبة في زيارة شارعهم القديم، وبيتهم الأول، وقد فاحت في أنفه رائحة الذكريات والحنين إلى الأطلال القديمة، كنت أرافقه إلى هناك، كما كان يرافقني إلى بيتنا القديم، والحارات والأزقة التي شهدت خطواتي الأولى إلى المراجيح وبائع العسلية وطفولة الأشياء. كنا نمضي وقتا ممتعا، وأنا أرافقه صمته النبيـل، وتأمل الأشياء والأماكن، التي لم تعد كما كانت. ثم تروح السكرة وتأتي الفكرة. كانت أمي تطالبني بمزيد من الصبر، حتى تفجرت الوساوس والظنون وحاصرتني مع تأخيره، وسفره المباغت وذلك الغموض الذي راح يكتنف كل تصرفاته. كان سريري الذي هجرته مرة أخرى يرسل ضحكاته ساخرا مني، ويصفني بالعته لأنني أعذب نفسي، وقد صرت مجرد جلادة لها. غير أن صورته على الجدار، وابتسامته التي تفتح بابا للجنة، مازالت تبدو مثل علامة اطمئنان. دق جرس التليفون وحين رفعت السماعة لم أجد أحدا على الجانب الآخر، وربما كان هناك أحد يحصى أنفاسي ويحسب غضبي وتوتري وأنا أزعق في السماعة دون جدوى.. آلو.. آلو.. مائة ومائتان والخط على الجانب الآخر مفتوح.. أستطيع أن أجزم بذلك وأن أحصي أنفاس هذه الأخرى وصمتها، الذي راح ينخر في روحي ليمس القاع، ولم يمض وقت حتى صار الفراش الوثير يلاحقني بضحكات السخرية والاستخفاف، غير أنني وفي هذه المرة رحت أستجمع كل صبري وشفقـتي وحزني وقـوتي لأنادي زوجة البواب ونفك السرير ونلقي به فوق السطح.
نعمات البحيري
اغسطس 2000