تقديم الكتاب
عبدالله بن المقفع من أهمّ رجال الارتباط الثقافي بين الإيرانيين والعرب في العصر العباسي، أتقن العربية والفارسية، وخدم في دواوين الأمويين، ثم أسلم في العصر العباسي، وتعاون مع الحكام العباسيين، وقتله المنصور بتهمة شخصية سياسية.
كان صديقاً لعبد الحميد الكاتب المحسوب على الأمويين، حتى إن عبدالحميد لم يجد ملجأ يلوذ به بعد اندلاع الثورة العباسية أفضل من بيت صديقه ابن المقفع الوفي، الذي آثر تسليم نفسه للشرطة بدلاً من عبدالحميد وهو يعلم مافي هذا من موت محتّم، لكنّ صديقه عبدالحميد خرج من بيته وعرّف بنفسه.
عاش ابن المقفع في عصر أُريد فيه للناس أن يتخلّوا عن إرادتهم وعقلهم تحت شعار الاستسلام للقضاء والقدر، وأن ينظروا إلى الحاكم بأنه مفروض الطاعة، يحكم كيف يشاء، لا يحقّ لأحد أن يدلي برأيه في الحكم كيف يكون، وكيف ينبغي أن يكون الحاكم. أُريد للناس أن ينشغلوا بالأمور اليومية الصغيرة ويتخلّوا عن الأهداف الكبيرة، وأن ينكفئ الناس على أنفسهم وهمومهم الشخصيّة، ويستوحشوا من العلاقات الاجتماعية، وهذا هو شأن كل مجتمع يسود فيه الإرهاب والطغيان.
في مثل هذا المجتمع نهض ابن المقفع بثورة فكريّة كان لها دورها الهام في نهوض حركة العقلية الإسلامية من كبوتها، والنفسية الإسلامية المتحركة من هزيمتها، وسخّر طاقاته الخلاّقة وثقافته المزدوجة وعبقريته الأدبية لتحقيق أهدافه. ولعلّ هذه الثورة هي التي أدّت إلى قتله.
ولأخلاقه الشخصية دور في نجاح مهمّته، فقد كان سخيّاً كريماً محسناً إلى أصحابه، كما كان اجتماعياً يغشى مجالس الأصدقاء لا يحسدهم ولايحمل على أحد منهم ضغينة. وقد مرّ بنا وفاؤه تجاه صديقه عبدالحميد.
ومن ثم فقد اتُّهم ابن المقفع بالزندقة والشعوبية وكره العرب، ولادليل على ذلك، بل تدل الوثائق على حبّه للعرب، وعلى أنه - كما يقول الأستاذ محمد كرد علي - صحيح الإيمان محباً للإسلام.
جزى الله الأستاذ الدكتور حسين علي جمعه خيراً فقد وجدته مهتمّاً أشد الاهتمام بالتواصل العربي الفارسي، وبرجال هذا التواصل. وهذا الذي كتبه عن ابن المقفع هو مظهر من مظاهر هذا الاهتمام.
نسأله سبحانه أن يوفق الأستاذ الباحث لمزيد من هذا الجهد العلمي الذي نحن بأمس الحاجة إليه لإثراء مشروعنا الحضاري المستقبلي. ونتقدم إليه بجزيل الشكر أن تفضل بالموافقة على طباعة كتابه ضمن سلسلة «كتاب الثقافة الإسلامية».
د. محمد علي آذرشب
لقيت شخصية عبد الله بن المقفع وفكره ونثره عناية القدماء والمحدثين؛ ووقف أكثرهم صفين متقابلين فـي تهمة الزندقة التي وجهت إليه؛ منهم من اتهمه بها وأثبتها عليه مع التعصب لبني بجدته من الفرس؛ ومنهم من ظل على شكه فـي تلك التهمة، لكنه وصفه برقة الدين…. وندر أن وجدنا دارساً برأه من أي منهما…. على وجود آخرين لم يتعرضوا لهذه القضية برمتها. وعلى الرغم من ذلك فقد رأيناهم جميعاً يتفقون على أنه كان ثاني اثنين مع عبد الحميد بن يحيى الكاتب؛ أستاذه ومعاصره؛ تركا بصمة عظيمة فـي النثر العربي فـي زمن صعب؛ زمن بدايات النثر الفني…. إذ شكلا فـي مرحلة الريادة هذه مدرسة فنية أدبية فـي الكتابة أخذ الناشئة من الكتاب يتتلمذون على يديها؛ فضلاً عن أثرهما فـي كل من جاء بعدهما من الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا وأبي هلال العسكري؛ وابن عبد ربه؛ وقدامة بن جعفر؛ وابن رشيق والثعالبي…. ولكنهم جميعاً أغفلوا ماله من شعر وكأنهم رأوا فـي نثره شخصيته وعبقريته المتميزة فـي الدعوة إلى الإصلاح، وفـي أساليبه…
وتميز ابن المقفع من عبد الحميد بأن بريقه طفق يلمع فـي وقت اختفى عبد الحميد من مسرح الأحداث حين أخذه أبو العباس السفاح وقدَّمه هدية إلى عبد الجبار؛ لأنه كان كاتباً لآخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد…. واستطاع ابن المقفع أن يتحمل مسؤولية صناعة الكتابة بعد أستاذه ليصبح - بجدارة - إحدى العبقريات الأدبية فـي عالم العرب والإسلام. فهو لم يخلّف لنا - فقط - جملة من الآثار والمصنفات البديعة التي شهد الناس بتنوعها، وحسن تصنيفها…. وإنما استطاع أن يرتقي بأساليب العربية؛ وأن يرقق الكثير منها؛ ومن ثم زاد عليها عدداً آخر لم تعرفه العربية قبله ….
ومثلما كانت شخصيته، ولا سيما إسلامه؛ مدار حوار طويل بين الأدباء والدارسين حتى الآن كانت آثاره مركز نقاش مستفيض فـي كونها تؤيد هذا الطرف أو ذاك …
ويبدو لي أن كثرتهم الكاثرة لم يعنوا كثيراً بأن ابن المقفع قد عاش فـي مرحلة انتقال سياسي عظيمة الفتن والأحداث بانتقال الخلافة إلى بني العباس…. ولم يلحظوا - أيضاً - الإرباك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي كان يعصف بالناس…. ومن ثم لم يلتفتوا إلى أنه يعيش بين حضارتين فارسية قديمة لم يبق منها فـي الأذهان إلا صورة النظم الإدارية التي أبدعها ملوك فارس…. وعربية إسلامية ناهضة يشارك فيه العنصر الفارسي وغيره من أبناء الدول المفتوحة والعنصر العربي الذي حمل على عاتقه مهمة الفتح وإبلاغ رسالة الإسلام إلى كل إنسان فـي نواحيها…. وبخاصة أن لغة القرآن صارت اللسان الجامع لذلك كله؛ فضلاً عن الدين….
وفـي صميم هذا المناخ كان ابن المقفع الطفل يعيش ويتنفس وهو لا يزال على دين آبائه؛ إذ لم يسلم أبوه…. الذي عمل فـي دواوين الدولة للحجاج بن يوسف الثقفـي والي العراق…. وأخذ ينشئ ابنه على صناعة الكتابة….
هكذا أخذت مدارك الفتى تتفتح وفـي عقله ثقافة فارس يحملها بين جوانحه؛ واعتقاد بدين المانوية دين آبائه…. ومن ثم يرى الإسلام بكل مبادئه الخلقية السامية يرفرف بظله ماداً نوره فـي الآفاق…. ويرى المصنفات العربية هنا وهناك فـي الشعر واللغة والفقه والتفسير والحديث …. لكنه يشاهد فـي آن معاً حالة من الفساد والفوضى تدب فـي أوصال الدولة…. والمجتمع…. فالأمة التي ينبغي أن تتقدم وترتقي كانت تتراجع…. وتتمزق إلى شيع ومشارب فكرية واجتماعية ومذهبية وعرقية…. فالعصبيات عادت تطل برأسها لتنخر فـي عضد الأمة التي وحدها الإسلام…
لهذا كله أخذ الفتى يتطلع إلى حركة فـي الإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني والخلقي … ومن ثم رغب رغبةً شديدةً فـي أن يثبت مكانة له بين الكتاب فـي دواوين الولاة؛ إذ أضحى للكاتب منزلة خاصة لا يضاهيه فيها أعظم الناس …؛ فاندفع مع هذا الطموح الجارف واندمج بلغة القرآن الكريم وثقافته حتى حذقها، ومن ثم حذق الفارسية القديمة التي كادت تندثر، إذ لا يتقنها من الفرس إلا العدد النادر …. ورأى أن خير ما يحقق مراميه إنما هو ترجمته لما بين يديه من آثار فارسية قديمة؛ باعتباره - وهو الفتى الناشئ - لا يتقن إلا الفارسية والعربية….
ونرجح فـي هذا المقام أن ابن المقفع بما امتلكه من قدرات عقلية خارقة - وقد تسلح بمعارف شتى ومنهج سديد - راودته فكرة إعادة كتابة التاريخ؛ ولمّا لم يتقن من اللغات إلا العربية والفارسية فإنه مدَّ يديه بقوة إلى خزانة الثقافة الفارسية ليبدأ بترجمة أول كتاب يتحدث عن بداية الخلق ونشوئه فكان الكتاب المشهور (خداينمك) فترجمه أولاً - وترجمته نسخة من ثماني نُسخ اجتمعت بين يدي حمزة الأصفهاني - كما قال - لتأليف كتابه (تاريخ سني ملوك الأرض) - وثانياً ترجم (الآيين فـي سير الملوك) ثم توالت سلسلة الترجمة …. حتى قدّم للبشرية كتاب (كليلة ودمنة) الهندي الأصل المترجم إلى الفارسية الفهلوية القديمة؛ والتي ترجم عنها ابن المقفع الكتاب….
ولمّا اتجه هذا الاتجاه كان يدرك أن المكتبة العربية لا تملك من هذه المصنّفات التاريخية شيئاً …. لذلك اتجه إلى باب لا يعرفه غيره وفتحه بقوة …. وحينما كان يفعل ذلك كان يعيش بين حضارتين؛ حضارة فارسية قديمة وحضارة عربية إسلامية ناهضة فقدّم من الأولى إلى الثانية ما يراه مفيداً لها؛ فحقق جسر التواصل الحضاري الثقافـي بينهما، فـي الوقت الذي أصبح جسر اتّصال حيوي فعّال بين القديم والجديد…. فسبق الأمم إلى ما تصبو إليه اليوم من حوار حضاري شريف.
ولهذا كان بحثنا بعنوان (ابن المقفع بين حضارتين)؛ ومن هنا تكونت رؤيتنا لقراءة شخصية هذا الرجل وآثاره ولا سيما أدبه / نثراً وشعراً / قراءة فكرية نقدية معاصرة، وقراءة أدبية جديدة تضعنا عند عتبات فنونه وموضوعاته وأساليبه التعبيرية بخصائصها المميزة.
ونحن إذ نقبل على ذلك كله نرجو أن تكون قراءتنا قراءة موضوعية نزيهة؛ ومحايدة للوقوف عند المفاصل الأساسية لهذه العبقرية الفذة فـي تاريخ أمتنا بعد أن مزقتها الأهواء، وتناوشتها الأقلام؛ فشوّهت جمال ملامحها؛ حين اتهمتها مرة بالزندقة، ومرة أخرى بالشعوبية والعصبية للفرس…. وجعلتها ترتكس عقلياً - وهي التي اعتُرف لها بالعقل والدراية - إلى المذاهب القديمة للفرس كالمانوية بعد أن تزينت بشفافية الدين الحنيف، وانقادت له طواعية دون إكراه من أحد؛ قريباً كان أم بعيداً؛ والياً أم خليفةً…. صديقاً أم عدواً…. وسيقت الأباطيل فـي هذا كله ليشاع بين الناس حتى اليوم أنه زنديق متعصب لفارس…. وهو أبعد عن ذلك كله.
وإذ كنا نعيد قراءة هذه العبقرية الفكرية الإصلاحية؛ وهذه الشخصية الأدبية المبدعة لنستشرف آفاق العقل الحر الواعي؛ وآيات الإبداع اللغوي والفني فإننا نثمن كل كلمة قيلت فـي هذا المجال…. وما أكثرها…. نثمن كلمة مناوئيه قبل مناصريه لأنها علمتنا أموراً عديدة ما كنا لنتعرف إليها لولا جهودهم العظيمة؛ ونخص بالثناء منهم الباحثين المحدثين الذين أخذتهم العزة القعساء للعروبة والإسلام….
وحينما كنت أحد العروبيين المسلمين فقد دفعني المنهج العلمي الموضوعي النزيه لتبني رؤية شمولية لتناول هذه الشخصية وإعادة النظر فيها فـي إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات؛ والذي تبناه الإسلام قبل أي عقيدة أخرى …. ولهذا تبنيت المنهج التكاملي المستند إلى التحليل الهادئ لكل قضية تمثل بين يدينا؛ فكان المنهج التاريخي يتقدم على غيره حينما يكون له المقام؛ ويتراجع أمام المنهج الفلسفـي الفكري المنطقي حينما يتطلبه موضوع ما…. وكلاهما يتراجعان أمام المنهج اللغوي التحليلي عندما يمثل الأدب شامخاً لبيان خصائصه…. وكذا المنهج النفسي والاجتماعي…. وعلى الرغم من تغليب منهج على آخر فإن المناهج تتكامل فيما بينها للوصول إلى الحقيقة؛ ولا شيء غيرها.
وبناءً على هذا المنهج توزعت الدارسة على مدخل قصير وفصول أربعة كان الفصل الرابع أكبرها وأشملها ….
وتناول المدخل حالة الأمة الإسلامية فـي إطار امتزاج أبنائها الثقافـي الحضاري الذي لا يعترف بعصبية لعرق أو جنس أو لون …. وبيّن ريادة أبناء العرب وفارس لهذه الحالة الحيوية المتقدمة فـي التفاعل على صعد شتى فـي الفقه والحديث، والفلسفة والدين، واللغة والأدب وفق مفهوم العدل والمساواة الدينية؛ لأن الدين الإسلامي يحصن جميع أبناء الأمة ويرعاهم بمبادئه السامية، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى.
ثم تعلق الفصل الأول (حياته وصفاته) بكل ما يعرفنا بهذه الشخصية المتميزة اسماً ونسباً وولادة ونشأة، وصفات ورثها واكتسبها؛ فكان المثال الأرحب للشاب العاقل الصادق الطامح إلى بناء الأمة بناء سليماً، منطلقاً فيه من تصحيح سلوك الفرد أياً كانت منزلته…. يدعوه أبداً إلى الفضائل الكبرى والتمسك بالخلق الكريم؛ وهو الخلق الذي دفعه - مع عقله الحصيف - إلى الإسلام فحسن إسلامه؛ وأتقن عمله فـي صناعة الكتابة؛ وأخلص إخلاصاً لا نظير له لمهنة التأديب؛ وصدق عهده وثبت عليه مع أولياء نعمته من آل علي بن العباس أعمام الخليفة ابي جعفر المنصور فدفع رأسه ثمناً لذلك كله…. حين تحول به الحال السياسي ووضعه فـي خندقهم المقابل لخندق الخليفة، فتخلص منهم ومنه.
ثم جاء الفصل الثاني (آثاره وأبعادها الفكرية) الذي بدأ بتمهيد أبرز تأثر الأديب اللاحق بالسابق؛ فنقل عنه حرفياً جملة من الأحكام تتعلق بآثاره.. دون أن يفيد من قراءة التاريخ نفسه ومن هدفه.. فراح التاريخ يعيد نفسه على يدي اللاحق…. ومن ثم كشف عن تعاظم مهمة الكاتب فـي بداية العصر العباسي وأثره فـي الحياة الخاصة والعامة.
ومن بعدُ؛ عالج الفصل آثاره المنسوبة إليه والمفقودة مثل (البنكش والسكيكين؛ وأنالوطيقا وإيساغوجي)؛ ثم آثاره المفقودة وهي له مثل (خداي نامه، والآيين؛ والتاج، ومزدك، ورسالة تنسر، والدرة اليتيمة... )؛ ثم آثاره الموجودة مثل (كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة.. ) وحلّل كل أثر على حدة من جهات عدة فـي قراءة فكرية سياسية واجتماعية وأدبية؛ ونفسية؛ تعتمد العقل والنقل.
أما الفصل الثالث فعنوانه (براءته من الزندقة) وكشف المدخل فيه عن الحرية الواعية للعاقل الذي يفتح نوافذه على القديم دون أن يبقى عنده، بمثل ما يفتحها على الجديد دون أن يغدو أسيراً له… وقد صان الإسلام حرية الاعتقاد، واحترمه… ثم التزم الخلفاء بمبدأ الدين الحنيف فأطلقوا للناس حريتهم الفكرية والاجتماعية والدينية، مما أدى إلى اختلاط الثقافات التي انتهت إلى اختلاف المفاهيم… وهذا فرض علينا التوقف عند مفهوم الزندقة التي اتجهت إلى أربعة مفاهيم؛ باعتبار أن اللفظ والدلالة ليس مما فـي العربية أصلاً. فالتابعُ لكتاب (الزَنْد) زنديقٌ؛ وكذا من يتبع ديناً بعينه، كالمانوية؛ وربما أطلق حتى شاع على كل من يتبع ديناً مجوسياً…. ثم توسع المفهوم ليُنْعت كل ماجن متظرف بالزندقة…. سواء كان مجونه إلحاداً وشكّاً أم كان تملحاً واستهتاراً وإقبالاً على متع الدنيا. ثم عولجت الأسباب التي دعت الناس والباحثين إلى اتهامه بالزندقة ومناقشتها سبباً سبباً كاتهامه بالحنين إلى المانوية على إسلامه، واتهام معاصريه له بها، واتهام المهدي لآثاره بأنها الأصل فيها؛ فضلاً عن آثاره التي فسرت على أنها دعوة للمانوية والعصبية الفارسية، واجتماعه بالمجان والزنادقة الذي جعل الناس يصدّقون التهمة عليه.. وصدق فيه القول: من حام حول الحمى وقع فيه.
أخيراً تقدم الفصل الرابع (ابن المقفع أديباً)، وعرض مدخله للأسباب التي جعلته يحظى باحترام أعدائه ومناصريه فـي نثره؛ ثم بين مكانته لدى القدماء والمحدثين وأثر كتبه فيهم؛ وكيف غدت مكانته عالمية… وناقش مطولاً فنونه وموضوعاته، ماجدّد فيها وما طوّره، وقسمت الموضوعات إلى عامة وخاصة؛ فمن العامةِ الموضوعات الدينية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والعلمية والسياسية؛ بما فيها الدعوة إلى الاستشارة… ومن الخاصةِ موضوعُ المرأة والحرص على الإخوان (الصداقة) والانتفاع بحسن الاستماع والحفظ؛ ومفهوم العمل المنظم… ثم بحث الخصائص الشكلية لنثره بدءاً من البناء المعماري للنّص ومروراً بالوضوح والسهولة؛ والدقة والتلاؤم، والتوازن والتراسل؛ والتحميد والإرداف؛ والقص والترميز؛ وانتهاء بالتضمين... ليختم هذا الفصل بشاعريته: ما أودعه من الأشعار فـي أدبه، وما قاله من شعر... وعرضنا لسبب قلة شعره، علماً أنه لم تكن غايتنا الإحاطة به وتعقبه.
وكنا نثبت تعاون عدد من الأساليب البلاغية فـي صميم أسلوب رئيسي مما تقدم فيما أطلقنا عليه أسلوب التكثيف.. فبلاغة ابن المقفع ظهرت فـي حذقه لأساليب العربية حتى استحق عن جدارة صدارة البلغاء العشرة فـي زمانه، ومن ثم صارت بلاغته مضرب المثل فـي استلهام ما قاله فيها من آراء... وما اتبعه من أساليب وفـي طليعتها أسلوب الإيجاز والإطناب.
ولم يستحق - فقط - مرتبة الرئاسة فـي البلاغة؛ بل صار حكيماً من طراز رفيع مثلما كان مصلحاً اجتماعياً من نمط فريد... حمل على عاتقه هموم مجتمعه، وثقافته، وجعل قلمه كمبضع الجراح يستأصل كل فساد أينما رآه…. وغدا للكلمة قيمتها وسلطانها؛ لأنها كلمة الله فـي أرضه؛ ممثلة بالإنسان الحر الشريف القوي بعقله وقيمه وإنسانيته؛ ما دام يملك الإرادة والطموح الخلاّق.
هكذا فرض علينا المنهج العلمي أن نبدأ دائماً بمدخل يحمل الرؤية العامة؛ ثم يمضي إلى الفصل الذي يحمل الرؤية الخاصة القائمة على التحليل والاتساع فـي مناقشة كل قضية بالحجة والبرهان؛ سواء كانت الأدلة نقلية من آراء الباحثين، ومن نصوصه التي خلفها لنا آراء وأدباً... أم كانت أدلة عقلية مستقاة من نُصوصه ذاتها….
ثم إننا ذيَّلنا كل فصل بحواشيه الخاصة به؛ لتستقر الدراسة عند أهم نتائج الدراسة فالمصارد والمراجع، وفهرس المحتوى.
ولعل القارئ الكريم يلحظ شيئاً من التكرار فـي بعض الفصول؛ فيعيبه علينا؛ وتأخذه الغيرة على المنهج العلمي الدقيق... ولكنني أستميحه العذر فـي هذا التكرار لأنه كان موظفاً فـي كل مرة للقضية التي يناقشها؛ مما استدعاه فـي النصوص أو فـي الآراء… لهذا كان التكرار مقصوداً لذاته فيما ينبغي له من المناقشة والبرهان.
ويظل أي عمل غير مكتمل إلا بتعاون العقول الحرة للوصول إلى أفضل سبيل فـي الحوار والمناقشة والانفتاح على الآخر … لأن هذه العقول تنشدُ دائماً صفة الكمال؛ والكمال لله وحده؛ بديع السموات والأرض؛ والعقل البشري مركب على النقص بطبعه، ما دامت الكلمة تتجدد، والثقافة تنمو وترتقي... وليس لنا إلا أن نقول: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ولعلنا نكون قد وفقنا فـي عملنا وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى؛ والله ولي التوفيق.
دمشق الفيحاء / حرسها الله /
مساء الثلاثاء ١٤ / رمضان / ١٤٢٣هـ
الموافق ٢٠ / ١١ / ٢٠٠٢م.
حسين جمعة
محمد علي آذرشب - تقديم الكتاب
ابن المقفع بين حضارتين.
المؤلف: د. حسين علي جمعة.
ا. د. محمد علي آذرشب
استاذ في جامعة طهران
عبدالله بن المقفع من أهمّ رجال الارتباط الثقافي بين الإيرانيين والعرب في العصر العباسي، أتقن العربية والفارسية، وخدم في دواوين الأمويين، ثم أسلم في العصر العباسي، وتعاون مع الحكام العباسيين، وقتله المنصور بتهمة شخصية سياسية.
كان صديقاً لعبد الحميد الكاتب المحسوب على الأمويين، حتى إن عبدالحميد لم يجد ملجأ يلوذ به بعد اندلاع الثورة العباسية أفضل من بيت صديقه ابن المقفع الوفي، الذي آثر تسليم نفسه للشرطة بدلاً من عبدالحميد وهو يعلم مافي هذا من موت محتّم، لكنّ صديقه عبدالحميد خرج من بيته وعرّف بنفسه.
عاش ابن المقفع في عصر أُريد فيه للناس أن يتخلّوا عن إرادتهم وعقلهم تحت شعار الاستسلام للقضاء والقدر، وأن ينظروا إلى الحاكم بأنه مفروض الطاعة، يحكم كيف يشاء، لا يحقّ لأحد أن يدلي برأيه في الحكم كيف يكون، وكيف ينبغي أن يكون الحاكم. أُريد للناس أن ينشغلوا بالأمور اليومية الصغيرة ويتخلّوا عن الأهداف الكبيرة، وأن ينكفئ الناس على أنفسهم وهمومهم الشخصيّة، ويستوحشوا من العلاقات الاجتماعية، وهذا هو شأن كل مجتمع يسود فيه الإرهاب والطغيان.
في مثل هذا المجتمع نهض ابن المقفع بثورة فكريّة كان لها دورها الهام في نهوض حركة العقلية الإسلامية من كبوتها، والنفسية الإسلامية المتحركة من هزيمتها، وسخّر طاقاته الخلاّقة وثقافته المزدوجة وعبقريته الأدبية لتحقيق أهدافه. ولعلّ هذه الثورة هي التي أدّت إلى قتله.
ولأخلاقه الشخصية دور في نجاح مهمّته، فقد كان سخيّاً كريماً محسناً إلى أصحابه، كما كان اجتماعياً يغشى مجالس الأصدقاء لا يحسدهم ولايحمل على أحد منهم ضغينة. وقد مرّ بنا وفاؤه تجاه صديقه عبدالحميد.
ومن ثم فقد اتُّهم ابن المقفع بالزندقة والشعوبية وكره العرب، ولادليل على ذلك، بل تدل الوثائق على حبّه للعرب، وعلى أنه - كما يقول الأستاذ محمد كرد علي - صحيح الإيمان محباً للإسلام.
جزى الله الأستاذ الدكتور حسين علي جمعه خيراً فقد وجدته مهتمّاً أشد الاهتمام بالتواصل العربي الفارسي، وبرجال هذا التواصل. وهذا الذي كتبه عن ابن المقفع هو مظهر من مظاهر هذا الاهتمام.
نسأله سبحانه أن يوفق الأستاذ الباحث لمزيد من هذا الجهد العلمي الذي نحن بأمس الحاجة إليه لإثراء مشروعنا الحضاري المستقبلي. ونتقدم إليه بجزيل الشكر أن تفضل بالموافقة على طباعة كتابه ضمن سلسلة «كتاب الثقافة الإسلامية».
د. محمد علي آذرشب
لقيت شخصية عبد الله بن المقفع وفكره ونثره عناية القدماء والمحدثين؛ ووقف أكثرهم صفين متقابلين فـي تهمة الزندقة التي وجهت إليه؛ منهم من اتهمه بها وأثبتها عليه مع التعصب لبني بجدته من الفرس؛ ومنهم من ظل على شكه فـي تلك التهمة، لكنه وصفه برقة الدين…. وندر أن وجدنا دارساً برأه من أي منهما…. على وجود آخرين لم يتعرضوا لهذه القضية برمتها. وعلى الرغم من ذلك فقد رأيناهم جميعاً يتفقون على أنه كان ثاني اثنين مع عبد الحميد بن يحيى الكاتب؛ أستاذه ومعاصره؛ تركا بصمة عظيمة فـي النثر العربي فـي زمن صعب؛ زمن بدايات النثر الفني…. إذ شكلا فـي مرحلة الريادة هذه مدرسة فنية أدبية فـي الكتابة أخذ الناشئة من الكتاب يتتلمذون على يديها؛ فضلاً عن أثرهما فـي كل من جاء بعدهما من الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا وأبي هلال العسكري؛ وابن عبد ربه؛ وقدامة بن جعفر؛ وابن رشيق والثعالبي…. ولكنهم جميعاً أغفلوا ماله من شعر وكأنهم رأوا فـي نثره شخصيته وعبقريته المتميزة فـي الدعوة إلى الإصلاح، وفـي أساليبه…
وتميز ابن المقفع من عبد الحميد بأن بريقه طفق يلمع فـي وقت اختفى عبد الحميد من مسرح الأحداث حين أخذه أبو العباس السفاح وقدَّمه هدية إلى عبد الجبار؛ لأنه كان كاتباً لآخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد…. واستطاع ابن المقفع أن يتحمل مسؤولية صناعة الكتابة بعد أستاذه ليصبح - بجدارة - إحدى العبقريات الأدبية فـي عالم العرب والإسلام. فهو لم يخلّف لنا - فقط - جملة من الآثار والمصنفات البديعة التي شهد الناس بتنوعها، وحسن تصنيفها…. وإنما استطاع أن يرتقي بأساليب العربية؛ وأن يرقق الكثير منها؛ ومن ثم زاد عليها عدداً آخر لم تعرفه العربية قبله ….
ومثلما كانت شخصيته، ولا سيما إسلامه؛ مدار حوار طويل بين الأدباء والدارسين حتى الآن كانت آثاره مركز نقاش مستفيض فـي كونها تؤيد هذا الطرف أو ذاك …
ويبدو لي أن كثرتهم الكاثرة لم يعنوا كثيراً بأن ابن المقفع قد عاش فـي مرحلة انتقال سياسي عظيمة الفتن والأحداث بانتقال الخلافة إلى بني العباس…. ولم يلحظوا - أيضاً - الإرباك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي كان يعصف بالناس…. ومن ثم لم يلتفتوا إلى أنه يعيش بين حضارتين فارسية قديمة لم يبق منها فـي الأذهان إلا صورة النظم الإدارية التي أبدعها ملوك فارس…. وعربية إسلامية ناهضة يشارك فيه العنصر الفارسي وغيره من أبناء الدول المفتوحة والعنصر العربي الذي حمل على عاتقه مهمة الفتح وإبلاغ رسالة الإسلام إلى كل إنسان فـي نواحيها…. وبخاصة أن لغة القرآن صارت اللسان الجامع لذلك كله؛ فضلاً عن الدين….
وفـي صميم هذا المناخ كان ابن المقفع الطفل يعيش ويتنفس وهو لا يزال على دين آبائه؛ إذ لم يسلم أبوه…. الذي عمل فـي دواوين الدولة للحجاج بن يوسف الثقفـي والي العراق…. وأخذ ينشئ ابنه على صناعة الكتابة….
هكذا أخذت مدارك الفتى تتفتح وفـي عقله ثقافة فارس يحملها بين جوانحه؛ واعتقاد بدين المانوية دين آبائه…. ومن ثم يرى الإسلام بكل مبادئه الخلقية السامية يرفرف بظله ماداً نوره فـي الآفاق…. ويرى المصنفات العربية هنا وهناك فـي الشعر واللغة والفقه والتفسير والحديث …. لكنه يشاهد فـي آن معاً حالة من الفساد والفوضى تدب فـي أوصال الدولة…. والمجتمع…. فالأمة التي ينبغي أن تتقدم وترتقي كانت تتراجع…. وتتمزق إلى شيع ومشارب فكرية واجتماعية ومذهبية وعرقية…. فالعصبيات عادت تطل برأسها لتنخر فـي عضد الأمة التي وحدها الإسلام…
لهذا كله أخذ الفتى يتطلع إلى حركة فـي الإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني والخلقي … ومن ثم رغب رغبةً شديدةً فـي أن يثبت مكانة له بين الكتاب فـي دواوين الولاة؛ إذ أضحى للكاتب منزلة خاصة لا يضاهيه فيها أعظم الناس …؛ فاندفع مع هذا الطموح الجارف واندمج بلغة القرآن الكريم وثقافته حتى حذقها، ومن ثم حذق الفارسية القديمة التي كادت تندثر، إذ لا يتقنها من الفرس إلا العدد النادر …. ورأى أن خير ما يحقق مراميه إنما هو ترجمته لما بين يديه من آثار فارسية قديمة؛ باعتباره - وهو الفتى الناشئ - لا يتقن إلا الفارسية والعربية….
ونرجح فـي هذا المقام أن ابن المقفع بما امتلكه من قدرات عقلية خارقة - وقد تسلح بمعارف شتى ومنهج سديد - راودته فكرة إعادة كتابة التاريخ؛ ولمّا لم يتقن من اللغات إلا العربية والفارسية فإنه مدَّ يديه بقوة إلى خزانة الثقافة الفارسية ليبدأ بترجمة أول كتاب يتحدث عن بداية الخلق ونشوئه فكان الكتاب المشهور (خداينمك) فترجمه أولاً - وترجمته نسخة من ثماني نُسخ اجتمعت بين يدي حمزة الأصفهاني - كما قال - لتأليف كتابه (تاريخ سني ملوك الأرض) - وثانياً ترجم (الآيين فـي سير الملوك) ثم توالت سلسلة الترجمة …. حتى قدّم للبشرية كتاب (كليلة ودمنة) الهندي الأصل المترجم إلى الفارسية الفهلوية القديمة؛ والتي ترجم عنها ابن المقفع الكتاب….
ولمّا اتجه هذا الاتجاه كان يدرك أن المكتبة العربية لا تملك من هذه المصنّفات التاريخية شيئاً …. لذلك اتجه إلى باب لا يعرفه غيره وفتحه بقوة …. وحينما كان يفعل ذلك كان يعيش بين حضارتين؛ حضارة فارسية قديمة وحضارة عربية إسلامية ناهضة فقدّم من الأولى إلى الثانية ما يراه مفيداً لها؛ فحقق جسر التواصل الحضاري الثقافـي بينهما، فـي الوقت الذي أصبح جسر اتّصال حيوي فعّال بين القديم والجديد…. فسبق الأمم إلى ما تصبو إليه اليوم من حوار حضاري شريف.
ولهذا كان بحثنا بعنوان (ابن المقفع بين حضارتين)؛ ومن هنا تكونت رؤيتنا لقراءة شخصية هذا الرجل وآثاره ولا سيما أدبه / نثراً وشعراً / قراءة فكرية نقدية معاصرة، وقراءة أدبية جديدة تضعنا عند عتبات فنونه وموضوعاته وأساليبه التعبيرية بخصائصها المميزة.
ونحن إذ نقبل على ذلك كله نرجو أن تكون قراءتنا قراءة موضوعية نزيهة؛ ومحايدة للوقوف عند المفاصل الأساسية لهذه العبقرية الفذة فـي تاريخ أمتنا بعد أن مزقتها الأهواء، وتناوشتها الأقلام؛ فشوّهت جمال ملامحها؛ حين اتهمتها مرة بالزندقة، ومرة أخرى بالشعوبية والعصبية للفرس…. وجعلتها ترتكس عقلياً - وهي التي اعتُرف لها بالعقل والدراية - إلى المذاهب القديمة للفرس كالمانوية بعد أن تزينت بشفافية الدين الحنيف، وانقادت له طواعية دون إكراه من أحد؛ قريباً كان أم بعيداً؛ والياً أم خليفةً…. صديقاً أم عدواً…. وسيقت الأباطيل فـي هذا كله ليشاع بين الناس حتى اليوم أنه زنديق متعصب لفارس…. وهو أبعد عن ذلك كله.
وإذ كنا نعيد قراءة هذه العبقرية الفكرية الإصلاحية؛ وهذه الشخصية الأدبية المبدعة لنستشرف آفاق العقل الحر الواعي؛ وآيات الإبداع اللغوي والفني فإننا نثمن كل كلمة قيلت فـي هذا المجال…. وما أكثرها…. نثمن كلمة مناوئيه قبل مناصريه لأنها علمتنا أموراً عديدة ما كنا لنتعرف إليها لولا جهودهم العظيمة؛ ونخص بالثناء منهم الباحثين المحدثين الذين أخذتهم العزة القعساء للعروبة والإسلام….
وحينما كنت أحد العروبيين المسلمين فقد دفعني المنهج العلمي الموضوعي النزيه لتبني رؤية شمولية لتناول هذه الشخصية وإعادة النظر فيها فـي إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات؛ والذي تبناه الإسلام قبل أي عقيدة أخرى …. ولهذا تبنيت المنهج التكاملي المستند إلى التحليل الهادئ لكل قضية تمثل بين يدينا؛ فكان المنهج التاريخي يتقدم على غيره حينما يكون له المقام؛ ويتراجع أمام المنهج الفلسفـي الفكري المنطقي حينما يتطلبه موضوع ما…. وكلاهما يتراجعان أمام المنهج اللغوي التحليلي عندما يمثل الأدب شامخاً لبيان خصائصه…. وكذا المنهج النفسي والاجتماعي…. وعلى الرغم من تغليب منهج على آخر فإن المناهج تتكامل فيما بينها للوصول إلى الحقيقة؛ ولا شيء غيرها.
وبناءً على هذا المنهج توزعت الدارسة على مدخل قصير وفصول أربعة كان الفصل الرابع أكبرها وأشملها ….
وتناول المدخل حالة الأمة الإسلامية فـي إطار امتزاج أبنائها الثقافـي الحضاري الذي لا يعترف بعصبية لعرق أو جنس أو لون …. وبيّن ريادة أبناء العرب وفارس لهذه الحالة الحيوية المتقدمة فـي التفاعل على صعد شتى فـي الفقه والحديث، والفلسفة والدين، واللغة والأدب وفق مفهوم العدل والمساواة الدينية؛ لأن الدين الإسلامي يحصن جميع أبناء الأمة ويرعاهم بمبادئه السامية، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى.
ثم تعلق الفصل الأول (حياته وصفاته) بكل ما يعرفنا بهذه الشخصية المتميزة اسماً ونسباً وولادة ونشأة، وصفات ورثها واكتسبها؛ فكان المثال الأرحب للشاب العاقل الصادق الطامح إلى بناء الأمة بناء سليماً، منطلقاً فيه من تصحيح سلوك الفرد أياً كانت منزلته…. يدعوه أبداً إلى الفضائل الكبرى والتمسك بالخلق الكريم؛ وهو الخلق الذي دفعه - مع عقله الحصيف - إلى الإسلام فحسن إسلامه؛ وأتقن عمله فـي صناعة الكتابة؛ وأخلص إخلاصاً لا نظير له لمهنة التأديب؛ وصدق عهده وثبت عليه مع أولياء نعمته من آل علي بن العباس أعمام الخليفة ابي جعفر المنصور فدفع رأسه ثمناً لذلك كله…. حين تحول به الحال السياسي ووضعه فـي خندقهم المقابل لخندق الخليفة، فتخلص منهم ومنه.
ثم جاء الفصل الثاني (آثاره وأبعادها الفكرية) الذي بدأ بتمهيد أبرز تأثر الأديب اللاحق بالسابق؛ فنقل عنه حرفياً جملة من الأحكام تتعلق بآثاره.. دون أن يفيد من قراءة التاريخ نفسه ومن هدفه.. فراح التاريخ يعيد نفسه على يدي اللاحق…. ومن ثم كشف عن تعاظم مهمة الكاتب فـي بداية العصر العباسي وأثره فـي الحياة الخاصة والعامة.
ومن بعدُ؛ عالج الفصل آثاره المنسوبة إليه والمفقودة مثل (البنكش والسكيكين؛ وأنالوطيقا وإيساغوجي)؛ ثم آثاره المفقودة وهي له مثل (خداي نامه، والآيين؛ والتاج، ومزدك، ورسالة تنسر، والدرة اليتيمة... )؛ ثم آثاره الموجودة مثل (كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة.. ) وحلّل كل أثر على حدة من جهات عدة فـي قراءة فكرية سياسية واجتماعية وأدبية؛ ونفسية؛ تعتمد العقل والنقل.
أما الفصل الثالث فعنوانه (براءته من الزندقة) وكشف المدخل فيه عن الحرية الواعية للعاقل الذي يفتح نوافذه على القديم دون أن يبقى عنده، بمثل ما يفتحها على الجديد دون أن يغدو أسيراً له… وقد صان الإسلام حرية الاعتقاد، واحترمه… ثم التزم الخلفاء بمبدأ الدين الحنيف فأطلقوا للناس حريتهم الفكرية والاجتماعية والدينية، مما أدى إلى اختلاط الثقافات التي انتهت إلى اختلاف المفاهيم… وهذا فرض علينا التوقف عند مفهوم الزندقة التي اتجهت إلى أربعة مفاهيم؛ باعتبار أن اللفظ والدلالة ليس مما فـي العربية أصلاً. فالتابعُ لكتاب (الزَنْد) زنديقٌ؛ وكذا من يتبع ديناً بعينه، كالمانوية؛ وربما أطلق حتى شاع على كل من يتبع ديناً مجوسياً…. ثم توسع المفهوم ليُنْعت كل ماجن متظرف بالزندقة…. سواء كان مجونه إلحاداً وشكّاً أم كان تملحاً واستهتاراً وإقبالاً على متع الدنيا. ثم عولجت الأسباب التي دعت الناس والباحثين إلى اتهامه بالزندقة ومناقشتها سبباً سبباً كاتهامه بالحنين إلى المانوية على إسلامه، واتهام معاصريه له بها، واتهام المهدي لآثاره بأنها الأصل فيها؛ فضلاً عن آثاره التي فسرت على أنها دعوة للمانوية والعصبية الفارسية، واجتماعه بالمجان والزنادقة الذي جعل الناس يصدّقون التهمة عليه.. وصدق فيه القول: من حام حول الحمى وقع فيه.
أخيراً تقدم الفصل الرابع (ابن المقفع أديباً)، وعرض مدخله للأسباب التي جعلته يحظى باحترام أعدائه ومناصريه فـي نثره؛ ثم بين مكانته لدى القدماء والمحدثين وأثر كتبه فيهم؛ وكيف غدت مكانته عالمية… وناقش مطولاً فنونه وموضوعاته، ماجدّد فيها وما طوّره، وقسمت الموضوعات إلى عامة وخاصة؛ فمن العامةِ الموضوعات الدينية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية والعلمية والسياسية؛ بما فيها الدعوة إلى الاستشارة… ومن الخاصةِ موضوعُ المرأة والحرص على الإخوان (الصداقة) والانتفاع بحسن الاستماع والحفظ؛ ومفهوم العمل المنظم… ثم بحث الخصائص الشكلية لنثره بدءاً من البناء المعماري للنّص ومروراً بالوضوح والسهولة؛ والدقة والتلاؤم، والتوازن والتراسل؛ والتحميد والإرداف؛ والقص والترميز؛ وانتهاء بالتضمين... ليختم هذا الفصل بشاعريته: ما أودعه من الأشعار فـي أدبه، وما قاله من شعر... وعرضنا لسبب قلة شعره، علماً أنه لم تكن غايتنا الإحاطة به وتعقبه.
وكنا نثبت تعاون عدد من الأساليب البلاغية فـي صميم أسلوب رئيسي مما تقدم فيما أطلقنا عليه أسلوب التكثيف.. فبلاغة ابن المقفع ظهرت فـي حذقه لأساليب العربية حتى استحق عن جدارة صدارة البلغاء العشرة فـي زمانه، ومن ثم صارت بلاغته مضرب المثل فـي استلهام ما قاله فيها من آراء... وما اتبعه من أساليب وفـي طليعتها أسلوب الإيجاز والإطناب.
ولم يستحق - فقط - مرتبة الرئاسة فـي البلاغة؛ بل صار حكيماً من طراز رفيع مثلما كان مصلحاً اجتماعياً من نمط فريد... حمل على عاتقه هموم مجتمعه، وثقافته، وجعل قلمه كمبضع الجراح يستأصل كل فساد أينما رآه…. وغدا للكلمة قيمتها وسلطانها؛ لأنها كلمة الله فـي أرضه؛ ممثلة بالإنسان الحر الشريف القوي بعقله وقيمه وإنسانيته؛ ما دام يملك الإرادة والطموح الخلاّق.
هكذا فرض علينا المنهج العلمي أن نبدأ دائماً بمدخل يحمل الرؤية العامة؛ ثم يمضي إلى الفصل الذي يحمل الرؤية الخاصة القائمة على التحليل والاتساع فـي مناقشة كل قضية بالحجة والبرهان؛ سواء كانت الأدلة نقلية من آراء الباحثين، ومن نصوصه التي خلفها لنا آراء وأدباً... أم كانت أدلة عقلية مستقاة من نُصوصه ذاتها….
ثم إننا ذيَّلنا كل فصل بحواشيه الخاصة به؛ لتستقر الدراسة عند أهم نتائج الدراسة فالمصارد والمراجع، وفهرس المحتوى.
ولعل القارئ الكريم يلحظ شيئاً من التكرار فـي بعض الفصول؛ فيعيبه علينا؛ وتأخذه الغيرة على المنهج العلمي الدقيق... ولكنني أستميحه العذر فـي هذا التكرار لأنه كان موظفاً فـي كل مرة للقضية التي يناقشها؛ مما استدعاه فـي النصوص أو فـي الآراء… لهذا كان التكرار مقصوداً لذاته فيما ينبغي له من المناقشة والبرهان.
ويظل أي عمل غير مكتمل إلا بتعاون العقول الحرة للوصول إلى أفضل سبيل فـي الحوار والمناقشة والانفتاح على الآخر … لأن هذه العقول تنشدُ دائماً صفة الكمال؛ والكمال لله وحده؛ بديع السموات والأرض؛ والعقل البشري مركب على النقص بطبعه، ما دامت الكلمة تتجدد، والثقافة تنمو وترتقي... وليس لنا إلا أن نقول: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ولعلنا نكون قد وفقنا فـي عملنا وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى؛ والله ولي التوفيق.
دمشق الفيحاء / حرسها الله /
مساء الثلاثاء ١٤ / رمضان / ١٤٢٣هـ
الموافق ٢٠ / ١١ / ٢٠٠٢م.
حسين جمعة
محمد علي آذرشب - تقديم الكتاب
ابن المقفع بين حضارتين.
المؤلف: د. حسين علي جمعة.
ا. د. محمد علي آذرشب
استاذ في جامعة طهران