بانياسيس - الفضيل ود جعل - قصة قصيرة

الفضيل ود جعل - قصة قصيرة

"الفضيل انت ماك جعلي"
- ليه يا ود عشانا؟ مو انت عمي وعارف قبيلتي واصلي وفصلي؟
"اي بعرف ..الا انت جبان..من دخلت الجامعة بقيت جبان.."
الفضيل النحيل القصير سبل طاقيته حتى حاجبيه واتكأ في العنقريب على جنبه..ثم أخرج سجارة وأشعلها وقال:
- جيبي الشاي يا بت.. وما تكتري السكر.
عمه ود عشانا تهكم منه قائلا:
- حتى السكر بقيت تخاف منو..
اكفهر وجه فضيل وصاح:
- يا عمي مالك مصاقرني..فك شوطي ياخ..
ثم رمى سجارته بغضب ورقد على ظهره ؛ ووضع ساعده على وجهه مغطيا عينيه. أما عمه ود عشانا ؛ فلم يتوقف:
- الشفع طلعو المظاهرات.. والخبر جاني انت من أيام الجامعة كنت بتهرب لمن تحصل مشاكل وضرب بمبان..شلتا حالنا...
- يا عمي ياخ انا لا بطلع مظاهرات ولا عندي مع الحكومة دي شغلة.
غضب عمه وقال رافعا يديه المكتنزتين:
- كيف ما عندك شغلة..انت دحين من ما اتخرجت ليك اربعة سنين مالاقي شغل وبقيت سايق ليك رقشة ..وحتى الرقشة ما بتاعتك... حتعرس متين انت وتلد وتفتح بيت ..
ودون ان يفتح عينيه أجابه بحسم:
- ما بدور أعرس..
- ليه ..ماك راجل...؟
صاح فضيل:
- يا بنيا جيبي الشاي الشاي اليشوشو قدومك الطويل دة...
ثم أخرج هاتفه واجرى اتصالا:
- أها ..الحفتي دة جاب سلك الفرامل؟ خلاص انا جاي عليكم...
نهض بقرف وصاح:
- شاهيكم زاتو ما بدورو...
ثم خرج...

***


مساحات ترابية مزجت بين الصفرة واللون البني ؛ كان ميدان كرة القدم خاليا ؛ سيعبر الميدان ليمر بقرب مسجد صغير شيده اهل الحي بمشاركة المحلية. ليعبر من هناك الى سوق المشمعات حيث يقبع محل تصليح الركشات.
- الجني...
قال ذلك لفتى ذو ملابس رثة كان يصلح ماكينة الركشة:
- الجني ليك تلاتة يوم ما جبت قروشي.
تلجلج الجني وقال :
- مافي شغل.. مزاهرات..واقف..
صر وجهه وقال بحسم:
- هوي الحفتي..طلع القروش ولا..والله تدق هنا قبل ارجعك بلدك...
خاف الفتى واخذ يصدر اصواتا حادة مزعجة كالبكم وهو يلوح بذراعيه النحيلين...ثم اخرج بضعة وريقات مالية فأخذها ود جعل وجلس الى ست شاي...
قالت بابتسامة شديدة البياض:
-مالك يا ود جعل متزهج في الناس ونفسك حار...
- اديني قهوة وشوفي حساب الاسبوع دة كلو كم..
قال ذلك وصمت أما هي فبدأت في تحضير قهوتها.
الساعة كانت الرابعة عصرا ؛ هناك حر مع اختراقات هواء بارد كل برهة ، السماء صافية جدا بلا سحابة واحدة ... زرقاء بشكل مريب .. وفي الأعالي حلق نسران بشكل دائري ...
حديث ود عشانا كان يضرب نافوخه..قلبه كان يقفز كلما تذكر حديثه الساخر عن الزواج. التفت الى حوا ونظر الى جسدها وهي جالسة تعد الشاي ؛ الجسد الطري ، من خلف الثوب برز صدر نافر وعجز مستدير ، تأمل وجهها المستدير وهي تعض على شفتيها بتركيز شديد على مهمتها الدقيقة. على أنفها زمام ذهبي صغير ، يداها بضتان حد التبخر ، شعر حينها بذلك الكافر يقف كعسكري مرور وسط زحام الطرق المتقاطعة. اشاح عنها ليخمد ناره..
-مالك .. ماك راجل ...؟
كلام عمه يدق في رأسه...فيعتريه خوف وغضب في نفس الوقت...فيخمد الكافر وينام ..
تشعر حوا بقلقه فتأتيه بصينية القهوة ببطء وصمت ؛ يحمل الكوب ويدير الملعقة فيه قليلا وحين ترجع هي الى بنبرها يرى عجيزتها الطرية فيرفع الكافر رأسه من جديد.
- عملتها ليك من غير دوا...زي ما بتدور..
- بعرف يا حوا ..ضايقا في خشمي...
تصمت بعد إجابته الخشنة هذه...تقرر تركه وشأنه.....أولاد الحلة يرتدون زيهم الرياضي ويتجهون جماعات الى الميدان ، رأى دراجة نارية تعبر وتقف أمام حوا ؛ كان الجلي.
- حوا ..
-مرحب الجلي.
- عندك شيريا...
يهبط من دراجته ويجلس قربها ؛ قربها جدا . الجلي مصدر من مصادر جهاز الأمن ؛ وقح ويتحرش بحوا دوما. قرب رأسه من رأس حوا وهي تعد الشيريا .. ثم همس لها بشيء فنبض قلب فضيل .. ومات الكافر تماما ... رفت ابتسامة مجاملة على شفتي حوا ... وشعر فضيل أن زوجته تغتصب أمامه فطار الدم الى رأسه...
كان يعطي نفسه الوقت الكافي ليضبط أعصابه ولربما يغادر الجلي فينتهي الأمر...لكن الأخير لم يفعل..لقد رآه يمد اصابعه تحت فخذ حوا ويتحسسها فنفضت فخذها قليلا.
كان العقل والغيرة يتصارعان ؛ على نحو ما بدت له حوا مبتذلة جدا وراغبة ؛ وعلى نحو ما بدت له ضعيفة وعاجزة. الجلي يملك جسدا فارعا ولونا اصفرا كالذهب ؛ وثقة منحته لها وظيفته كمخبر امني. ولوهلة رأى الجلي يمد يده لثدي حوا التي حنت رأسها دون ان تفلت براد الشاي. حينها لم يتمالك فضيل نفسه فانقض وقد نزع سكينه عن ذراعه وغرس نصلها في فخذ الجلي:
- آآ ود الكب .. انت ما شايف رجال هنا....
كان ذلك مفاجئا للجلي الذي أمسك بفخذه وسقط على الأرض وهو يصرخ... حوا تراجعت بذعر وسقطت عن البنبر وانحسر الثوب عن فخذين لامعين:
- مالك أزول..
صاح الجلي وفضيل يجثم فوق صدره رافعا مديته الى السماء...
- بتملس في شطر حوا قدامي آمعرص...انحن ما مالين عينك آود الغلفا...
- آزول مالك...
الدماء افزعت الجلي والموت لمع في سن السكينة العالية التي قد تهبط على قلبه...
فتيان كرة القدم هرولوا نحو ارض المعركة ... ولكنهم وقفوا حول الرجلين بخوف.
تمالكت حوا نفسها واخذت تدفع فضيل عن صدر الجلي:
- سيبو .. خليهو.. ما تضيعو وتضيع نفسك...
ثم تهدج صوتها وأخذت تبكي فاختلج قلب فضيل لبكائها ونهض عن الرجل ثم غادر عائدا الى منزله...

***

في مساء ذات اليوم تلقى ود عشانا زيارة من رجال الحلة وأعمام وإخوة الجلي ؛ كانوا يطلبون حل المشكلة وديا قبل شطب البلاغ المرفوع على فضيل...استقبلهم عم فضيل بترحاب حذر وجاد ؛ كان يعرف كيف يحتفظ بمظهر التوازن رغم أن ابن أخيه يقبع في الحراسة الآن.
- أها يا ودعشانا... بدل تجونا انتم ..نحن الجيناكم...ودة لازم تقدرو لينا...
قال ودعشانا:
- ولدكم غلطان... هبش البنية قدام ود أخوي ودة عندنا ما مقبول... اكان عايز تهبش...اتستر واعمل الداير تعملو..الا ما تعملو قدام رجال...ولا كلامي غلط...
قال أحدهم:
- كلامك صاح..الا بس الطعن دي ما كتيرة ياخوي...؟
أجابه:
- النعرة كان مجمجت في الصدر ما عندها كبير يا أخوانا....
قال الرجل وهو ذو أنف معقوف ومنحرف قليلا إلى اليسار:
- الصلح خير ... نحن بندور الولدين ديل تاني ما يقربو بعض... وكان على شطب البلاغ بنقنعوا يشطبو...
-كلامك مافيهو عيب....
***
- بتدور تضيع روحك آخملة .. وعشان وحدة ما عندك معاها شي... لا اختك لا مرتك لا قريبتك لا استاذتك في المدرسة...
كان فضيل يهرش شعره القصير وجسمه من قمل الحراسة. ثم صاح:
- آبت هوي... الشاي...
قال ود عشانا:
- امش اتشطف ولا استحمى من عفن الحراسة...الشاي ملحوق..
لكن فضيل لم يتحرك من مكانه ، عمه كان يثقله ببصره وكان هو منزعجا من ذلك ؛ قال عمه:
- اها الامنجي دة كان جاب لك ناسو كان خوزقوك براك شايف الخوازيق اليومين دي ونحن ما بنحمل الفضيحة... وكان قتلك ببقى تار ولا محاكم..
أخرج فضيل كيس الصعوط وزرع منه في شفته السفلى ثم ضرب كفيه وهو يعض على نواجزه ممتعضا...
- أخير تشوفلك اغتراب يا ولد .. قعدتك كدة متل النفسة ما كويسة...
صاح فضيل:
- آبت الشاي الشواية التاكل لحمك...
صمت عمه مفكرا في كلمات أقسى من ذلك علها تحرك جبل الثلج هذا ؛ وحينها خرجت صبية وهي تحمل اكواب شاي بالحليب وضعتها أمام الرجلين وغادرت..
- قاعد لي من ست شاي لي ست شاي...وكمان عامل فيها بطل...اها حسي البت كان نكرت القلتو في البوليس كان موقفك حيكون شنو....؟
قال في نفسه:
- حوا ما بتنكر .. حوا جدعة ...
وهفا فؤاده لها فجأة ؛ كانت ابتسامتها البيضاء تنفخ هواء ساخنا في صدره حين يتذكرها ؛ ثم يفور دماغه وهو يتذكر ملامسات الجلي لصدرها وفخذها...وحين انتبه وجد نفسه وقد احتسى كوب الشاي الحار دفعة واحدة دون أن يشعر...
وتحت صنبور المياه برد جسده وشعر بقليل من الراحة ، تذكر حوا ورأى الكافر واقفا فلعنه...وخرج.

****

- مالك حانفة وشك؟
لم تجبه حوا بل ظلت تغسل اكواب الشاي على طشت بلاستيكي أخضر متوسط الحجم. جلس قربها وقال:
- قهوة...
وبصمت أعدت له القهوة ثم حملتها له ووضعتها على الطاولة الصغيرة أمامه. وحين احتساها وجدها بزنجبيل فقال:
- مالك الليلة ..ما بتعرفي جبنتي مافيها دوا...
نظرت حوا للأفق وقالت:
- فضيل.. عليك الله اختاني تاني.. واحسن ما تقعد هنا... امش لي كافورة بي الجهة التانية اشرب عندها جبنتك...
نظر لها وقال بغضب:
- ليه يا حوا .. عملت ليك شنو أنا ..
قالت:
- ما بدور مشاكل .. اكان لي هبيش الرجال مستحملاهو وزول بياخد مني اكتر من كدة مافي...خليني اربي شافعي الفاضل لي .. ابوهو مات وخلاهو لي...
صمت وأخذ يشرب الجبنة وهو ينظر للأرض ساهما..
رأى خنفساءة سوداء تتحرك فوق الرمل مخلفة وراءها أثرا غير محدد المعالم ، كانت خطوطا متعرجة ومتداخلة ؛ كانت خطواتها مرتبكة ولكن في خط مستقيم ؛ ولم يعرف لماذا شعر بحب لهذه الحشرة... كان يراقبها بحنين جارف .. حتى دارت من وراء ظهره واختفت فخجل ان يلتفت وراءه ليتابعها ببصره.
كان يريد أن يطلب من حوا الزواج به ؛ لكن شيئا ما وقف وسط حلقه. كان هناك خط عقلاني مضيء يعبر من دماغه فيلطف من براكين عاطفته. شيء ما خذله بعنف وقسوة عن أن يفتح فمه بأي حديث....وبعد أن انهى قهوته وضع النقود أمام حوا وقال:
- خلاس يا حوا ... تاني ما بجيك...
صمتت حوا بحزن ... فشعر بأنها فضلت الامان على علاقته بها كزبون قديم... لم يعرف يوما ما إذا كانت تبادله العاطفة أم لا فالنساء محترفات في اخفاء دواخلهن كقائد عسكري يخفي خطة الهجوم على أعدائه.
نقدها المال وغادر وقد عزم على عدم الجلوس اليها مرة أخرى.

***

أحرق الصبية بضعة اطارات على الشارع المعبد واجتمع نفر من الشباب وأخذوا يهتفون ضد النظام . لم يتجاوزوا الثلاثين لكن الحكومة أرسلت كتيبة كاملة بعدتها وعتادها وحاصرتهم في نصف دائرة....ثم اطلقت الغاز المسيل للدموع... لمح فضيل الجني يخرج من ضباب الدخان ويتجه نحوه فقال:
- الحفتي .. انت مالك ومال المظاهرات...
تلعثم الجني واصدر اصواتا مزعجة ؛ فلم يفهم منه شيئا ؛ أخرج الجني بضعة جنيهات ونقدها له:
- اوعة تكلم ود عشانا تقوللو الركشة دي بتاعتي ..كلامي دة مفهوم ...
هز الجني رأسه .. وغادر.
وعبر هو ميدان كرة القدم ؛ ثم المسجد الذي بناه اهل الحي مع المحلية ؛ ثم لمح مكان حوا خاليا تماما ... فانقبض صدره ؛ وحين اقترب كانت ارض المكان نظيفة جدا ؛ أدرك أن حواء نظفت المكان وغادرت الى غير رجعة... لقد فضلت الاستسلام....
كر عائدا ورأى الصبية والشباب يتجمهرون صاخبين داخل أدخنة الإطارات المحترقة والغاز المسيل للدموع...أخذ يراقبهم ويراقب رجال الشرطة والأمن وهم يقفون على البعد شارعين أسلحتهم تأهبا لاطلاق الرصاص .... تساءل:
- هل سيستسلمون كما استسلمت حواء ... وكما استسلمت أنا ...؟
راقب شابا يخرج من قبة الدخان وهو يهتف بقوة ؛ ثم رأى جثته تسقط مضرجة بالدماء... فغادر بصمت.


(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى