اهتز الفانوس الوحيد الذي يضيئ الشارع مع تعالي وقع الأقدام الثقيلة التي تتقدم من نقطة غير محددة، نحو قلب المكان.
ارتعش الضوء الخافت مرتين، ثم تضاءل واضمحل بسرعة، قبل أن ينطفئ تمامًا، تاركًا الشارع يغرق في بحيرة من الظلام والسكون لا يقطعها إلا صوت الخطوات المخيفة.
وفي داخل البيت سُمع صوت طرقات واثقة على الباب الأمامي، أرهفت مدبرة المنزل أذنيها، ولما تأكدت مما سمعته، تناولت فانوسًا كبيرًا براق الضوء وتقدمت بحذر نحو الباب، تساءلت عمن يطرق باب منزل سيدها في هذه الساعة من الليل، فجاءها صوت غريب يهتف باسم صاحب البيت راجيا الدخول، ظنته أحد المرضي الذين يأتون ليراجع الطبيب الشهير حالاتهم في أي وقت من ليل أو نهار.
جذبت الباب وفتحته، طالعتها ظلمة كاسية بالخارج ووجه مستتر في ركن معتم ينطق صاحبه مطالبا برؤية الدكتور، لم تحتاج السيدة المتحفظة لأن تنادي باسم سيدها لأنه جاء على الأثر، وقد سمع المحادثة المبتورة من الداخل، حيث كان يجلس يقلب صفحات كتاب أمام المدفأة التي تستعر داخلها النيران، تراجعت الخادمة المخلصة، بينما تقدم الطبيب المسن نحو باب المنزل، وأخرج رأسه ليقدم احترامه لزائره الغامض في هذه الساعة، تساءل الرجل عما إذا كان هذا هو الطبيب الشهير، الذي تقدره لندن كلها، فجاءه الرد المزهو بالإيجاب.
ببساطة، وبسرعة لم تعطي الفرصة لأحد للقيام بأي رد فعل، أستل الرجل بلطة وهوي بها على وجه الطبيب غل بضربة شديدة واحدة، انسحقت عظام الأنف والجبهة، وسقط الدكتور مهشم الوجه على عتبة منزله، شهقت مسز “هنسلو” رعبا وانحبس صوتها، فشلت في إطلاق صرخة استغاثة، ربما كانت قد غيرت من نهاية القصة قليلًا أو كثيرًا، بينما كال المهاجم ضربتين أخرتين للرجل الممدد بلا حراك على الأرضية الحجرية، وتعالي صوت العظام وهي تتحطم وتتهشم، أنتفض الطبيب مرة واحدة أخيرة، ثم همد تماما ورقد ساكنا، بعدها أنسحب المهاجم العتيّ فجأة، مثلما حضر فجأة، وأخذ معه بلطته وتلاشي في الظلام.. أما القاتل فقد كان مجهولا، ولم يعرف اسمه أبدًا، وأما القتيل فهو الطبيب ذائع الصيت فهو خالق الرجل المجرم الشهير”تشيزري لومبروزو” نفسه!
♦♦♦
مضت بهما العربة عبر الشوارع المبلطة التي بللتها مياه الأمطار، كان قائد العربة الوسنان العجوز يقود بحرص وحذر، خشية أن يترتب على خوضه المستنقعات الناتجة عن تراكم دموع السماء الغزيرة ضرر كبير بعربته العزيزة، وهي أهم ما يملك في حياته، أو بزبائنه الأكابر المهمين، كان الحوذي برغم كونه جاهل أمي يعرف جيدا قيمة الرجلين اللذين يستقلان عربته القديمة التي لا تزال تحتفظ برونق عصورها الزاهرة الغابرة؛ فقد أقلهما من الأكاديمية الملكية، ومعني أن سيدين مهذبين يخرجان من ذلك المكان، الذي لا يحلم هذا الحوذي وأمثاله حتى بمجرد المرور عبر قاعاته الفسيحة الأنيقة، التي يغشاها رجال العلم والمعرفة والمستكشفين الذين رفعوا اسم الإمبراطورية البريطانية عاليا في السماء، معني هذا أنهما رجلا علم بارزين، ثيابهما المتأنقة التي تكمل الصورة جعلته يتطلع إلي كسب رضاءهما بأي شكل، وبالفعل فقد كان أحد زبوني “ أرشيبالد” العجوز يدعي “ تشيزري لومبروزو”، أما الآخر فلم يكن سوي السيد “تشارلز روبرت داروين” بنفسه، على أن الأمر لم يكن يحتاج إلي كل ذلك، فلم يكن السائق العجوز يعرف أسماء الرجلين بداخل عربته، وإن عرفها فلم تكن لتعني له شيئًا، إنه لا يعرف أسماء العلماء، فقد كان يخمن ويتكهن ليس إلا!
أما بالنسبة للسيدين فلم تكن خواطر الحوذي أو ما يظنه عنهما تعنيهما في شيء، فقط جلسا في داخل العربة المريحة وأسند كلا منهما عنقه إلي الجدار الداخلي المبطن بجلد سميك وثير، حافظ “ أرشيبالد” الأريب على تماسكه ونظافته حقبة بعد أخري، ليريح رأسه المتعب المثقل من عناء المناقشات العلمية والجدال الفلسفي الطويل اللذين خاضا فيهما معظم ساعات المساء، حتى تحولت أمسيتهما لسلسلة لا نهاية لها من نقيق الدجاج ونقار الديكة!
كان للسيد “ لومبروزو” نظرية معينة، عرضها تفصيليًا، مدللًا عليها بكل وسيلة علمية ممكنة، على السادة أعضاء الجمعية العلمية الملكية، إلا أنه، وكعادة نظريته سيئة السمعة هذه، لم يلاقِ إلا التكذيب والصدود ومحاولات التفنيد الشرسة من قبل بضع علماء يظنون أنهم بجلوسهم فوق مقاعد وثيرة على كثب من مجموعات الكتب وعينات المواد المختلفة،قد خبروا كل شيء في الكون، وحللوا تفاصيله، وأدركوا كنهه وغايته إدراكًا كاملًا!
بعد بضع دقائق، وبينما العربة تهتز بهما في طريقها، عبر الشوارع المعبأة بمياه الأمطار إلي فندق الملك، أي ملك؟! ليأخذا قسطا مع الراحة، ويستعدا ليوم حافل مليء بالأحداث غدًا، إذ حدثت ارتجاجه عنيفة تبعها توقف العربة، ثم تناهي إلي مسامع الرجلين صوت الحوذي وهو ينهر شخص ما، لا يريانه حيث هما، بكلمات حادة وإن حاول أن تكون مهذبة خالية من الفظاظة إكراما لخاطر زبونيه المحترمين.
تبادل الرجلين النظرات منتظرين أن تعود العربة للتحرك بهما، بيد أن دقيقتين كاملتين مضتا والحوذي لا يزال مشتبكا في خضم مشاجرته الباردة مع هذا المجهول، الذي يبدو أنه عنيد كثور وسمج ثقيل كالقطران، أخيرًا نفد صبر دكتور “لومبروزو”، الذي وجد أن وقته الثمين يضيع هباء في مشاحنة عامية بلا معني، فدفع باب العربة وأطل برأسه إلي الخارج، ليصفعه هواء بارد محمل بقطرات مطر ثقيلة، تنذر بدورها بنوبة ثانية من الهطول الكثيف، ربما أشد مما شهدته الليلة الماضية بطولها ونهار اليوم.
سعل الرجل، الذي كانت مناعته الضعيفة مشهود لها في المحافل العلمية، أخذ يجول ببصره متفقدا مسبب الإزعاج هذا الذي توقفت العربة وتعطلت رحلته بسببه، وبينما كان ظهر الحوذي المتخشب ينتصب أمام وجهه، شاهد بصعوبة ملامح لرجل غريب يقف أمام العربة،وهو منخرط في حديث يبدو أنه لا ينوي أن يقطعه أو ينهيه مع “أرشيبالد”، الذي كان ضائق الصدر به حقًا.
مضت دقيقة أخري قبل أن يجد السيد “لومبروزو” أن حلمه قد أُسُتغل أكثر مما يجب فقال منذرا الحوذي بلهجة هادئة رصينة:
-“إنك تؤخرنا يا سيدي.. تقدم أو دعنا نجد لأنفسنا عربة أخري ليس لدي حوذيها حديث مهم يشغله عن ممارسة وظيفته الصغيرة!”
كان اعتراض الزبون المهم مقبولًا وموضوعيًا تمامًا، لكن يبدو أنه أغضب الرجل الواقف أمام العربة بشكل ما، إذ قطع كلامه مع “أرشيبالد” المسكين بحدة، وركز أنظاره على وجه المعترض الشجاع، تفحصه لنصف دقيقة قبل أن يفتح فاه ليقول في لهجة خالية من كل ذوق:
-“إنها مجرد خمس دقائق أيها السيد المهم.. تناول عشاءك وأذهب إلي السرير وخلص العالم لنصف يوم من ثرثرتك!”
أصدر الحوذي صوت اعتراض بينما طقطق السيد “داروين” من داخل العربة بلسانه وهتف مظهرا تأففه:
- “ يا له من عامي سوقي جدير بالانقراض!”
رغم انخفاض نبرات صوت الرجل المندس بداخل العربة المقفلة من جوانب ثلاث، إلا أن عبارته المزدرية قد جرحت أذني الرجل الذي أحمر وجهه بشكل مروع، وتقدم وهو يضع كفيه حول خصره مظهرًا نيته العنيدة في افتعال مشكلة:
- “ ماذا تقول أيها الكتلة العفنة!”
كاد “لامبروزو” يرد متجاهلًا كل قواعد اللياقة والرصانة العلمية عندما تقدم الرجل المشاكس مقتربا بوجهه من حيث يطل هو بوجهه من العربة، ووقعت أنظار العالم الصنديد على ملامح الرجل، فجف حلقه فجأة، قم أبتلع ريقه بصوت مسموع، وأخذ يتفرس في ملامح الرجل للحظات طويلة، قبل أن يرتد إلي الداخل ويسقط فوق مقعده ووجهه شاحب ثم قال مسترحما السماء:
- “ يا لله! هلا نظرت أيها الأوزة المهاجرة ورأيت بنفسك!”
كان “لامبروزو” يلقب “داروين” بالإوزة المهاجرة، في الحقيقة إن الأخير لم يكن يميل إلي هذه الكنية البغيضة، لكن رجاء “لامبروزو” غير المفهوم جعله متسامح كراهبة ترعي الأطفال في مدرسة الأحد، وتساءل دهشًا:
- “ ماذا؟!”
أشار “لامبروزو” بطرف إصبعه نحو الخارج وهتف بصوت مرتعش:
- “ إنه هو! نموذج حي للرجل المجرم! كل هذه الملامح والتقاسيم الواضحة.. يا إلهي!”
فجأة، دب فيه نشاط كبير وامتلأت نفسه غبطة، صاح موجها كلامه للحوذي الخجل من تصرفات قريبه الذي لا يدري شيئا عن أصول اللياقة:
- “ أيها الحوذي المسكين.. اطلب من صديقك أن يركب العربة.. إننا نريده في عمل هام وسوف نأخذه معنا!”
♦♦♦
انبري الرجل، الذي قدم نفسه تحت ضغط الرغبة في تحقيق فائدة ما باسم “تشادويك”، في وصلة تشكي وسرد ممل لسوء أحواله المادية والاجتماعية والسكنية والوظيفية والمعيشة والصحية، محاولا استدرار عطف السادة، بغية الحصول على مقابل طيب لهذه التجربة الصغيرة، التي قيل له أنهم ينوون إجراءها عليه، متعهدين في نفس الوقت ألا تلحق به أية أضرار جراء ذلك، وفي منزل الطبيب، الذي أقلتهم عربة “ أرشيبالد” المذعور إليه، وضع العالمان الرجل تحت ضوء ساطع، سلطاه عليه دون رحمة، ثم انخرطا في أخذ قياسات دقيقة لوجهه، عرض جبهته وتراجعها إلي الداخل، تجويف العينين، ذقنه المدبب الصغير، شفتاه الغليظتان وأسنانه العريضة اللامعة، الشبيهة بأسنان الضواري والمفترسات، فكيه الضخمين، ثم انحدرا نحو أطرافه فأخذا قياس ذراعيه من عند الكتف حتى مشط اليد، وبعدها جاء الدور على أقدامه ورجليه، ورغم أن كل شيء كان على ما يرام من وجهة نظر “داروين”، إلا أن السيد “ لامبروزو” لم يكن راضيًا تمامًا، وبدا أنه يبحث عن شيء معين، فجأة أنار وجهه وتألقت ملامحه بعلامات الظفر،وقال وهو يرفع رأس الرجل ليكشف عنقه الغليظ القصير وجوانب رقبته، التي تنحسر عنها ياقة ثوبه المتسعة المهللة، مشيرًا بحركة مسرحية متقنة إلي بثور حمراء كبيرة، بعضها جاف صلب متماسك، والآخر يبدو نديًا على نحو ما، لكن هذه الحركة لم ترق لـ “ تشادويك” الذي قال بخشونة:
- “ رقبتي أيها الأحمق سوف تكسرها!”
لكن العالم العظيم لم يعر سوقية ضيفه اهتمامًا، بل وقف باسط ذراعيه، وهو يهتف شاعرا بأنه يعيش أعظم لحظة في حياته:
- ” يا لرحمة السماء! كما نظن تمامًا.. هل لديك شك بعد الآن يا سيدي؟!”
من ناحيته لم يكن “داروين” بحاجة إلي أن يجيب عن سؤال صديقه ورفيق العلم العزيز، فلم يكن يساوره أي نوع من الشك في توافر صفات الرجل المجرم في هذا النموذج البشري (الوضيع)، الذي أسقطته هبة سماوية في طريقهما دون قصد، وأبدا لم يكن يشك في قدرات “لامبروزو” العلمية ولا قدراته التحليلية.. بل كان يشك فقط في قواه العقلية واتزانه النفسي لا غير!
♦♦♦
في هدأة الصباح الباكر تسلل الرجلان خارج منزل السيد “لامبروزو”، كان ضيفهما قد غادر منذ زمن، بعد أن حصل على أجره السخي، أما هما فقد قضيا بقية الليلة يتناقشان فيما يجدر بهما أن يفعلاه، حتى اتفقا في النهاية على خطوة هامة برغم تعارض وجهات نظرهما الشديد، غادرا المنزل بينما كانت أمطار لندن تهطل فوق رأسيهما بغزارة،وراحا يجريان كأحمقين مبتلين تحت وابل المطر باحثين عن عربة تقلهما إلي وجهتهما، وأخيرا عثرا على عربة مبكرة يقودها حوذي نشط، وكان للصدفة هو نفس الرجل الذي أقلهما بالأمس.. “أرشيبالد” سيء الحظ!
دخل “داروين” أولا إلي العربة، ثم تبعه “لامبروزو” وهو يطوي مظلته الضخمة ويهتف آمرًا ووجهه يقطر ماء ويلمع انتصارا في نفس الوقت:
- “ سكوتلنديارد من فضلك يا عزيزي!”
♦♦♦
في مكتبه جلس المفتش “فردريك إيبرلين” يستمع بتعجب إلي الأنباء الغريبة التي حملها إليه سيدان مهذبان يقولان أنهما عالمين، قال له “لامبروزو” وهو يدس مجلدا مكدسا بالأوراق تحت أنفه، حتى كاد يقحمه داخل فمه:
- “ سوف تجد شرحا وافيا لنظريتي في هذه الأوراق الصغيرة.. لدي بياناته الكاملة وبوسعكم الإيقاع به خلال خمس دقائق لا أكثر!”
هتف المفتش المخضرم نافذ الصبر متسائلًا:
- “ لكن بأي جريمة ؟! بما تتهمونه يا سادة؟!”
دون صبر أجاب الرجل الواثق من نظرياته:
- “ أؤكد لك ان هذا الرجل مجرم لا يشق له غبار، لقد سمعت عن هؤلاء المومسات اللائي قُتلن في وايت شابل، أكون أحمقًا مأفونا كسعدان يسكن أعالي الأشجار إن لم يكن هذا المدعو هو قاتلهن!”
طقطق السيد “داروين” سبابته، وهتف مستنكرًا:
- ” لا تسيء للسعادين يا عزيزي من فضلك.. إننا من نسلهم!”
لكن “لامبروزو” تجاهله وهو يرسم على وجهه تعبير من طراز:
- ” دعنا من سعادينك الغبية الآن!”
وواصل تقديم حججه ومبرراته مشددًا على ضرورة أن تقبض قوات الشرطة على هذا الرجل في أقرب وقت، وأخيرا تخلص منهما “إيبرلين” وهو يعد بأن يهتم بالأمر بنفسه وفورًا، غادر العالمين البارزين واثقين من وعد المفتش الكبير، الذي لم يكن ينوي تحقيقه.. للأسف!
♦♦♦
في الصباح كانت أنباء مقتل “تشيزري لومبروزو” قد ملأت أرجاء لندن، ووصلت حتى أسماع السيد “تشارلز داروين”، بينما هو يتناول إفطاره في بيته، فنهض منزعجا تاركا قدحه من القهوة الصباحية، وتناول قبعته وخرج من فوره.
لم يتجه نحو بيت زميله البارز ليري أية كارثة حلت به، ولم يجرؤ على التوجه نحو سكوتلنديارد، ليتحدث عن الشكوك التي كانت تعصف به حول شخصية القاتل، بل اتجه رأسا نحو ميناء لندن، وهو يتلفت خلفه في كل خطوة ، حيث كانت حركة السفن دائبة فيه، ووقف على الرصيف البحري، مستعرضا السفن الراسية بعينيه الحادتين، ثم رفع يده وأشار إلي أقرب سفينة إليه، وهتف مظهرًا سلطته التي تعطيها له مكانته العلمية الفائقة:
- “ أيها الكابتن إلي جزر جلاباجوس.. رأسًا من فضلك!
منال عبد الحميد
كاتبة مصرية متنوعة الإنتاج أهتم بالفانتازيا والرعب والخيال
* نقلا عن:
(قاتل لومبروزو)- قصة قصيرة: (منال عبد الحميد) - لأبعد مدى
ارتعش الضوء الخافت مرتين، ثم تضاءل واضمحل بسرعة، قبل أن ينطفئ تمامًا، تاركًا الشارع يغرق في بحيرة من الظلام والسكون لا يقطعها إلا صوت الخطوات المخيفة.
وفي داخل البيت سُمع صوت طرقات واثقة على الباب الأمامي، أرهفت مدبرة المنزل أذنيها، ولما تأكدت مما سمعته، تناولت فانوسًا كبيرًا براق الضوء وتقدمت بحذر نحو الباب، تساءلت عمن يطرق باب منزل سيدها في هذه الساعة من الليل، فجاءها صوت غريب يهتف باسم صاحب البيت راجيا الدخول، ظنته أحد المرضي الذين يأتون ليراجع الطبيب الشهير حالاتهم في أي وقت من ليل أو نهار.
جذبت الباب وفتحته، طالعتها ظلمة كاسية بالخارج ووجه مستتر في ركن معتم ينطق صاحبه مطالبا برؤية الدكتور، لم تحتاج السيدة المتحفظة لأن تنادي باسم سيدها لأنه جاء على الأثر، وقد سمع المحادثة المبتورة من الداخل، حيث كان يجلس يقلب صفحات كتاب أمام المدفأة التي تستعر داخلها النيران، تراجعت الخادمة المخلصة، بينما تقدم الطبيب المسن نحو باب المنزل، وأخرج رأسه ليقدم احترامه لزائره الغامض في هذه الساعة، تساءل الرجل عما إذا كان هذا هو الطبيب الشهير، الذي تقدره لندن كلها، فجاءه الرد المزهو بالإيجاب.
ببساطة، وبسرعة لم تعطي الفرصة لأحد للقيام بأي رد فعل، أستل الرجل بلطة وهوي بها على وجه الطبيب غل بضربة شديدة واحدة، انسحقت عظام الأنف والجبهة، وسقط الدكتور مهشم الوجه على عتبة منزله، شهقت مسز “هنسلو” رعبا وانحبس صوتها، فشلت في إطلاق صرخة استغاثة، ربما كانت قد غيرت من نهاية القصة قليلًا أو كثيرًا، بينما كال المهاجم ضربتين أخرتين للرجل الممدد بلا حراك على الأرضية الحجرية، وتعالي صوت العظام وهي تتحطم وتتهشم، أنتفض الطبيب مرة واحدة أخيرة، ثم همد تماما ورقد ساكنا، بعدها أنسحب المهاجم العتيّ فجأة، مثلما حضر فجأة، وأخذ معه بلطته وتلاشي في الظلام.. أما القاتل فقد كان مجهولا، ولم يعرف اسمه أبدًا، وأما القتيل فهو الطبيب ذائع الصيت فهو خالق الرجل المجرم الشهير”تشيزري لومبروزو” نفسه!
♦♦♦
مضت بهما العربة عبر الشوارع المبلطة التي بللتها مياه الأمطار، كان قائد العربة الوسنان العجوز يقود بحرص وحذر، خشية أن يترتب على خوضه المستنقعات الناتجة عن تراكم دموع السماء الغزيرة ضرر كبير بعربته العزيزة، وهي أهم ما يملك في حياته، أو بزبائنه الأكابر المهمين، كان الحوذي برغم كونه جاهل أمي يعرف جيدا قيمة الرجلين اللذين يستقلان عربته القديمة التي لا تزال تحتفظ برونق عصورها الزاهرة الغابرة؛ فقد أقلهما من الأكاديمية الملكية، ومعني أن سيدين مهذبين يخرجان من ذلك المكان، الذي لا يحلم هذا الحوذي وأمثاله حتى بمجرد المرور عبر قاعاته الفسيحة الأنيقة، التي يغشاها رجال العلم والمعرفة والمستكشفين الذين رفعوا اسم الإمبراطورية البريطانية عاليا في السماء، معني هذا أنهما رجلا علم بارزين، ثيابهما المتأنقة التي تكمل الصورة جعلته يتطلع إلي كسب رضاءهما بأي شكل، وبالفعل فقد كان أحد زبوني “ أرشيبالد” العجوز يدعي “ تشيزري لومبروزو”، أما الآخر فلم يكن سوي السيد “تشارلز روبرت داروين” بنفسه، على أن الأمر لم يكن يحتاج إلي كل ذلك، فلم يكن السائق العجوز يعرف أسماء الرجلين بداخل عربته، وإن عرفها فلم تكن لتعني له شيئًا، إنه لا يعرف أسماء العلماء، فقد كان يخمن ويتكهن ليس إلا!
أما بالنسبة للسيدين فلم تكن خواطر الحوذي أو ما يظنه عنهما تعنيهما في شيء، فقط جلسا في داخل العربة المريحة وأسند كلا منهما عنقه إلي الجدار الداخلي المبطن بجلد سميك وثير، حافظ “ أرشيبالد” الأريب على تماسكه ونظافته حقبة بعد أخري، ليريح رأسه المتعب المثقل من عناء المناقشات العلمية والجدال الفلسفي الطويل اللذين خاضا فيهما معظم ساعات المساء، حتى تحولت أمسيتهما لسلسلة لا نهاية لها من نقيق الدجاج ونقار الديكة!
كان للسيد “ لومبروزو” نظرية معينة، عرضها تفصيليًا، مدللًا عليها بكل وسيلة علمية ممكنة، على السادة أعضاء الجمعية العلمية الملكية، إلا أنه، وكعادة نظريته سيئة السمعة هذه، لم يلاقِ إلا التكذيب والصدود ومحاولات التفنيد الشرسة من قبل بضع علماء يظنون أنهم بجلوسهم فوق مقاعد وثيرة على كثب من مجموعات الكتب وعينات المواد المختلفة،قد خبروا كل شيء في الكون، وحللوا تفاصيله، وأدركوا كنهه وغايته إدراكًا كاملًا!
بعد بضع دقائق، وبينما العربة تهتز بهما في طريقها، عبر الشوارع المعبأة بمياه الأمطار إلي فندق الملك، أي ملك؟! ليأخذا قسطا مع الراحة، ويستعدا ليوم حافل مليء بالأحداث غدًا، إذ حدثت ارتجاجه عنيفة تبعها توقف العربة، ثم تناهي إلي مسامع الرجلين صوت الحوذي وهو ينهر شخص ما، لا يريانه حيث هما، بكلمات حادة وإن حاول أن تكون مهذبة خالية من الفظاظة إكراما لخاطر زبونيه المحترمين.
تبادل الرجلين النظرات منتظرين أن تعود العربة للتحرك بهما، بيد أن دقيقتين كاملتين مضتا والحوذي لا يزال مشتبكا في خضم مشاجرته الباردة مع هذا المجهول، الذي يبدو أنه عنيد كثور وسمج ثقيل كالقطران، أخيرًا نفد صبر دكتور “لومبروزو”، الذي وجد أن وقته الثمين يضيع هباء في مشاحنة عامية بلا معني، فدفع باب العربة وأطل برأسه إلي الخارج، ليصفعه هواء بارد محمل بقطرات مطر ثقيلة، تنذر بدورها بنوبة ثانية من الهطول الكثيف، ربما أشد مما شهدته الليلة الماضية بطولها ونهار اليوم.
سعل الرجل، الذي كانت مناعته الضعيفة مشهود لها في المحافل العلمية، أخذ يجول ببصره متفقدا مسبب الإزعاج هذا الذي توقفت العربة وتعطلت رحلته بسببه، وبينما كان ظهر الحوذي المتخشب ينتصب أمام وجهه، شاهد بصعوبة ملامح لرجل غريب يقف أمام العربة،وهو منخرط في حديث يبدو أنه لا ينوي أن يقطعه أو ينهيه مع “أرشيبالد”، الذي كان ضائق الصدر به حقًا.
مضت دقيقة أخري قبل أن يجد السيد “لومبروزو” أن حلمه قد أُسُتغل أكثر مما يجب فقال منذرا الحوذي بلهجة هادئة رصينة:
-“إنك تؤخرنا يا سيدي.. تقدم أو دعنا نجد لأنفسنا عربة أخري ليس لدي حوذيها حديث مهم يشغله عن ممارسة وظيفته الصغيرة!”
كان اعتراض الزبون المهم مقبولًا وموضوعيًا تمامًا، لكن يبدو أنه أغضب الرجل الواقف أمام العربة بشكل ما، إذ قطع كلامه مع “أرشيبالد” المسكين بحدة، وركز أنظاره على وجه المعترض الشجاع، تفحصه لنصف دقيقة قبل أن يفتح فاه ليقول في لهجة خالية من كل ذوق:
-“إنها مجرد خمس دقائق أيها السيد المهم.. تناول عشاءك وأذهب إلي السرير وخلص العالم لنصف يوم من ثرثرتك!”
أصدر الحوذي صوت اعتراض بينما طقطق السيد “داروين” من داخل العربة بلسانه وهتف مظهرا تأففه:
- “ يا له من عامي سوقي جدير بالانقراض!”
رغم انخفاض نبرات صوت الرجل المندس بداخل العربة المقفلة من جوانب ثلاث، إلا أن عبارته المزدرية قد جرحت أذني الرجل الذي أحمر وجهه بشكل مروع، وتقدم وهو يضع كفيه حول خصره مظهرًا نيته العنيدة في افتعال مشكلة:
- “ ماذا تقول أيها الكتلة العفنة!”
كاد “لامبروزو” يرد متجاهلًا كل قواعد اللياقة والرصانة العلمية عندما تقدم الرجل المشاكس مقتربا بوجهه من حيث يطل هو بوجهه من العربة، ووقعت أنظار العالم الصنديد على ملامح الرجل، فجف حلقه فجأة، قم أبتلع ريقه بصوت مسموع، وأخذ يتفرس في ملامح الرجل للحظات طويلة، قبل أن يرتد إلي الداخل ويسقط فوق مقعده ووجهه شاحب ثم قال مسترحما السماء:
- “ يا لله! هلا نظرت أيها الأوزة المهاجرة ورأيت بنفسك!”
كان “لامبروزو” يلقب “داروين” بالإوزة المهاجرة، في الحقيقة إن الأخير لم يكن يميل إلي هذه الكنية البغيضة، لكن رجاء “لامبروزو” غير المفهوم جعله متسامح كراهبة ترعي الأطفال في مدرسة الأحد، وتساءل دهشًا:
- “ ماذا؟!”
أشار “لامبروزو” بطرف إصبعه نحو الخارج وهتف بصوت مرتعش:
- “ إنه هو! نموذج حي للرجل المجرم! كل هذه الملامح والتقاسيم الواضحة.. يا إلهي!”
فجأة، دب فيه نشاط كبير وامتلأت نفسه غبطة، صاح موجها كلامه للحوذي الخجل من تصرفات قريبه الذي لا يدري شيئا عن أصول اللياقة:
- “ أيها الحوذي المسكين.. اطلب من صديقك أن يركب العربة.. إننا نريده في عمل هام وسوف نأخذه معنا!”
♦♦♦
انبري الرجل، الذي قدم نفسه تحت ضغط الرغبة في تحقيق فائدة ما باسم “تشادويك”، في وصلة تشكي وسرد ممل لسوء أحواله المادية والاجتماعية والسكنية والوظيفية والمعيشة والصحية، محاولا استدرار عطف السادة، بغية الحصول على مقابل طيب لهذه التجربة الصغيرة، التي قيل له أنهم ينوون إجراءها عليه، متعهدين في نفس الوقت ألا تلحق به أية أضرار جراء ذلك، وفي منزل الطبيب، الذي أقلتهم عربة “ أرشيبالد” المذعور إليه، وضع العالمان الرجل تحت ضوء ساطع، سلطاه عليه دون رحمة، ثم انخرطا في أخذ قياسات دقيقة لوجهه، عرض جبهته وتراجعها إلي الداخل، تجويف العينين، ذقنه المدبب الصغير، شفتاه الغليظتان وأسنانه العريضة اللامعة، الشبيهة بأسنان الضواري والمفترسات، فكيه الضخمين، ثم انحدرا نحو أطرافه فأخذا قياس ذراعيه من عند الكتف حتى مشط اليد، وبعدها جاء الدور على أقدامه ورجليه، ورغم أن كل شيء كان على ما يرام من وجهة نظر “داروين”، إلا أن السيد “ لامبروزو” لم يكن راضيًا تمامًا، وبدا أنه يبحث عن شيء معين، فجأة أنار وجهه وتألقت ملامحه بعلامات الظفر،وقال وهو يرفع رأس الرجل ليكشف عنقه الغليظ القصير وجوانب رقبته، التي تنحسر عنها ياقة ثوبه المتسعة المهللة، مشيرًا بحركة مسرحية متقنة إلي بثور حمراء كبيرة، بعضها جاف صلب متماسك، والآخر يبدو نديًا على نحو ما، لكن هذه الحركة لم ترق لـ “ تشادويك” الذي قال بخشونة:
- “ رقبتي أيها الأحمق سوف تكسرها!”
لكن العالم العظيم لم يعر سوقية ضيفه اهتمامًا، بل وقف باسط ذراعيه، وهو يهتف شاعرا بأنه يعيش أعظم لحظة في حياته:
- ” يا لرحمة السماء! كما نظن تمامًا.. هل لديك شك بعد الآن يا سيدي؟!”
من ناحيته لم يكن “داروين” بحاجة إلي أن يجيب عن سؤال صديقه ورفيق العلم العزيز، فلم يكن يساوره أي نوع من الشك في توافر صفات الرجل المجرم في هذا النموذج البشري (الوضيع)، الذي أسقطته هبة سماوية في طريقهما دون قصد، وأبدا لم يكن يشك في قدرات “لامبروزو” العلمية ولا قدراته التحليلية.. بل كان يشك فقط في قواه العقلية واتزانه النفسي لا غير!
♦♦♦
في هدأة الصباح الباكر تسلل الرجلان خارج منزل السيد “لامبروزو”، كان ضيفهما قد غادر منذ زمن، بعد أن حصل على أجره السخي، أما هما فقد قضيا بقية الليلة يتناقشان فيما يجدر بهما أن يفعلاه، حتى اتفقا في النهاية على خطوة هامة برغم تعارض وجهات نظرهما الشديد، غادرا المنزل بينما كانت أمطار لندن تهطل فوق رأسيهما بغزارة،وراحا يجريان كأحمقين مبتلين تحت وابل المطر باحثين عن عربة تقلهما إلي وجهتهما، وأخيرا عثرا على عربة مبكرة يقودها حوذي نشط، وكان للصدفة هو نفس الرجل الذي أقلهما بالأمس.. “أرشيبالد” سيء الحظ!
دخل “داروين” أولا إلي العربة، ثم تبعه “لامبروزو” وهو يطوي مظلته الضخمة ويهتف آمرًا ووجهه يقطر ماء ويلمع انتصارا في نفس الوقت:
- “ سكوتلنديارد من فضلك يا عزيزي!”
♦♦♦
في مكتبه جلس المفتش “فردريك إيبرلين” يستمع بتعجب إلي الأنباء الغريبة التي حملها إليه سيدان مهذبان يقولان أنهما عالمين، قال له “لامبروزو” وهو يدس مجلدا مكدسا بالأوراق تحت أنفه، حتى كاد يقحمه داخل فمه:
- “ سوف تجد شرحا وافيا لنظريتي في هذه الأوراق الصغيرة.. لدي بياناته الكاملة وبوسعكم الإيقاع به خلال خمس دقائق لا أكثر!”
هتف المفتش المخضرم نافذ الصبر متسائلًا:
- “ لكن بأي جريمة ؟! بما تتهمونه يا سادة؟!”
دون صبر أجاب الرجل الواثق من نظرياته:
- “ أؤكد لك ان هذا الرجل مجرم لا يشق له غبار، لقد سمعت عن هؤلاء المومسات اللائي قُتلن في وايت شابل، أكون أحمقًا مأفونا كسعدان يسكن أعالي الأشجار إن لم يكن هذا المدعو هو قاتلهن!”
طقطق السيد “داروين” سبابته، وهتف مستنكرًا:
- ” لا تسيء للسعادين يا عزيزي من فضلك.. إننا من نسلهم!”
لكن “لامبروزو” تجاهله وهو يرسم على وجهه تعبير من طراز:
- ” دعنا من سعادينك الغبية الآن!”
وواصل تقديم حججه ومبرراته مشددًا على ضرورة أن تقبض قوات الشرطة على هذا الرجل في أقرب وقت، وأخيرا تخلص منهما “إيبرلين” وهو يعد بأن يهتم بالأمر بنفسه وفورًا، غادر العالمين البارزين واثقين من وعد المفتش الكبير، الذي لم يكن ينوي تحقيقه.. للأسف!
♦♦♦
في الصباح كانت أنباء مقتل “تشيزري لومبروزو” قد ملأت أرجاء لندن، ووصلت حتى أسماع السيد “تشارلز داروين”، بينما هو يتناول إفطاره في بيته، فنهض منزعجا تاركا قدحه من القهوة الصباحية، وتناول قبعته وخرج من فوره.
لم يتجه نحو بيت زميله البارز ليري أية كارثة حلت به، ولم يجرؤ على التوجه نحو سكوتلنديارد، ليتحدث عن الشكوك التي كانت تعصف به حول شخصية القاتل، بل اتجه رأسا نحو ميناء لندن، وهو يتلفت خلفه في كل خطوة ، حيث كانت حركة السفن دائبة فيه، ووقف على الرصيف البحري، مستعرضا السفن الراسية بعينيه الحادتين، ثم رفع يده وأشار إلي أقرب سفينة إليه، وهتف مظهرًا سلطته التي تعطيها له مكانته العلمية الفائقة:
- “ أيها الكابتن إلي جزر جلاباجوس.. رأسًا من فضلك!
منال عبد الحميد
كاتبة مصرية متنوعة الإنتاج أهتم بالفانتازيا والرعب والخيال
* نقلا عن:
(قاتل لومبروزو)- قصة قصيرة: (منال عبد الحميد) - لأبعد مدى