...في يوم من أيام الصيف، قادت قطيعها متوجهة صوب "تيمقاد"، وقد أضاءت طريقها الأشعة الأخيرة للشمس، وهي تميل نحو الغروب، كان السهل متألقا، هي كذلك، كزهرة جميلة بلون لا متناه في رقته ... و عادت "ياسمينة " تدندن أغنية صحراوية تحبها، كانت قد حفظتها من شقيقها "سليمان" الذي عاد في عطلة منذ عام... رويدا رويدا أخذت الأغنية الشجية تحلق عبر الفضاء الأزلي، و قد مالت الشمس إلى المغيب، هادئة هدوء الروح الصغيرة والوحيدة الساذجة لـ"ياسمينة"...هادئة و عذبة كما البحيرات الصغيرة التي تدعها الأمطار في فصل الربيع للحظة في المروج الإفريقية العابرة، حيث لا ينعكس شيء سوى اللازوردي اللامتناهي لسماء غابت عنها السحب.
عندما وصلت "ياسمينة" أبلغتها أمها أنها ستتزوج من "محمد الأعور" صاحب مقهى بـ"باتنة" ، بكت "ياسمينة" في البداية، لأن "محمد" كان أعور وقبيح الشكل، و لأن هذا الزواج كان مفاجأة لها، ولم يكن متوقعًا، ولكن سرعان ما هدأ روعها وابتسمت ، ذلك أن الأمر بالنسبة إليها كان قضاءً و قدرًا.
مرّت الأيّام، لم تعد "ياسمينة" تذهب إلى المرعى، كانت منهمكة، بيديها الصغيرتين، في تحضير حقيبتها المتواضعة لعرسها البدوي. ما من واحدة من نساء "الدوّار" فكّرت في سؤالها عما إذا كانت سعيدة بهذا الزواج، لقد منحوها لـ" الأعور" كما يمكنهم أن يمنحوها لأي مسلم آخر، فلا معنى في هذه الحالة للسعادة، ولا للندم كذلك. كانت "ياسمينة" تعلم أن مصيرها أفضل قليلا من نساء أخريات من قبيلتها، ومادامت تسكن المدينة فليس لها كما "الموريات"، سوى الاعتناء ببيتها، وتربية أطفالها.
وحدهم الأطفال يضايقونها أحيانا، يصيحون: "امرأة الأعور!". كانت تمنع نفسها كذلك من الذهاب مع سقوط الليل، للبحث عن ماء الوادي مع النساء الأخريات، و قد كانت هناك عين ماء بساحة "البرج" بالمواقع الأثرية، لكن الحارس "الرومي" الموظف من الفنون الجميلة، لم يكن يسمح مطلقا لأهالي القبيلة باستعمال الماء الصافي والبارد للعين، لقد فرض عليهم ماء الوادي الشديد الملوحة الذي تدوسه قطعان الماشية في غدوّها وفي رواحها و هو ما جعل سكان القبيلة يصابون بالحمى الخبيثة.
في أحد الأيام أبلغ الأعور أبا "ياسمينة" انه لا يمكنه، قبل فصل الخريف، الالتزام بمصاريف العرس و دفع مهر الفتاة الشابة. أنهت "ياسمينة" جهاز العروس، وقد ناب شقيقها الأصغر "احمد" عنها في وظيفة الرعي، لكنه سرعان ما سقط مريضًا، ثم عادت من جديد لوظيفتها راعية، وقطع المسافات الطويلة عبر أرجاء السهل.
استمرت في أحلامها اللامتناهية، أحلام العذراء البدائية، في حين أن اقتراب الزواج لم يغيّر فيها شيئا، لم تكن تتطلّع إلى أي شيء، ولا ترغب في أي شيء، استوطنها اللاشعور، ومن ثمّ كانت سعيدة.
كان هناك في "باتنة" ملازم شاب انتدب لـ"مكتب العرب"، قدم حديثا من فرنسا، وقد طلب المجيء إلى الجزائر، ذلك أن حياة الثكنة التي قضاها لمدة سنتين عقب خروجه من "سان سير"، بعثت فيه الكثير من الضجر، كان يحمل روح الحلم و المغامرة. في "باتنة" أصبح و بسرعة صيادا لضرورة اقتضتها المسافات الطويلة التي كان يقطعها عبر أرجاء الريف الجزائري الوعر، الذي استهواه منذ البداية شخصيا .
فجر كل أحد، كان يعبر على سبيل الصدفة الطرق الوعرة للسهل تارة، وتارة أخرى يعبر الدروب الصعبة للجبال. في أحد الأيام، وقد أصابه إرهاق منتصف النهار، دفع بحصانه نحو الوادي المتوحش حيث تحرس "ياسمينة" غنمها.
جالسة تحت ظل صخرة يميل لونها إلى الاحمرار و حيث ينمو شجر العرعار العطر ، كانت "ياسمينة" تلهو شاردة الذهن بعيدان خضراء، تردد أغان بدوية ، كما الحياة يتجاور فيها الحب و الموت.
كان الضابط مرهقا، و قد هـدّأ الشعر المتوحش قليلا من روعه، عندما عثر على موقع ظليل حصانه ، تقدم صوب "ياسمينة" لم يكن يعرف كلمة واحدة باللغة العربية، سألها بالفرنسية:
- هل يوجد ماء من هنا ؟
دون أن تجيبه ، نهضت "ياسمينة" تهم بالانصراف قلقة، مذعورة أو تكاد .
- لماذا أنت خائفة مني؟ لن يحدث لك مكروه؟ قال مبتهجا بهذا اللقاء.
لكنها فرت من عدو سلالتها المنتصر و انصرفت.
تابعها الضابط بعينيه مليا، بدت له "ياسمينة" رشيقة تحت أسمالها الزرقاء بوجهها البيضوي الأسمر، حيث تتلألأ العينان السوداوان للعرق البربري بدهشة، تعابير وجوههم الحزينة الغامضة تتناقض بغرابة مع المحيط الحساس و الطفولي للشفاه الدموية، ثمة حلقتان صلبتان على شحمتي أذنيها تحيطان بوجهها الفاتن. وسط جبهتها بالتحديد رسم صليب بربري باللون الأزرق، رمز مجهول غير مفهوم لدى الأهالي الذين لم يكونوا إطلاقا مسيحيين، وقد اكتشفهم الإسلام في عز ازدهاره، متوحشين وثنيين.
على رأسها ذي الشعر الصوفي المسترسل ، الحالك السواد، وضعت خمارا أحمرا بسيطا، ملتفا على شكل عمامة مسطحة و مشعة، يوشك كل شيء فيها أن يتحوّل إلى سحر أسطوري، لم يستطع الضابط "جاك" أن يفهم كنهه.
مكث هنا طويلا قابعا على الصخرة التي غادرتها "ياسمينة"، كان يفكر في البدوية و في السلالة التي تنتمي إليها. إفريقيا هذه التي جاءها بإرادته بدت له عالما خرافيا لم يكتشف بعد، و أن السكان العرب من خلال السمات الخارجية لطباعهم، أغرقه في دهشة دائمة، لم يكن يعاشر رفاقه في الدائرة، كما لم يكن يردد الكليشيهات العدائية لكل ما هو عربي و مسلم.
ينحدر "جاك" من عائلة نبيلة في"الآرديـن" عاش طفولته في ظروف قاسية وسط مدرسة دينية بالإقليم، حافظ عبر السنوات التي قضاها بروح "جبلية" لا تزال مغلقة نسبيا أمام هذه "الروح المعاصرة"، متشككا ومعارضا لرأي مسبق يحمله بسرعة إلى الضعف الخلقي.
في الجزائر لم يكن يعرف سوى ملحمة الغزو والقتال واستعراض البطولات من هذا و ذاك منذ ثلاثين سنة بلا توقف، ولأنه كان ذكيا تمكن من تحليل أحاسيسه وترتيب أفكاره بشكل آخر.
و هكذا في يوم الأحد الموالي عندما وجد نفسه يسلك طريقا نحو "تيمقاد"، راوده إحساس بأنه جاء فقط لرؤية البدوية الصغيرة.
ولأنه يتميز بالنبل والصفاء لم يحاول مطلقا الاحتيال على ضميره، أقرّ بعدم الصمود أمام رغبته في شراء قطعة حلوى بنية ربط علاقة تعارف مع تلك الفتاة الصغيرة التي سيطرت على تفكيره خلال الأسبوع كله.
والآن... وهو ينطلق فجرا من الطريق الجميل لـ"لامبيز" مسرعا بحصانه، استولى عليه نفاد صبر استغربه … و الذي لم يكن في الواقع سوى فراغ استوطن قلبه، فهو لم يكد يخرج من الغموض المبتهج للمراهقة، حياة العزلة بعيدا عن بلده الأصلي، طهارة تفكيره التي لم تدنسها فجور باريس، لم يكن إذاً سوى هذا الفراغ العميق الذي جره إلى المجهول ليستشفه بعيدا في مستهل المغامرة البدوية .
أخيرا ولج المضيق العميق والضيق للـ"وادي" الجاف، هنا وهناك في الاكفهرار المتوحش للعليق، ألقى قطيع من الماعز بقعة سوداء قرب قطيع من الغنم الأبيض، فيما كان "جاك" يبحث بقلق عن قطعان "ياسمينة".
ترى ما اسمها؟ كم عمرها ؟ هل ستتكلم معي هذه المرة أم أنها ستفر مني مثل المرة السابقة؟ كان "جاك" يطرح على نفسه كل هذه الأسئلة بقلق متزايد، ثم كيف يمكنه أن يتحدث معها، طالما أنها و بالتأكيد لا تعرف كلمة فرنسية واحدة ، وهو بدوره لا يعرف حتى لغة "الصبير"
أخيرا و في البقعة الأكثر عزلة من "الوادي"، شاهد "ياسمينة" منبطحة بجوار غنمها تطوّق رأسها بيديها.
ما إن لمحته حتى انتصبت قائمة ، تبدي من جديد عداءها. متعودة على القسوة والاستخفاف التي كان يبديها عمال الآثار تجاههم، كانت تمقت كل ما هو مسيحي. من الواضح أن "جاك" لم يكن يريد بها شرا، يكفي أنها تراه شابا يافعا وسيما يرتدي بذلة من القماش الأبيض.
بجوارها " قربـة " ماء صغيرة معلقة بين ثلاثة أعمدة تشكل حزمة. بإشارة طلب منها ماء و دون أن تنبس بكلمة أومأت بيدها ناحية القربة...
شرب قليلا من الماء ، ثم سلمها قبضة من الحلوى الوردية، بخجل و دون أن تتجرأ على تقديم يدها، قالت بالعربية بنصف ابتسامة وقد رفعت لأول مرة عينيها نحو عيني "الرومي":
- "واش نو" ؟
- حلوى ! أجاب ساخرا من جهلها، و لكنه كان سعيدا لأن الجليد انكسر أخيرا بينهما.
قضمت قليلا منها ، ثم فجأة و بصوت خشن قليلا قالت :
- شكرا !
- لا، لا ، خذيها كلها.
- شكرا ! ،شكرا !، "مسيو" !، شكرا !
- ما هو اسمك؟
لم تفهم، و سرعان ما ابتسمت عندما شرع يعد لها ما يعرفه من أسماء للنساء العربيات.
ثم أجابت : "سمينة" (ياسمينة).
أرادها أن تجلس بجواره للاستمرار في الحديث ، لكنها انتفضت فارة من وجهه، و كأن روعا مباغتا أصابها.
كل أسبوع، عندما يقترب يوم الأحد، كان "جاك" يحدث نفسه، بأنه يتصرّف تصرّفا شريرا، وأن واجبه يقتضي أن يترك هذا المخلوق البريء في سلام ، فلا شيء يجمع بينهما وهو بالتالي لا يزيدها إلا معاناة … لكنه لم يكن حرا في الذهاب إلى "تيمقاد" أو المكوث في "باتنة"... ثم الانصراف.
لم تعد "ياسمينة" تخشاه ، في كل مرة كانت تحرص على الجلوس بنفسها بجواره، تحاول أن تعلمه أشياء يجهل معانيها في غالب الوقت، رغم المجهودات التي بذلتها الفتاة الشابة ولأنها أدركت استحالة تعلمه، ضحكت ضحكا أقلب رأسها إلى الخلف و هو ما أثار فيه إحساس ما بالشبق بعد أن اكتشف نصاعة أسنانها البيضاء كالحليب.
في المدينة حرص "جاك" حرصا شديدا على دراسة العربية الجزائرية بحماس شديد أثار استياء وسخرية رفاقه.
أحب "جاك " "ياسمينة" بجنون، مع جميع عنفوان رجل أحب لأول مرة، جمع فيه معا الحلم واللذة يأخذ فيه امتلاك الجسد شكلا من أشكال الطقوس التي يغلفها الحنان الصادق.
ما كان يحبه في "ياسمينة" نتيجة لجهله المطبق لروح البدوية، أنها كانت بالنسبة إليه كائنا خياليا صرفا، وليد مخياله، من المؤكد أنه لا يشبه الواقع كثيرا.
* القصة التي حملت عنوان المجموعة القصصية التي صدرت عن مجلة الدوحة مؤخرا للكاتبة ايزابيل ايبرهاردت وترجمة بوداود عمير
عندما وصلت "ياسمينة" أبلغتها أمها أنها ستتزوج من "محمد الأعور" صاحب مقهى بـ"باتنة" ، بكت "ياسمينة" في البداية، لأن "محمد" كان أعور وقبيح الشكل، و لأن هذا الزواج كان مفاجأة لها، ولم يكن متوقعًا، ولكن سرعان ما هدأ روعها وابتسمت ، ذلك أن الأمر بالنسبة إليها كان قضاءً و قدرًا.
مرّت الأيّام، لم تعد "ياسمينة" تذهب إلى المرعى، كانت منهمكة، بيديها الصغيرتين، في تحضير حقيبتها المتواضعة لعرسها البدوي. ما من واحدة من نساء "الدوّار" فكّرت في سؤالها عما إذا كانت سعيدة بهذا الزواج، لقد منحوها لـ" الأعور" كما يمكنهم أن يمنحوها لأي مسلم آخر، فلا معنى في هذه الحالة للسعادة، ولا للندم كذلك. كانت "ياسمينة" تعلم أن مصيرها أفضل قليلا من نساء أخريات من قبيلتها، ومادامت تسكن المدينة فليس لها كما "الموريات"، سوى الاعتناء ببيتها، وتربية أطفالها.
وحدهم الأطفال يضايقونها أحيانا، يصيحون: "امرأة الأعور!". كانت تمنع نفسها كذلك من الذهاب مع سقوط الليل، للبحث عن ماء الوادي مع النساء الأخريات، و قد كانت هناك عين ماء بساحة "البرج" بالمواقع الأثرية، لكن الحارس "الرومي" الموظف من الفنون الجميلة، لم يكن يسمح مطلقا لأهالي القبيلة باستعمال الماء الصافي والبارد للعين، لقد فرض عليهم ماء الوادي الشديد الملوحة الذي تدوسه قطعان الماشية في غدوّها وفي رواحها و هو ما جعل سكان القبيلة يصابون بالحمى الخبيثة.
في أحد الأيام أبلغ الأعور أبا "ياسمينة" انه لا يمكنه، قبل فصل الخريف، الالتزام بمصاريف العرس و دفع مهر الفتاة الشابة. أنهت "ياسمينة" جهاز العروس، وقد ناب شقيقها الأصغر "احمد" عنها في وظيفة الرعي، لكنه سرعان ما سقط مريضًا، ثم عادت من جديد لوظيفتها راعية، وقطع المسافات الطويلة عبر أرجاء السهل.
استمرت في أحلامها اللامتناهية، أحلام العذراء البدائية، في حين أن اقتراب الزواج لم يغيّر فيها شيئا، لم تكن تتطلّع إلى أي شيء، ولا ترغب في أي شيء، استوطنها اللاشعور، ومن ثمّ كانت سعيدة.
كان هناك في "باتنة" ملازم شاب انتدب لـ"مكتب العرب"، قدم حديثا من فرنسا، وقد طلب المجيء إلى الجزائر، ذلك أن حياة الثكنة التي قضاها لمدة سنتين عقب خروجه من "سان سير"، بعثت فيه الكثير من الضجر، كان يحمل روح الحلم و المغامرة. في "باتنة" أصبح و بسرعة صيادا لضرورة اقتضتها المسافات الطويلة التي كان يقطعها عبر أرجاء الريف الجزائري الوعر، الذي استهواه منذ البداية شخصيا .
فجر كل أحد، كان يعبر على سبيل الصدفة الطرق الوعرة للسهل تارة، وتارة أخرى يعبر الدروب الصعبة للجبال. في أحد الأيام، وقد أصابه إرهاق منتصف النهار، دفع بحصانه نحو الوادي المتوحش حيث تحرس "ياسمينة" غنمها.
جالسة تحت ظل صخرة يميل لونها إلى الاحمرار و حيث ينمو شجر العرعار العطر ، كانت "ياسمينة" تلهو شاردة الذهن بعيدان خضراء، تردد أغان بدوية ، كما الحياة يتجاور فيها الحب و الموت.
كان الضابط مرهقا، و قد هـدّأ الشعر المتوحش قليلا من روعه، عندما عثر على موقع ظليل حصانه ، تقدم صوب "ياسمينة" لم يكن يعرف كلمة واحدة باللغة العربية، سألها بالفرنسية:
- هل يوجد ماء من هنا ؟
دون أن تجيبه ، نهضت "ياسمينة" تهم بالانصراف قلقة، مذعورة أو تكاد .
- لماذا أنت خائفة مني؟ لن يحدث لك مكروه؟ قال مبتهجا بهذا اللقاء.
لكنها فرت من عدو سلالتها المنتصر و انصرفت.
تابعها الضابط بعينيه مليا، بدت له "ياسمينة" رشيقة تحت أسمالها الزرقاء بوجهها البيضوي الأسمر، حيث تتلألأ العينان السوداوان للعرق البربري بدهشة، تعابير وجوههم الحزينة الغامضة تتناقض بغرابة مع المحيط الحساس و الطفولي للشفاه الدموية، ثمة حلقتان صلبتان على شحمتي أذنيها تحيطان بوجهها الفاتن. وسط جبهتها بالتحديد رسم صليب بربري باللون الأزرق، رمز مجهول غير مفهوم لدى الأهالي الذين لم يكونوا إطلاقا مسيحيين، وقد اكتشفهم الإسلام في عز ازدهاره، متوحشين وثنيين.
على رأسها ذي الشعر الصوفي المسترسل ، الحالك السواد، وضعت خمارا أحمرا بسيطا، ملتفا على شكل عمامة مسطحة و مشعة، يوشك كل شيء فيها أن يتحوّل إلى سحر أسطوري، لم يستطع الضابط "جاك" أن يفهم كنهه.
مكث هنا طويلا قابعا على الصخرة التي غادرتها "ياسمينة"، كان يفكر في البدوية و في السلالة التي تنتمي إليها. إفريقيا هذه التي جاءها بإرادته بدت له عالما خرافيا لم يكتشف بعد، و أن السكان العرب من خلال السمات الخارجية لطباعهم، أغرقه في دهشة دائمة، لم يكن يعاشر رفاقه في الدائرة، كما لم يكن يردد الكليشيهات العدائية لكل ما هو عربي و مسلم.
ينحدر "جاك" من عائلة نبيلة في"الآرديـن" عاش طفولته في ظروف قاسية وسط مدرسة دينية بالإقليم، حافظ عبر السنوات التي قضاها بروح "جبلية" لا تزال مغلقة نسبيا أمام هذه "الروح المعاصرة"، متشككا ومعارضا لرأي مسبق يحمله بسرعة إلى الضعف الخلقي.
في الجزائر لم يكن يعرف سوى ملحمة الغزو والقتال واستعراض البطولات من هذا و ذاك منذ ثلاثين سنة بلا توقف، ولأنه كان ذكيا تمكن من تحليل أحاسيسه وترتيب أفكاره بشكل آخر.
و هكذا في يوم الأحد الموالي عندما وجد نفسه يسلك طريقا نحو "تيمقاد"، راوده إحساس بأنه جاء فقط لرؤية البدوية الصغيرة.
ولأنه يتميز بالنبل والصفاء لم يحاول مطلقا الاحتيال على ضميره، أقرّ بعدم الصمود أمام رغبته في شراء قطعة حلوى بنية ربط علاقة تعارف مع تلك الفتاة الصغيرة التي سيطرت على تفكيره خلال الأسبوع كله.
والآن... وهو ينطلق فجرا من الطريق الجميل لـ"لامبيز" مسرعا بحصانه، استولى عليه نفاد صبر استغربه … و الذي لم يكن في الواقع سوى فراغ استوطن قلبه، فهو لم يكد يخرج من الغموض المبتهج للمراهقة، حياة العزلة بعيدا عن بلده الأصلي، طهارة تفكيره التي لم تدنسها فجور باريس، لم يكن إذاً سوى هذا الفراغ العميق الذي جره إلى المجهول ليستشفه بعيدا في مستهل المغامرة البدوية .
أخيرا ولج المضيق العميق والضيق للـ"وادي" الجاف، هنا وهناك في الاكفهرار المتوحش للعليق، ألقى قطيع من الماعز بقعة سوداء قرب قطيع من الغنم الأبيض، فيما كان "جاك" يبحث بقلق عن قطعان "ياسمينة".
ترى ما اسمها؟ كم عمرها ؟ هل ستتكلم معي هذه المرة أم أنها ستفر مني مثل المرة السابقة؟ كان "جاك" يطرح على نفسه كل هذه الأسئلة بقلق متزايد، ثم كيف يمكنه أن يتحدث معها، طالما أنها و بالتأكيد لا تعرف كلمة فرنسية واحدة ، وهو بدوره لا يعرف حتى لغة "الصبير"
أخيرا و في البقعة الأكثر عزلة من "الوادي"، شاهد "ياسمينة" منبطحة بجوار غنمها تطوّق رأسها بيديها.
ما إن لمحته حتى انتصبت قائمة ، تبدي من جديد عداءها. متعودة على القسوة والاستخفاف التي كان يبديها عمال الآثار تجاههم، كانت تمقت كل ما هو مسيحي. من الواضح أن "جاك" لم يكن يريد بها شرا، يكفي أنها تراه شابا يافعا وسيما يرتدي بذلة من القماش الأبيض.
بجوارها " قربـة " ماء صغيرة معلقة بين ثلاثة أعمدة تشكل حزمة. بإشارة طلب منها ماء و دون أن تنبس بكلمة أومأت بيدها ناحية القربة...
شرب قليلا من الماء ، ثم سلمها قبضة من الحلوى الوردية، بخجل و دون أن تتجرأ على تقديم يدها، قالت بالعربية بنصف ابتسامة وقد رفعت لأول مرة عينيها نحو عيني "الرومي":
- "واش نو" ؟
- حلوى ! أجاب ساخرا من جهلها، و لكنه كان سعيدا لأن الجليد انكسر أخيرا بينهما.
قضمت قليلا منها ، ثم فجأة و بصوت خشن قليلا قالت :
- شكرا !
- لا، لا ، خذيها كلها.
- شكرا ! ،شكرا !، "مسيو" !، شكرا !
- ما هو اسمك؟
لم تفهم، و سرعان ما ابتسمت عندما شرع يعد لها ما يعرفه من أسماء للنساء العربيات.
ثم أجابت : "سمينة" (ياسمينة).
أرادها أن تجلس بجواره للاستمرار في الحديث ، لكنها انتفضت فارة من وجهه، و كأن روعا مباغتا أصابها.
كل أسبوع، عندما يقترب يوم الأحد، كان "جاك" يحدث نفسه، بأنه يتصرّف تصرّفا شريرا، وأن واجبه يقتضي أن يترك هذا المخلوق البريء في سلام ، فلا شيء يجمع بينهما وهو بالتالي لا يزيدها إلا معاناة … لكنه لم يكن حرا في الذهاب إلى "تيمقاد" أو المكوث في "باتنة"... ثم الانصراف.
لم تعد "ياسمينة" تخشاه ، في كل مرة كانت تحرص على الجلوس بنفسها بجواره، تحاول أن تعلمه أشياء يجهل معانيها في غالب الوقت، رغم المجهودات التي بذلتها الفتاة الشابة ولأنها أدركت استحالة تعلمه، ضحكت ضحكا أقلب رأسها إلى الخلف و هو ما أثار فيه إحساس ما بالشبق بعد أن اكتشف نصاعة أسنانها البيضاء كالحليب.
في المدينة حرص "جاك" حرصا شديدا على دراسة العربية الجزائرية بحماس شديد أثار استياء وسخرية رفاقه.
أحب "جاك " "ياسمينة" بجنون، مع جميع عنفوان رجل أحب لأول مرة، جمع فيه معا الحلم واللذة يأخذ فيه امتلاك الجسد شكلا من أشكال الطقوس التي يغلفها الحنان الصادق.
ما كان يحبه في "ياسمينة" نتيجة لجهله المطبق لروح البدوية، أنها كانت بالنسبة إليه كائنا خياليا صرفا، وليد مخياله، من المؤكد أنه لا يشبه الواقع كثيرا.
* القصة التي حملت عنوان المجموعة القصصية التي صدرت عن مجلة الدوحة مؤخرا للكاتبة ايزابيل ايبرهاردت وترجمة بوداود عمير