لم يكن أحد ليحفل بنهاية حياة تلك النبتة التي كانت لحدود اليومين الماضيين تبدو بحالة لا بأس بها تقريبا و هي في ذلك الأصيص المهمش في ذلك الركن القصي من البيت و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده احد.
مع انها ظلت حريصة منذ أن تم انتدابها عصر ذلك اليوم الخريفي من ذلك المشتل الصغير الذي يقع في ذلك المكان البعيد في أطراف تلك المدينة الصاخبة و الذي لم يكن ينتبه غالبا لوجوده أحد ، ظلت بغريزتها النباتية حريصة على القيام بدورها في تذكير الجميع بعلاقتهم المتوترة بتلك الطبيعة الأم ، تلك التي تقع على مرمى حجر من نوافذهم الموصدة دائما ، الشبه مفتحة أحيانا في تحسب غير بريء من تقلبات الفصول ، ربما ...
كانت تعرف أن مهمتها تقتضي أن يكسر لونها الخافت بياض الجدارين اللذين يشكلان في التقائهما ركنا أو زاوية تغري في ما يشبه الصراخ بوضع مزهرية فاخرة أو نبتة تضفي لمسة من الحميمية على منظر الغرفة الجامد رغم الثراء الواضح في تفاصيلها ، لذلك كانت تبدأ صباحاتها ببعث شيء من الألق في وريقاتها التي كان يحتلها الغبار بين الفينة و الأخرى عندما كانت يد الخادمة ذات الملامح المحايدة جدا تتأخر عنها ، خضرة الوريقات الصغيرة كانت تبدأ ناصعة متألقة لتشحب شيئا فشيئا حالما تبدأ خيوط الظلام بالتسلل عبر الستائر المسدلة غالبا ، كانت تبدل الكثير مما يُحمد التنويه به لتظل جميلة ، و مع ذلك لم ينتبه أحد إلى هذا المجهود الكبير الذي كانت تبذله ..
لم تنس يوما دورها مع بدايات تسرب ذلك النور الخافت الذي كان يسبق ذلك الفجر المتكرر كل يوم ، كانت تبدأ مباشرة في امتصاص تلك التربة المختلفة كثيرا عن تربتها الأولى و التي اقتضت ظروف إعادة الغرس أن تتغير و تستبدل بتربة من أحد المراكز التجارية . كانت تربة تحقق كل الشروط التي رأى السيد أنها كافية للحياة لكنها منذ اللحظة الأولى أحستها مختلفة .. لم تشعر يوما أنها تنتمي إليها رغم الاشهر الطويلة التي قضتها محاولة التأقلم و مد جذورها الدقيقة فيها . تغير لونها مباشرة بعد أن أودعتها تلك اليد الخبيرة هناك و من يومها وهي تحاول استعادة عافية قُيّد لها التبدد يوما بعد الآخر في صمت . و مع ذلك لم ينتبه أحد إلى هذا المجهود الكبير الذي كانت تبذله ..
كانت من ركنها الفاخر شاهدة خلال تلك المدة على الكثير من الأشياء الرخيصة ، جنون السيدة و هي تمارس عاداتها الغريبة خلسة ، بشريتها المتوحشة و هي تخاطب الخادمة ، تصَنّعُها المُفرط وهي تداعب زوجها ، وشواشتها و نظراتها المريبة عندما تتحدث عبر الهاتف ، عاينت أيضا بذاءة السيد وهو يظن أن لا أحدا يراقبه و تصرفاته الموغلة في البلاهة ، وجومه الغريب محدقا في الفراغ لساعات أحيانا ، شجاراتهما الكثيرة ، فلتات الخادمة و هي تعمل جاهدة كل يوم على إصلاح ما يفسده شغب الطفلين ، سبابها المكتوم انتقاماتها السرية ، نظرات الضيوف المتلصصة هنا و هناك و تعليقاتهم اللاذعة الغير بريئة من وراء ظهور بعضهم البعض ، ليالي العبث الغير محسوبة التي قضتها شاهدة تغزل كلمات من صدى كل ذلك الضجيج الذي كان يملؤ تلك الاجواء و يطفح به ذلك الهواء الموبوء لتلك الغرفة الصلدة المغلقة على نفسها رغم كثرة نوافذها ومع .. مع ذلك لم ينتبه أحد يوما إلى هذا المجهود الكبير الذي كانت تبذله ..
لكنها اليوم على غير عادتها لم تستطع جعل أوراقها تسترد حيويتها و لم تستطع إصلاح تلك الالتواءات التي نشبت في حوافها و هذا اللون البني الصارم الذي بدأ يُحدق بها لم تعد ترى مبررا للاستمرار أهملت اوراقها و تركت ذلك اللون الجنائزي يلفها .
و للمرة الاولى حانت نظرة من السيد صوبها خلال جلسته هناك بالقرب من تلك النافذة المغلقة ، نظرة ممعنة تلتها مجموعة من تلك الكلمات الصاخبة التي وجهت مباشرة للخادمة التي حملتها على عجل إلى الخارج لتجد نفسها مستقرة ككسر لم يكتب له الجبر في تواريخ التذكر و النسيان بين بقية ما تم التخلص منه ذلك اليوم ..
نظرة الخادمة ذات الملامح المحايدة جدا ثم صوت الحاوية و هي تغلق بعنف محولة زرقة السماء إلى سواد منتن كانا كافيين لتتأكد بما لا يدع للشك مجال أن لا أحد .. لا أحد بالمرة قد انتبه إلى ما بذلته من جهود هناك في ركنها القصي .. طيلة أشهر خلت..