فنون بصرية برهان شاوي - ملاحظات حول مفهوم الصورة في الثقافة العربية الاسلامية

مـقـدمـة لا بـد منـها:

لكي أوضح رؤيتي حول الموضوع، انطلق، في البدء، من تصوري بان إشكالية ( الصـورة ) في الانثربولوجيا الثقافية للشعوب والحضارات المختلفة، هي جزء من إشكالية ( الجسـد والمقدس). وهذه الاشكالية لم تجد لها حراكا في الثقافة العربية الاسلامية فحسب، وانما كانت موضوعا إشكاليا بين الديانات الوثنية والديانات السماوية. فجميع الديانات الوثنية تآلفت مع الصورة، والتشخيص، والتجسيد، الى حد التماهي، بينما وقفت جميع الديانات السماوية، بتشدد، ضد التجسيد، والتشخيص، والترميز من خلال الصورة. وتأكيدا على ذلك، نجد ان النص التوراتي يعلن صراحة: ( اللعنة على من يصنع الصورة المنحوتة) .

موقف الاديان السماوية، كلها، من الصورة، له ترادفات وروابط مع بعض المفاهيم الاخرى مثل: المرأة، الخطيئة، الشر، الرغبة. ولا أريد هنا التوسع في هذه القضية، لكن يمكن الاحالة فيها الى ( ريجيس دوبريه ) الذي ناقشها بشكل رائع في كتابه ( حياة الصورة وموتها ).

الديانة المسيحية، مثلا، ظلت حتى القرن الثامن الميلادي لا تعرف التصوير، إلا بشكل محتشم جدا، وهي كذلك لم تقبل النحت وصناعة التماثيل كما كان شائعا في الحضارتين الاغريقية والرومانية، رغم انها ورثتهما شرعيا. فالتاريخ يشهد بأن الكنيسة المسيحية عاشت صراعا حادا بين المعادين للتصوير، من اتباع الكنيسة الشرقية البيزنطية، وبين المؤيدين له في الكنيسة الرومانية، ولم يحسم هذا الصراع إلا في العام 843 بعد حروب أهلية طاحنة بين اتباع الكنيستين، حيث سمح للتصوير التشخيصي من أجل ابراز القدرة الالهية عبر صورة المسيح.


مـوقــف الاســـلام

موقف الاسلام من التصوير تم تشويهه، والمبالغة في تبيان تشدده، لا سيما من قبل المستشرقين الذين نعتوا الاسلام بالجمود والتخلف في هذا المجال، رغم أن أي تأمل منصف، وبحث جاد، سيؤكد عكس ذلكن علما ان مثل هذه النظرة، للأسف إنتشرت بين الكثير من المسلمين، بمن فيهم بعض رجال الدين، اذا لم نقل انهم الاكثر تشددا في تاكيد مثل هذه النظرة، مع الأسف.

الصورة ، لغة؛ كما جاء في ( لسان العرب ) لابن منظور، تعني: الوجه، الزخرفة، الكتابة الخطية، الوشم، الخيال، الوهم، التماثيل المجسمة، العلامات الرمزية وغبر الرمزية. لكن خطورة ( الصورة ) لا تكمن في تنوع تشكيلها اللغوي، وانما في تعدد مستويات دلالتها، لقدرتها الفائقة، بل المذهلة، على تجسيد وتمثيل ( المـرئي - الواقعي ) و( الخيالي ) ايضا، أي تجسيد الوهم والغياب.

إشكالية الصورة، كما اوضحتُ في البداية، لها علاقة بالجسد وبالمقـدس. والجسد له علاقة بالخطيئـة. فمثيولوجيا الأديان السماوية كلها، تؤكـد أن خطيئة ابونا ( آدم ) وأمنا ( حـواء ) كانت خطيئة مرتبطة ب( العيـن ) التي كانت باب الغواية التي دعتهما لأكل التفـاحة.

وبعض التفسيرات والروايات تذهب الى أبعـد من ذلك حينما تؤكد على ان الجسـد كان ( الخطيئـة الأولى )، وبما ان الجسد كان مبعث الغـواية، فقد لعـن الجسد وغواياته في جميع الأديان السماوية. وهنا نجد أحد جذور تحـريم ( التصوير الشخصي ) في الأديان.

الإسـلام، من الناحية الجمـالية، قدم تصورا متقدما للجسـد قياسا الى الأديان الأخرى، سواء من خلال طقوس الطهـارة والوضـوء وإستخدامات الجسـد أو من حيث (التقـبل الجمـالي).

ولدينا حديث نبوي شريف ينص ( إن اللــه جميـل ويحـب الجمــال )، يسند رأينا هذا.

عموما، لا أريد هنا أن أدخل في مباحث فلسفة الجسـد الجمـالية في الثقافة الإسلامية، لكنني أتخذ منها عتبة للإقتراب من إشكاليـة ( الصـورة ) في الثقـافة العربية الإسلامية.

لقتد أكدتُ في البداية بان المستشرقين الأوربيين روجـّوا لمفاهيم مغلوطـة ومشوهة عن تشدد الإسلام، وتحريمـه ل( الصـورة )، وهـذا غير دقيـق، فلقد كانت الثقافة العربية في الجاهلية، شفوية، وتعتمد على جهاز ( الأذن ) وعلى حاسة ( السمـع )، وكانت بالأساس ثقافة شعرية وبلاغية. ورغم ان العـرب، آنذاك، كانوا يعبدون الأصنـام إلا ان (فــن النحت) و( الرسـم ) لم يتطورا لديهم كما كان عند الأغريق، والفرس، والفراعنـة، الذين سبقوهم في عبادة الأصنام بقرون عديدة..!! وبالتالي لم يكن الرسم أو النحت من الفنون الشائعة البارزة، في الحياة الجاهلية كي يأتي الإسلام ليحرمه كما حرّم معظم طقوس وعادات العرب السابقة عليه.

إن الإسلام لم يكن دعوة دينية فقط، وانما كـان نقـلة حضارية جبارة. فعلى الضد من معظم الطروحات الأوربية، والتي يرددها، أحيانا، بعض رجال الدين او المتدينيين، فان الإسلام أعاد الإعتبار لحاسة ( البصـر )، وأعاد الإعتبار لجهاز ( العيـن ) في مجتمع شفاهي، سماعي، تسيطر فيه ( الأذن )، أي بمعنى آخر، إن الإسلام أعاد الإعتبار ل( الصـورة ).

فلقد جاء ذكر ( العين )، كماكنة للإبصـار، في القرآن الكريم ( 30 ) مرة، مقابل ( 16 ) مرة لذكر ( الأذن )!!
* ( لهـم قـلوب لا يفقهـون بها ولهم أعين لا يبصـرون بهـا ) - سورة الأعراف.
بل ان مفردة ( البصـر ) ومشتقاتها ورد ذكرهـا في القرآن الكريم ( 140 ) مرة :
* ( فأرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير )
بل ان اللـه سبحان وتعالى أطـلق إسم ( البصير ) على ذاته المقدسـة، وقـد جاء ذكر (البصير) في القرآن الكريم ( 36 ) مرة.
كلمة ( الصـورة ) ذاتها جاءت في القرآن الكريم ( 8 ) مرات، كما ان اللـه ،عز وجل، أطلق على ذاته المقدسة إسم (المصـور)، فقد جاءت هذه المفردة كأحد أسماء اللـه الحسنى، علما إن هذه المفردة لم يتم تداولها بهذا المعنى في الموروث اللغوي الجاهلي:
* ( هـو اللـه الخـالق البـاريء المصـور ) - سورة الحشر
* ( هـو الذي يصـوركم في الأرحـام كيف يشـاء ) - سورة آل عمران
كلمـة ( النظـر )، وهو فعل تقـوم به ( العيـن )، جاء ذكرها في القرآن الكريم ( 104 ) مرة.
* ( قـل أنظـروا في السموات والأرض ) - سورة يونس
بينما جاء ذكر حاسة ( السمع ) في القرآن ( 160 ) مرة، ولفظ ( السميع ) كاحد أسماء اللـه الحسنى ( 43 ) مرة.
ولو توجهنا لموضوع ( ثقـافة الصـورة ) من بوابات عـلم الإتصال ونظرياته، وتوقفنا عند تاثيرات الرسالة ومضمونها على الرصيد المعرفي والوجداني والسلوكي، وتأثيرها في تشكيل المواقف والإتجاهات، من خلال تأثيرات ( الإعـادة ) و( التكـرار )، وتوقفنا عند ما جاء في القرآن الكريم
لتوصيف جوهر الرسالة الإعلامية للإسلام، لوجدنا أن كلمة ( العلـم ) ومشتقاته جاءت في القرآن ( 746 ) مرة.
* ( والراسخون في العلـم يقـولون آمنـا ) - سورة آل عمران
* ( قـل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلـم إلا قليلا ) - سورة طـه
* ( وقـل رب زدنـي علمـا ) - سورة طـه
بل أن كلمة ( العلـم ) ذاتها، وردت ( 80 ) مرة، و( العليم ) وردت ( 140 ) مرة، كما وردت
مفردة ( فكـر )، وفعلها الماضي ( فكـر ) (18 ) مرة.
* ( قـل هـل يسـتوي الأعمى والبصير افلا تتفـكرون )- سورة البقرة
أمـا مفردة ( العقـل ) فقد وردت في القرآن الكريم ( 57 ) مرة.
* ( صـم بكم ، عمي، فهـم لا يعقـلون )، وهنا بالذات نجد إستخداما لكل أجهزة الحواس المستقبلة
للرسالة الإعلامية، كما نجد إشارة لكل أنواع وسائل الإعلام.
حتى كلمة ( الـرأي ) و( الرؤيـة ) يرد ذكرها في القرآن ( 315 )مرة، وجميعها وردت بصيغة تأملية، ودعوة لتشكيل الرأي مثل: ( ألم تر، لـو ترى، ما ترى، أرأيتـم..) وما شابه.

من خلال هذه المعادلة الحسابية البسيطة وتطبيقاتها في مجال الإعلام والإتصال الجماهيري وتأثيراته، وإعتمادا على معظم نظريات التأثير التي توضح دور عوامل ( التكرار ) و( الإعـادة ) و( التـأكيد )، ودور ( الوقت ) لإيصال الفكرة والرسالة الإعلامية الى المتلقي، نجد ان القـرآن الكريم كان يعيد، ويكرر، ويدعو الناس إلى إعمال الفكر والعقل، وإستخدام الحواس، كالسمع والبصر، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما..!!! وهنا يمكننا أن نتعرف على عمق وضخامة النقـلة الحضـارية في ( الحـواس ) التي قام بها الإسلام لصالح ( العيـن )، ولصالح ( الصـورة ) ولصالح ( الثقـافـة البصـرية ) قياسا الى تلك الثقافة الشفاهية - السمعية التي كانت سائدة في الجاهلية، وكلنا يعرف، تاريخيا، كيف تراجع الشعر في مرحلة فجر الإسلام، منذ الدعوة وحتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين.

ولكي لا أنحاز الى ثقافتي الدينية على حساب موضوعية البحث، أعود الى موقف الأديان عموما من ( الصورة )، فالإسلام تحديدا، كانت دعوته تحارب ( الرمزية الدينيـة ) التي تركز على فكرة الألوهيـة من خلال ( الصـورة )، فالألوهية في الإسلام منزهة عن التجسـيد. إشكالية ( الصـورة )، على مستوى المجتمع العربي، جاءت مع قيام الدولة الأموية. فقد اعاد الأمويون الإعتبار لحاسة ( السمع ) وفضلوها على حاسة ( النظـر )، من خلال تقريبهم للشعراء، وإحياء أغراض المديح والهجاء في الصراعات السياسية التي خاضوها مع خصومهم من بني هاشم او بقية اعيان القبائل العربية التي لم تقبل بهم وبأحقيتهم في الخلافة. أي ان فترة الأمويين كانت إرتدادا على مستوى الحواس، رغم ان الخلفاء الأمويين أنفسهم زينوا قصورهم بالرسوم التشخيصية، بل وحتى بالتماثيل، تقليدا لملوك الروم، لكنهم على صعيد المجتمع العربي الأسلامي أعادوا الإعتبارللعصبية القبلية، وللرواية الشفاهية، وأعتقـد أن أية دراسة موضوعية تبحث في أسباب ذلك، لا بد لها ان تصل الى ان للأمر علاقة بالصراعات السياسية من أجل السلطة في تلك الفترة بدءا من مقتل عثمان بن عفان. ولكننا هنا ، وللإنصاف التاريخي، لا بد وان نشير الى ان الأمويين طوروا مفهوم آلية الدعاية، باعتبارها شكلا إعلاميا في تلك الفترة.

لكن من المؤكد بان هذا لا يعني ان مفهوم ( الصـورة ) لم يتطور في الثقافة العربية الإسلامية الجديدة، فلقد عاش العرب مجاورين لشعوب فارس والهند والروم والأفارقة، وهذه الشعوب لم تتخل عن ذاكرتها التصويرية عند دخولها الإسلام، وانما كيفت هذه الذاكرة مع مقتضيات الديانة الجديدة. ومـن هنا نجد ان ( الصـورة ) و( التصوير ) تطورا في الهوامش والبلدان والحواضر الإسلامية غير العربية، بينما تطورت الصورة البلاغية، الفنية، الشفوية، الشعرية،عند العرب في المركز، أي في حاضرة الخلافـة.


تجـليـات الصــورة

( الصـورة ) في حد ذاتها، وجدت لها تجليات جمالية جديدة في المجتمع الإسلامي، تجسدت من خـلال ( الكتابة )، أي من خلال ( الخط العربي )، لا سيما في ( الكتابة القرآنيـة )، أو ما يسمى ب( الحـروفيـة ).

صحيح ان الدراسات اللسانية والبنيوية أعطت ( الصـوت ) إهتماما وحظوة، إلا ان (الكتابة) هي ( صـورة الكلام ). ولأن الإشكال مع ( الصورة ) هي كونها ( ترمز ) للمرئي والخيالي وللغياب، وتدل عليه، وان نظرة الإسلام الطهرانية للجسـد لم تحبذ ان يكون الجسـد موضوعا للتشخيص، إلا أن التحولات الروحية والحسية - البصرية، وفهم الإسلام بان ( الصورة ) و( التشخيص ) يستدعيان الروح، ولدوافع متعلقة بجمع القـرآن الكريم، بعد إنتشار الإسلام في الأمصار وبين الشعوب غير العربية، فأن ( الخـط ) وبالتحديد ( الكتابة القـرآنية ) صارت هي ( الصـورة ) في الفهم الإسلامي.
الصوفيون، لا سيما ابن عـربي، أعادوا الإعتبار للكتابة وللحرف العربي، إذ جعلوا ( الحروف ) كائنات روحانية ، فكان ( الألف ) أول الحروف التي سجدت لأبينا ( آدم ) ، لذا جعله اللـه الحرف الأول بأمتياز، رغم ان الصوفيين يرون ان الأشياء المحسوسة هي ( شكل )، وان الصورة
المتخيلة هي ( الصورة الحقيقة)، اي ان ( الصورة ) نشاط روحاني غير محسوس، وهذا نجده، قبل الصوفيين، عند أفلاطون وفيثاغورس في نظرية المثل والأرقام.

( الخط العربي ) هو الأقرب لمفهوم ( الصورة )، لأنه منح ( الحرف ) إستقلالية عن سلطة الصوت والمعنى. فصار كائنا مستقلا لحاله، وصار جمال الصورة المكتوبة معادلا لجمال جسد الحروف وهي تتشابك وتتعانق بسمو، مقترحة على العين علاقة أخرى للتعامل مع اللغـة.

عموما، ان ( الصورة ) قد وجدت لها منافذ في فضاء الثقافة العربية الإسلامية، لا سيما في هيئة المساجد، والقصور، والمنمنمات والنقوش التزينية في بعض نسخ القـرآن الكريم، والمنمنمات الفارسية، وما تبقى من قصور، ( قصر الحمراء مثلا)، مرورا بلوحات الواسطي التي زين بها مقامات الحريري، وهذا يدعم رأينا بأن الصورة التجسيمية لم تمنع منعا باتا في
الإسلام.

إن إشكالية الصورة كانت دائما موضع جدل من الناحية الفقهية والتفسيرية والكلامية، ورغم ذلك فهي على إمتداد تاريخ الثقافة العربية الإسلامية كان لها تقبلا ضمنيا،علما ان هذا الجدل والنزاع لم يحسم بصورة نهائية، خاصة فيما له علاقة بالتصوير التشخيصي، لذا نجد ان الصورة التجريدية لها حضور أكبر بكثير قياسا الى الصورة التشخيصية، كما ان لفـن التشكيل حضور أكبر من فن النحت، وغياب كبير لفن البورترت.

وأخيرا، فمهما كانت تجليات الصورة في الثقافة العربية الإسلامية مختلفة عن أشكال تطورها في العالم المسيحي واليهودي، فان ( الصورة ) في الثقافة العربية الإسلامية لم تفقد دلالتها الفلسفية في كونها زمن مطبـوع، ومكان مجمـد، وأنها تعبيرعن الزمان والمكان في لحظة إنسيابهما نحو الأبدية، حتى ولو كانت تلك الصورة هي لوحة خطيـة، حـروفيـة. الصـورة تاريخ، وتوثيق، وعاطفة، وفعـل، وحركـة، وزمـن، كما يفلسفها المفكر الفرنسي ( جيل دولوز )، وهي بهذا المفهوم كانت في الثقافة العربية الإسلامية، لكننا اليوم إبتعدنا كثيرا عن الجوهر، وتمسكنا بالشكل إحتكاما لمناهج أحادية الجانب، وبالتالي فأن إعادة الإعتبار للعيـن ولحاسة البصر لم يكن غريبا عن الثقافة الإسلامية في جوهرها الصافي، وفي نص كتابها المقتدس.



* عن الحوار المتمدن

برهان شاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى