فنون بصرية حكمت مهدي جبار - قضية تحريم فن الرسم والنحت في الأسلام

(1)

منذ تخرجنا من كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد .كانت تلاحقنا الهواجس والأفكار فيما يخص ممارسة اختصاصنا في فن الرسم الذي كان مدار نقاش فكري محتدم بين الفنانين والمفكرين


والمثقفين وأساتذة الجامعات من جهة وبين ورجال الدين وأهل الفقه من مختلف المذاهب من جهة اخرى..حتى صار الموضوع يؤرقنا سيما ونحن قد حصلنا على شهادة البكالوريوس كدرجة علمية جامعية لنا حق التمتع بكل ما تخوله لنا هذه الشهادة من حقوق وأمتيازات ..انقسم حملة هذه الشهادة الى ملل ونحل. فمنهم من ظل يعيش التردد نتيجة قلقه الروحي لاسيما الذين لديهم واعز ديني كبير . ومنهم من سار على خط محايد ومنهم من تجاوز كل ذلك وشق طريقه في فن الرسم والتصوير ليحصل من وراء ذلك على لقمة عيشه. أن هذه القضية قديمة وقد قامت على اشكاليات ثقافية اجتماعية فقهية .ولسنا في هذا المقال المختصران نتعرض لحديث طويل عن موقف الأسلام من فن الرسم (التصوير) لأنه موضوع واسع وكبير يحتاج لمناقشات مسهبة . ويكفي (1) (ان نشير الى ان القرآن الكريم لم يأت فيه ما يحرم تصوير الكائنات الحية او عمل تماثيلها وان كان القول بتحريم التصوير في الاسلام وثيق الصلة ببعض الآيات القرآنية التي تنسب التصوير الى الله تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ......آية 11الأعراف) والله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم......11المؤمن) (وهو الله الخالق الباريء المصور له الاسماء الحسنى ........24الحشر) (وهو الذي يصوركم في الارحام ....6آل عمران).فأن هذه الايات الكريمة التي تذكر ان الله تعالى هو الخالق والمصور لايمكن انكار صلتها بفكرة النفور من مضاهاة الله وتلك هي الفكرة الواضحة في الاحاديث النبوية التي رواها اعلام المحدثين والتي تنص على تحريم التصوير ولكن كثيرا من الجدل العلمي والفقهي قد ثار حول هذا التحريم منذ فجر الاسلام حتى وقتنا هذا فقد اختلف الفقهاء ومنذ البداية في تفسير تلك الاحاديث وتحديد المقصود بالتحريم بل ذهب ابو علي الفارسي من فقهاء القرن الرابع الهجري الى ان تحريم التصوير مقيد فلا ينصرف الا من (صور الله تصوير الاجسام) فمن صنع غير ذلك (لم يستحق الغضب من الله والوعيد من المسلمين) والرأي السائد في ان كراهية التصوير في الاسلام يرجع الى عصر النبي محمد صلى (ص) وأن اساسها الحرص على الابتعاد عن اتلوثنية وعبادة الاصنام فضلا عن النفور من مضاهاة خلق الله وعن كراهية الترف والامور الكمالية في ذلك العصر الذي ساد فيه الزهد والتقشف والجهاد في سبيل الله وقد ادى اختلاف الفقهاء في تحديد المقصود بالتحريم الى ان قال بعض اعلام المفكرين في العصر الحديث كالشيخ محمد عبده بأن التحريم التصوير لم يكن مطلقا وان الصور والتماثيل مباحة متى أمن جانب العبادة والتعظيم الذي اختص بهما الله وهذا أمر طبيعي بين المسلمين الآن وبعد أن توطدت اركان الاسلام ورسخت دعائمه ولم يعد ثمة خطر من الوثنية التي كان النبي (ص) يخشى على ضعاف النفوس من العودة اليها.وهنا نتسائل مرة اخرى .هل حرم الاسلام فن الرسم (التصوير) ؟ لقد مرذكر بعض ما يتعلق بهذا الموضوع فبعد ظهور الاسلام استبعد الرسم والنحت ليصرف الناس عن عبادة الصور والاصنام (2)..فالنبي عند فتح مكة التي كانت مرتع الخيال الوثني أمر بتحطكيم التماثيل التي كان تعدادها 360ص2نما وازالة الؤرسوم منها بأستثناء لوحة واحدة لمريم العذراء فقد سترت بحجاب ثم ازيلت فيما بع وقد ورد في القرآن (يا ايها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) وقد نقل الرواة احاديث عن النبي تقول ان اشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون) (ان الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم احيوا ما خلقتم) (ان اشد الناس عذابا عندج الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ) (لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير). يرى بعض المفسرين ان تلك النصوص الدينية لم يكن منعها للرسم والنحت عامة بل كان المقصود منها منع نحت الاشكال الانسانية وتصويرها فقط واجازت غيرها من الاشكال الحيوانية والنباتية فقد ورد في كتاب (جواهر البخاري) ان احد النحاتين استمر على النحت وبيعه للناس بعد انتشار الاسلام فذهب اليه الصحابي عبد الله بن عباس وامره بترك النحت فأجابه النحات (انني انسان انما معيشتي من صنعة يدي) فعندها طلب ابن عباس منه ان يتجنب الاشكال الآدمية وله ما يريد من الاشكال الاخرى ويقول (ابو علي مسكويه) مبررا عمل الصور والتماثيل لكونها اقرب للحواس في فهم الموهومات وادراك البمعقولات وتجسيد المحسوسات (ان الامثال انما تضرب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه فأذا اخبر الانسان بما لم يدركه او حدث بما لم يشاهده وكان غريبا عنده طلب له مثالا من الحس فأذا عطى ذلك انس به وسكن اليه لألفه له).ان الفريق الذي لم يحرم الفن قد اعتمد على عدم ورود نص صريح في القرآن بتحريمه بل ذهب الى ابعد من ذلك فأجاز ممارسة الاعمال الفنية استنادا الى آيات في القرآن وأحاديث في السنة النبوية تشير الى عدم تحريمه ففي سرورة سبأ الآية 13 تذكر التماثيل والهياكل التي صنعت للنبي سليمان تقول الآية (ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) يركز هذا الفريق على عبارة (اعملوا آل داود شكرا) بمعنى ان الله تعالى قد اثنى على تلك الاعمال الفنية وشجع الفنانين في ذلك الزمان على العمل .وبعض المعاصرين من المفكرين يقولون ان اعداء الاسلام وحضارته لم يروق لهم ان تنهض الامة الاسلامية بفنونها وتراثها الثقافي الكبير فعملوا على تعزيز كل ما يقلل من شأن تلك الفنون العظيمة من خلال التشكيك بتلك الابداعات وأستغلال النصوص الدينية والاحاديث في تفسيرات الدين من الفن والصورة بأعتبارهما هوية الأمة في ترسيخ وجودها الحضاري والمعرفي والابداعي في كل المجالات.. لازال النزاع الفكري قائما حول الموضوع في أن يكون فن الرسم والنحت شاهد حضاري لنهوض الامة أم هو عمل محرم يتجاوز الشريعة ؟!


* حكمت مهدي جبار ..اكاديمي تشكيلي

......................
1 – الزخرفة في الفنون الاسلامية - خالد حسين - معهد الفنون والصناعات الشعبية - بغداد 1983
2 - آفاق الفن التشكيلي – عباس الصراف -



حكمت مهدي جبار

تعليقات

حكمت مهدي جبار
قضية تحريم فن الرسم في الاسلام
(2)


لم يكن فن الرسم بالنسبة للفنان المسلم يحتل الأهمية التي احتلتها فنون العمارة كالمساجد والمنائر والقباب والعمائر.وذلك بسبب عناية الحكام آنذاك بفن العمارة اكثر من الفنون التشكيلية الأخرى وكذلك الدعوات التشجيعية وما كنوا يغدقونه من هدايا ومكافآة لفناني البناء نظرا لحب اولئك الحكام في تشييد المباني وتزيينها ارضاء لعواطفهم الدينية او الرغبة في تخليد اسمائهم. (1) وبعد انتشار الأستشراق في اوربا وقيام الكثير من المسشرقين بدراسة الآثار والفنون الجميلة الأسلامية انبرى مؤرخو هذه الفنون الى تقسيمها مطبقين عليها القواعد العلمية الاوربية في ترتيب الاثار فجعلوا اقساما خاصة بالعمارة واخرى للرسم البارز (الريليف) وثالثة للتصوير واخرى للنقش والزخرفة . وقد اكتشف هؤلاء المؤرخون من خلال التمعن في فن العمارة الاسلامية وزخارفها وصورها و الكتابة على الاواني والرسم على الاقمشة وكذلك النقوش على اغلفة الكتب . ان الفنان المسلم ابتعد عن رسم جسم الانسان فترة طويلة من الزمن مكتفيا برسم النباتات والحيوانات والطيور . الا ان تطور وعي المسلم بأتجاه اكتشاف الاشياء اضافة الى(2) ازدهار الاسلام لاسيما في بغداد كعبة العلم والثقافة والمعرفة بدأ الفنان المسلم يتحرر من تلك الفنون المقولبة بقالب ثابت واحد جامد. وكانت البداية ولأول مرة هي عندما قام احد الفنانين وهو فارسي برسم اشكال آدمية على جدران احد قصور الخليفة العباسي مستوحاة من قصة يوسف وما جرى له مع زليخة حسب ما جاء في السورة الكريمة .اضافة الى قيام الرسام برسم صور توضيحية على اغلفة وأوراق الكتب.وهكذا امتد فن رسم الاشكال الآدمية في جميع الكتب الاسلامية الفقهية والقصصية والتأريخية وغيرها لتكون بمثابة وسائل ايضاح لما تحتويه الكتب.مثل قصص الف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والاغاني ومقامات الحريري التي رسمها اول فنان عراقي مسلم ابدع في هذا المجال كأول فنان تشكيلي وهو( يحيي بن محمود الواسطي) . والحقيقة ورغم بعض التحفظات حول هذا الموضوع فأن الفنان المسلم هو اشد ابداعا وتوهجا في الرؤى والافكار من الفنان الغربي , ذلك لأنه أي (الفنان المسلم) هو سليل خزين هائل من الافكار والرؤى الفنية التي وقفت وراءها تلك الطاقة الروحانية العظيمة المستلة من عظمة الاسلام ورؤاه في مختلف صور الحياة .الا ان اشكالية سوء الفهم لدى الجانب الفقهي الديني حالت دون تدفق تلك الابداعات حيث اثيرت الكثير من الأسئلة والوقوف على تفسيرات لنصوص ادت الى الحد من تلك الابداعات . وذلك قد ادى الى ان يكون الفنان المسلم فنانا (قلقا) الى حد ما ازاء الوازع الديني وهواجس الحلال والحرام ..وهكذا لجأ اغلب الفنانون العرب المسلمون الى فن التجريد .ابتعادا عن الاشكالات وليس هو هروب من فن الرسم في تمثل الاشياء في رسم الاشكال الآدمية البورتريتات (رسم جسم الانسان) . وهذا هو الذي دعى بعض مؤرخي الفن التشكيلي بالقول :ان مسميات اساليب الفن الحديث كلها جاءت من الغرب ومنها الفن التجريدي , ناسين او متناسين ان الذي اسس الفن التجريدي هم المسلمون الذي تمثل في انواع الزخارف والرقش العربي والخط ورسم الشكال الهندسية وليس(موندريان) ولا( بول كلي) ولا (جاكسون بولوك) مع تقديرنا لهم كفنانين كبار. اذن هنا نتفق ان الاسلام لم يحرم الرسم كونه فنا انسانيا بريئا يؤدي اغراض اجتماعية وذوقية جميلة, انما غير مستحب خشية التقرب من افكار وهواجس قد تجعل الانسان يتقرب الى المحرمات والدنو من الحدود المحرمة في الخلق والتصوير والابداع الألهي الذي ليس من حق الانسان التقرب اليه الا ضمن حدود معينة .فصار لدى الفنان المسلم الملتزم شعور بكراهية تصوير الكائنات الحية فضلا عن عدم وثوق العلاقة بين الدين الاسلامي وفن الرسم وكل الفنون قاطبة , حيث ان الاسلام لم يستخدم الفن(3) في الطقوس الدينية او نشر العقيدة كما استخدمته الاديان الاخرى ولاسيما الديانة القديمة في وادي الرافدين والديانة المصرية القديمة والبوذية واليونانية والصينية . فتماثيل الآلهة وصورها واماكن العبادة وادواتها كانت اهم مظاهر الفن منذ البداية وقد قيل ان الفن تعبير عن فكرة دينية في الانسان او بواسطته . وان (الفن والدين توأمان) منذ البداية وهذا كله لايصدق على الفن الاسلامي . حقا ان المساجد من اهم مظاهر العمارة الاسلامية ولكن شأنها في الاسلام لم يصل الى الشأن العظيم الذي كان للمعابد عند قدماء العراقيين وقدماء المصريين والاغريق والبوذيين والصينيين او الذي كان للكنائس في المسيحية على حد قول الاستاذ كونل kounel) ) – فالمسلم يصلي اينما يشاء وليس للمساجد ما للكنائس من جو خاص فالمساجد لا تضم شيئا من التماثيل الدينية او اللوحات الزيتية الفنية التي تسجل احداث التأريخ الاسلامي . والمحراب في المسجد منحن (كيرف) او حنية مقوسة تبين اتجاه القبلة وليس فيه أي صورة تمثال . والامام في الصلاة لا يرتدي الملابس ذات الألوان المتعددة او الزخارف الفاخرة ولا يمسك هو وأعوانه بالمباخر والادوات الدينية التي يتجلى فيها جمال الفن ودقة الصناعة . وهذا كله ناتج عن طبيعة الاسلام وعن كراهية التصوير وتجنب الترف في المجتمع الاسلامي في فجر الاسلام. صحيح ان اللوحات الاوربية غنية في النضوج والقدرة على التعبير الجمالي الروحي في الحياة والطييعة وعلى تصوير التضحيات البشرية في سبيل الدين والوطن والمثل العليا .فعندما نتجول في قاعات العروض الفنية للوحات الغربية نرى كيف استطاع الفنان ان يبعث في اعماق النفس الشعور بحنان الامومة او بعظم التضحية في سبيل المبدأ او بهول العواصف في البر والبحرالا اننا نجد نفس الروعة وقمة الجمال في الفن الاسلامي اذا مااردنا ان نسمي المنجز الابداعي التشكيلي الاسلامي (اللوحة) حيث سحر الزخرفة اللامتناهي والخيال في بناء الاشكال التجريدية والثراء في الألوان حيث اصاب فيها الفنان المسلم وابدع ايما ابداع . متمكنا من الجانب الحرفي المهاري في اتقان عمله الزخرفي الذي لم يقل شأنا عن انطباعيات(مونيه) وواقعيات (كوربيه) وتزويقات (راممرانت) وتجريدات(بيكاسو) وغيرهم ..ولكثرة استخدام الفنان المسلم للزخرفة والتجريد فتميزوا بها فصارت لهم صفة ظاهرة اشار اليها بعض المفكرون والمحللون والنقاد وهي (ان الفنان المسلم يكره الفراغ) في اللوحة الفنية النابع من اعتقاده بأن الفراغ يسمح للشيطان بالتسلل الى النفوس وذلك ما نراه اثناء اداء صلاة الجماعة عندما يدعوا الامام الى التساوي ورص الصفوف فضلا عن ملء السجاجيد بالزخارف وتغطية المساحات او السطوح وينفر من تركها بدون زينة او زخرفة ..وطبيعي ان كراهية الفراغ عند الفنان المسلم دعتهم الى الاقبال على تكرار الزخارف تكرارا وصفه الغربيين (لانهائي ) وأرادوا ان يلتمسوا له التفسيرات في روح الدين الاسلامي وطبيعة الصحراء التي نشأ فيها العرب.



حكمت مهدي جبار......أكاديمي تشكيلي

................
للموضوع تتمة ..
1 – الزخرفة في الفنون الاسلامية...خالد حسين – 1983 بغداد
2 - نفس المصدر..
3 – الفن الاسلامي ...جورج مارسيه.. georg marseh ترجمة عفيف بهنسي
 
أعلى