محمد حساين - كن فيكون، بصاد وباء ونون

مشاهدة المرفق 954
قلب القاضي الورقة أمام نظارته ثم، وكأنما باغتثه نوبة قيء، وضع يده على فمه ليردع زخات ضحك لكنه فشل.
شهق وسعل وامتدت عدوى الضحك لهيبة المحكمة وهيئة المحامين وباقي الحاضرين.
نظر إلى السيدة صاحبة الوثيقة ثم رفع عينيه والجلسة معا.
ماذا جرى؟
الحكاية تعود إلى عصر ما قبل التجاعيد.

شرحت الشابة للنسوة المجتِمعات في بيت "بنت المزوار" فوائد التعلم ومقاصد جمعية محاربة الأمية وأخذت لذلك من الوقت الكثير ومن السكر والشاي ما تبقى في البيت .
"بنت المزوار" ، أربعون سنة، أم لأربعة.
كانت الأكثر حماسا واهتماما رغم عدم اقتناعها بحكايات الشابة المرشدة.
لم تهضم قصة تلك المرأة التي، في فاس - مدينة الفاسيات-، دخلت حمام الذكور لأنها لم تقرأ لجهلها "حمام للرجال".
شكّت في قصة تلك المرأة التي ابتزها الفقيه بعد أن عرف سرها الخطير حين أعطته رسالة خاصة كي يقرأها لها.
ولم تجد بنت المزوار في ما عرضته الضيفة فائدة ذات قيمة،
فهي لا تهمها أرقام الحافلات ويافطاتها والمدينة الكبيرة الأقرب توجد على بعد يستوجب توديع الأهل.
ولا تهمها قراءة الجريدة. وأخبار الناس تأتيها مبوبة مدعمة كل يوم من صحافة الحي الشفوية.
لكن، بالمقابل، يهمها أن تقرأ ما كتبه زوجها وخالها في عقد زواجها ذي الثلاث صفحات،
ويهمها أن تعرف بالضبط ما يكتبه "حـْـماد" في نسختها من دفتر الأداء المؤجل،
ويهمها قبل كل هذا أن تعرف الكتابة وأن توقـِّع بدل أن تبصم لتصلح غلطة ابيها، رحمه الله بتحفظ، الذي رفض تعليمها مستندا إلى حديث أحد الأغبياء: "ربنا قال إقرأ ولم يقل إقرئي".

بدأت الدروسُ، في إحدى قاعات المدرسة وكانت بنت المزوار تجلس في المقعد الأول غير مرتاحة في هذا المكان المعد أصلا للأطفال.
ولم تكن محبوبة من طرف المعلمة لكثرة حركاتها وثرثرتها ومقاطعاتها المشوشة.
- ما هذا يا ابنتي، "واحدٌَ زائدْ إثنان زائدْ ستة عشر..." أنا باستطاعتي، والله، أن أعد لك النجوم، علمونا الكتابة وبابوبي أما الحساب فالكل يتقنه"..
- يا ابنتي نحن نعرف "توتٌ" من غير صورة إتقي الله، فخديجة صاحبتنا في أول شهور الوحم...
- يا إبنتي... يا أستاذة..
ولم يعجبها تماما أن يطلب منها أن تكتب عشر مرات "بابٌ، تابوتٌ" لا لأنها عقوبة، ولكن تشاؤما من كلمتين كلتاهما تعني الخروج: الأولى بحقيبة والثانية في حقيبة.
انقطعت بنت المزوار عن القسم يوم قال لها ابنها إن المعلمة كتبت لها في كل صفحات الدفتر "ضعيف، ضعيف، ضعيف..." وحين سألته "لا توجد ولا سمينٌ واحدة؟" انتفض ضاحكا وصارت نكتة الموسم.
انقطعت بنت المزوار عن المدرسة وحبا في التعلم أجبرت إبنها الصغير بأن يقوم بدور المعلم كل يوم وهيا بنا من جديد، رغم أن "فـَـرَّ فـُرْفـُرٌ فـِرارا"، وما يشبه هذه العبارة كلام صبياني وبليد.
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة للطفل، لأنها كانت دائما تحمله مسؤولية تعثرها وتعاقبه حين تخطئ وحين تنسى!!
قصفته مؤخرا بكل الأحذية التي بجانبها لأنها لم تستطع، أمام جاراتها، قراءة ما في قصاصة فصلت من كتاب.
- يا ابن الحرام، أنا أكون موضع السخرية من زوجة الحداد؟ ماذا علمتني مما يفيد؟ أنظر يا من لا خير فيه.
كانت الكلمة المكتوبة في الورقة هي "صابونٌ" وكانت بداية تعامل آخر إذ قبل النوم قبلته وشكرته وبكت وهي تضمد جرحا تورم قرب عينيه سببه الحذاء الطوربيد.
في اليوم التالي علمها حرف الصاد وما جاوره ومرت الحصة بسلام الحكماء واقتصرت ملاحظتها، حين كان يمرنها، على القول بأن كلمة "صراصيرٌ" فيها قلة حياء.
تعلمت بنت المزوار كيف تقرأ وتكتب كلمة "صابون " بسرعة وبالحجم الكبير والصغير وكانت هذه الكلمة بداية تعلمت بعدها الكثير وما تعلمته كان فيه النفع الكبير.
بنت المزوار اليوم في المحكمة في قضية ميراث.
كعادتها منذ سنين، في خانة التوقيع الموجودة أسفل إحدى الأوراق، وضعت كلمتها المحبوبة: "صَابونٌ" بفتحة على الصاد وضمتين على النون.

12 نونبر 2010
محمد حساين – منتدى مطر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى