كامل فرعون عيادة - الموجة المتلاشية.. قصة قصيرة

يذكرني صياح الديك بالفجر الريفي، وروعته، وبالنار المندلعة من أفواه تنانير الطين، والأصوات المبحوحة لبائعات الحليب والباقلاء، لكن ما يقفر إلى ذهني مشهد طالما يتكرر في غبش الأيام المنسية. أستيقظ فيه على صوت صافر يناغي ذكر البقر المتهيب من أنثاه. أفرك عيني بباطن كفي لأزيل زبد العين المتخثر على الأهداب، وأبصق على الأرض الملأى بحزم البردي الجاف، حتى ابلل بلعومي بلعاب جديد، لا يحمل طعاماً فاسداً لأحلامي. يتقدم الثور بخجل حيواني. عيون سرية كثيرة ترمقه من بين خصاص الأكواخ. يتشمم جسداً لدناً يوقظ فحولته النائمة.. يمسك الرجل بحبل البقرة الهادئة، وصوته الصافر يتكرر مرات عدة، يغرز شوكاته في أعماق الروح المتوثبة، تعجبه رائحة الأنثى، يقفز نحو الأعلى، ويحيط بقائمتيه الظهر المنحني، في الوقت الذي يبدو فيه قرص الشمس الدامي يتربع فوق خطّ الأفق.
للأيام المنصرمة طعم العسل الصافي. كإله غاضب، كانت السماء المتشظية إلى أصواتٍ مدويةٍ تغطس في شمس الزمن المتفجر. يهرب صمت الجدران بخفة، يسرقه أزيز الغربان السود المطوحة في فراغ ملغوم، تعزف فيه ترنيمة الانتظار المغرقة باليأس. هدوء يسبق ذلك، تسبقه زمجرة الباب الحديدي لجارنا الجديد. تزعق برعب أبواق السيارات الهاربة في شوارع خالية. أستقبل من حولي أشياء الكون المغلي، كنسمة باردة تحبب جسداً يتلبسه الخوف. نساء تلوح مثل شجر في الظلام، يذرعن طرقات الحيّ، يملأن أوانيهن بماء المطر. برك موحلة، وممر ترابي تجوس فيه الأقدام. طرق ملتوية تتوزع على جانبيها أبنية زوقها المطر الأسود المندلق من أفواه السماء المحمومة.
أنتظر على بلاطات رصيف الشارع الفاغرة أفواهها، قبل أن تضمني بطون الحاويات الصفر. أتأمل أعمدة الكهرباء الجافة. لم تضئ منذ زمن بعيد. يمتد الشارع كأفعى صحراوية، صفراء اللون، تفتح شدقيها بنهم، تلدغ حيوات يهصرها هاجس الركض المستمر، تظلل كخيمة تفرش جلدها الرصاصي فوق الفراغ المترامي، تحيط ساحة دائرية الشكل، كرقاص الساعة يدور رأسها بدقات منتظمة، ترمي بدفعات متفاوتة علباً بلاستيكية تتمزق أشلاءً عند اصطدامها بالأرض. يمتلئ ظل الخيمة ثقوباً تندس في كل مكان. يتصاعد دخان أسود يحمل أسماء الناس المثقوبة إلى القمع المقلوب. تزداد العلب الملقاة. يتكاثر بخار البشر المشوي. وتبرز فقاعات صغيرة في جسد نصف الدائرة المحيط، بعد ترتيق عريها، ينتفخ البطن بأكثر من حمل كاذب، يقتلع القمع الطائر الأوتاد المغروسة في الأرض، ويحلق عالياً، يبتعد، ثم، يعود. قبل أن ترد الأنفاس طبيعية إلى صدور الناس المنهوكة، كشيخ يحتضر تطل الشمس بعينها المغمضة، متوجسة من رؤيا غامضة سرقت بقايا نعاسها الصباحي. أتعبتها سنيناً من الكسوف الطويل على أمل بإشراقات تقشع صدأ الخيمة وقمعها الأسطواني ليسود الفراغ اللانهائي في أبعاده الجديدة.
أهبط في المحطة الأخيرة، فيغرقني الحشد الهائل الذي لا يعرف أين يتوجه. تجذب عيونه بضاعة معروضة على الأرض الرطبة. يدفعني السيل المتدفق في سوق العتمة إلى متاهات عدة. تتصدع كل الخطوات المتمهلة. تحذير (لا يمكنك التراجع.. الاستدارة إلى الخلف. أو حتى أن ترفع يدك تحية لصديق، فالخطورة كامنة في الفعل والإشارة) في البدء كنت أحاذي الشاطئ. أنا الآن في اللجة. تغرقني موجة وتنقذني أخرى. يهمس في أذني صوت يمتزج برائحة الأجساد، وتراب الأرض الملأى بالروث، ويتعالى الخليط كبقايا قنبلة يعانق الفضاء. أفتش بكل حواسي عن دالة لذلك الصوت فلا أجد سوى فوضى معقدة تغلي بنسب لا موزونة. يدنو المواء، يتضخم في طبلة أذني، تفسده أغاني الهرج الزاعقة. يهرب ملتفاً بالضعف. أبحث بنظراتي عن صوت القطة مثلما أتسقّط أشياءً أخرى. أسبحُ في الزحمة، فالأشياء متعرية في شمس تدنو من الضحى. تتنفس ضجيج الكون، وتهضم مسحوق الأصوات المتناثر بمزاج أقرب لعفونة مأساة العصر، الشاهد الوحيد على الدماء المهدورة.
يحملني طوفان النهر إلى مسافات لم يكتنفها الضوء. يجب أن ألقاك. يعود الصوت إلى أذني، يكبر بسرعة الريح المتشبثة بأسيجة السطوح المسورة للسوق. يبدو من بين الأقدام العنكبوتية المتحركة، رأس يتدحرج بين السيقان، يتلقى رماد السكائر، وضربات الأيدي المهتزة بعشوائية. حطام لجسد متهالك، يحبو، وجه أصفر مجعد، أصابع نحات ماهر كان ذلك الزمن القاسي. كم بذل من الجهد لينجز وجهاً بلا ملامح. خطوط متوازية، ومتقاطعة تخفي سمات الإنسانية المفتقدة. تعصّب تلك المرأة جمجمتها، بشريط أخضر متسخ، يتهدل على ظهرها كذنبين لحيوان شاذ.
في تصميم العينين الذابلتين، كثقوب رصاص طائش، يتهاوى عمق الألم المتفجر، ويطفو ليبني بدقة، أنفاً مستدقاً. تنبئ الأهداب الصغيرة التي اخضرت على جانبيه بجمالية متآكلة. رقم الواحد يتكرر مرات عدة من اليمين إلى اليسار في أرض قاحلة، أسفله خط ملموم يقضم نهايات الخطوط السفلية. ينشق الخط فجأة، يكشف كهفاً مظلماً، يطلق صوتاً مدغوماً. في اللحظة تلك يتبعثر وجه المرأة، ويتراءى كأنه يتساقط أجزاءً متناثرة تلمّه فوطة سوداء، حائلة اللون. البحر نثار الأيام يتعاقب كخرزات المسبحة .الشمس الدانية من الضحى تطبع أشلاء المرأة الزاحفة بنقاط تتخلل ظهرها المقوس، مملوء بوحل متيبس. تتوقف مائلة أمام الأعين، ترفع يدها الملطخة بالوحل، تتعرى ذراعها عن عروق خضر يابسة، ولحم رخو، أصابعها العظمية تقبض بحواف طاسة معدن تحوي بعض القطع النقدية. تفتح كهفها وتطبقه، تضع الإناء في حجرها، تزحف، تتلطخ أكثر، تحصد في سيرها البطيء ضربات أشد وأقوى، الرأس يتقهقر، يعابثها بعض الأطفال، تنكفئ، تتوقف، تمد يدها، تمتلئ الطاسة من جديد. تواصل زحفها نحو زقاق ضيق تقل فيه الأقدام، تصادفها وجوه بلون المطر المنهمر ليلة أمس، تحدجها بنظرات لها مغزى، تزرع يديها في الأرض، ترفع عجيزتها إلى الأعلى، وتجر جسداً موجعاً، ثم تعود لتقتعد في مستنقع هشّ، نظراتها ثقوباً في جدار الصمت المطبق من حولها. تضرب بقوة إحدى ظلفتي باب خشب قديم تطرزه نقشات هندسية جميلة، تنبسط في الداخل مساحة مربعة تحيط بها غرف متعددة يكسو أقفالها صدأ الأيام المحفورة في وجه المرأة، تنساب كقطة ملساء، وتطبق الباب بهدوء، وتبتلعها الموجة.
في باب آخر يقابل باب بيت الموجة المتلاشية، يجلس شيخ له سيماء البحارة يمسّد لحيته البيضاء بأصابع مرتجفة، ويتابع بنظره طفلة تلعب بالقرب منه، وبفضول يشبه جوع المرء لمعرفة الحقائق المندثرة، هاجمته بسؤالي عن تلك المرأة، فراح يشرح لي عن حضارة البابليين والآشوريين، وتطرق للفتح الإسلامي وعصوره، وعن الأهرامات، وسور الصين ونهر الميسيسبي، ولم يغفل أقوام القوزاق، وصحراء أفريقيا والهند الصينية.
تحدث عن كل ذلك بلغة أشبه بانتقالات الموجة، أسرف في كلامه عن ناطحات السحاب وثلوج القطب المنجمد، وحياة الأقزام ولهاث الدببة على مضايق الخلجان وآخر موانئ السفن المحطمة.
نجا من الموت بأعجوبة، ولم يعرف عن هذا البيت شيئاً سوى أنه كان عامراً بالحياة، حياة ما قبل التاريخ. ربما جرفهم البحر، والعجوز آخر موجاته، أو ابتلعتهم حيتان الزمن الطاغي، ولم يفلت غير هذا الهيكل المتداعي.
ظل الشيخ يتحدث ويتحدث ولم يعد سوى نقطة بعيدة في نهاية الزقاق…..


** إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.


** نقلا عن
كامل فرعون عيادة : الموجة المتلاشية (ملف/13)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى