إبراهيم درغوثي - أجراس العودة تدقّ داخل القلب.. قصة قصيرة

1

برد الشّتاء قارص في بلاد الشّمال البعيدة .
برد يهطل في شكل ندف من الثلج تغطي الأشجار والمنازل والجبال والسهول والوديان والهضاب فيغلب كل الألوان ويحوّلها إلى الأبيض الناصع.
والطّيور ستموت إذا لم تهاجر إلى الجنوب حيث الدفء والشمس الساطعة طوال اليوم.
تلملم الطّيور أشياءها الجميلة وتتفقد أعشاشها للمرة الأخيرة وهي تحرض فراخها الكسولة على الاستعداد للرحلة الطويلة ثم تهجر أوكارها حزينة فالرحلة قاسية ومخاطرها لا تعدّ ولا تحصى.
ولكن برد بلاد الشّمال لا يترك لها فرصة للتفكير وتأخير موعد الرحلة بعدما دقت الساعة البيولوجية داخل رؤوس الطيور الصغيرة تنذرها بموعد السفر وأن لا وقت لتأخير الرحلة، فقد يفوت الأوان وتكون الكارثة .
هذه الساعة البيولوجية التي تسكن رؤوسنا منذ غابر الأزمان لا ترحم تقول حكيمة الطيور لصغارها الذين تجمعوا حولها قبل موعد السفر بقليل وتحذرهم من عدم الإنصات لدقاتها حتى لا يصيب عالمهم مكروه ويفنوا كما فنيت الديناصورات العظيمة منذ ملايين السنين.
ويضج الصغار بالأسئلة عن هذه الساعة التي لا يراها إلا الكبار لكن حكيمة الطيور لا تأبه لأسئلتهم وتعدهم بأنها ستحكي لهم عنها عندما يعودون سالمين إلى ديارهم في الصيف القادم.

2

وتتجمع الطّيور المهاجرة في السّماء الملبدة بالغيوم تحت لسعات الرّياح وقطرات المطر الباردة وندف الثلج.
ما أصعب هذه اللحظات علينا نحن الطيور ونحن نهمّ بمغادرة أعشاشنا الدافئة في موطن الأجداد، تردد حكيمة الطيور بينها وبين نفسها. ما أصعبها وما أشقانا بها.
ثم تضيف وهي تتنهد:
- هل تحس بقية المخلوقات التي تعمر الأرض نفس أحاسيسنا ؟
هل يؤلمها أن تغادر أوطانها مكرهة كحالنا ؟
كم رأيت من البشر وقد ملأوا السفن الصغيرة والكبيرة حتى اكتظت بهم في أعالي البحار وهم يغادرون عكسنا الجنوب الدافئ نحو هذا الشمال المسكون بالصقيع، ألا يعرفون الخوف مثلنا وجثثهم تتلاعب بها الأمواج ويأكل منها الطير والسمك ؟
وتظل الحكيمة تجادل نفسها وتحت ناظريها تتجمّع الطّيور في أسراب تبدأ صغيرة ثم تكبر وتكبر حتى يعظم شأنها وتصبح كتلة سوداء من الريش والزعيق ، فتطير نحو الجنوب هربا من الموت.
تقطع الطّيور الصّغيرة آلاف الكيلومترات وهي مستلقية على التيارات الهوائية الدافئة التي تتلاعب بها في الأجواء البعيدة ، فتغفو وتظل تارة أخرى مستيقظة وهي تراقب النجوم المتلألئة في السماء الصافية وهي تهديها إلى طريق الرشاد.
هكذا أخبرتهم الحكيمة وهي تغادر موطنهم.
- سنظل نهتدي بالنجوم يا أولادي حتى نصل بسلام إلى منتجعنا الشتوي في خط الاستواء في البلاد الحارة فكونوا دائما يقظين في الليل والنهار ولا يحلو لكم النوم فنضيع في هذا الفضاء الشاسع .
كونوا دائما كتلة واحدة ولا تتركوا للغريب فرصة لاختراق صفوفكم.
فيسري نداءها بين أفراد السرب الطائر سريان الفرح في النفوس في يوم عرس، فتتراص الصفوف وتخفق الأجنحة بسرعة ويشتد العزم فالطريق مازالت طويلة والرحلة في بداياتها.
وتحلّق الطيور فوق الغابات السّوداء المخيفة.
وتمرّ فوق الجبال العالية المكلّلة بالثّلوج.
وتقطع البحر العظيم.
ولا تتعب.
تطير وراء الحكيمة ذات العنق المطوّق التي جرّبت هذه الرحلة مرات عديدة وهي تضرب بأجنحتها الصغيرة أو تنام فوق موجات الهواء التي تأخذها في جريانها في الجو نحو البلاد البعيدة التي ستجد فيها ملجأ للراحة والسعادة.

3

وفجأة ترتفع التحذيرات داخل السرب.
يكثر الهرج والمرج ويختل التوازن وسط هذا الجسم الكبير، فتذهب كل مجموعة من الطيور في اتجاه وهي تخبط بأجنحتها خبط عشواء ويتنادى الجميع :
- الفرار الفرار، هي ذي النسور والعقبان والبوم وطيور الباز ،سادة السماء ، في انتظر الوليمة، ولا عاصم لكم منها إلا الحيلة ورحمة الرحمان.
ويشتد الكرب العظيم في الفضاء ، يتطاير الريش وتقتل الطيور الصغيرة التي انفردت بها الجوارح ويشتد الزعيق والنعيب حتى كأن الحرب قد انتقلت من البر إلى الجو إلى أن يعلو نداء حكيمة الطير وقائدة السرب فتتعاضد الطيور من جديد وتعود إلى وحدتها وتتجمع داخل كتلة صماء لا تترك فيها منفدا للغريب.
ويعود السرب إلى طريق السلامة بينما يعلو بين الحين والآخر نداء:
- انتبهوا يا صغار:
هي ذي رصاصات الصيادين تنطلق من الأرض نحو السماء.
وعلى الأرض، تكثر الفخاخ والشّباك...
فيتعلم الصغار كيف يهربون من الرّصاص وكيف يخاتلون فخاخ الأولاد ويعافون أكل الحبوب من على الشباك الملقاة على أديم الأرض.
ولكنّ طيور كثيرة تموت من التّعب والجوع.
فالرّحلة صعبة وطويلة.

4

وتواصل قائدة سرب الطّيور الحكيمة قيادة السّرب الذي يتحوّل بمرور الوقت إلى شكل V كبيرة تغطي الفضاء حيث القائدة في الرأس المندفع إلى الأمام بعزيمة وقوة بينما يتوزع على الضلعين بقية الطيور الأقوى فالأقوى وهم يحدبون على الصغار ويساندون الضعاف والمرضى بالدفع والتودد والتشجيع والمسح على الريش حتّى تهل بشائر برّ الدّفء والأمان فتهبط الطّيور التي أنهكها الجوع والتعب فوق الهضاب الخضراء وتحط على الأشجار اليانعة.
تلتقط الطيور الحب وأزهار الرّبيع حتّى تشبع، وتشرب من المياه الجارية في سواقي الغابة وتملأ الفضاء بزقزقتها وهي تتقافز وسط البحيرات العذبة وتأكل من أسماكها الصغيرة ومن المخلوقات المجهرية التي تعشش داخل التربة المترعة بالحياة.
وتمرح وتسرح تحت نور الشّمس الدّافئة بلا حسيب ولا رقيب ثم تنفض عن أجنحتها بقايا البرد والتّعب والأمطار، وتملأ فضاء ربيع الجنوب بزقزقتها العذبة، حتّى تتناسى برد الشّمال وعذابات الرّحلة وهي تسعى في الأرض الجديدة على أشجارها أو داخل بحيراتها تشبع جوعها من خيرات أرض السعادة وراحة البال.

5

ويزدهي الرّبيع في بلاد الجنوب بالدّفء والهناء ، شمس ساطعة طوال النهار وعيش رغيد بلا منغص في الليل ومأكل ومشرب في المتناول في جنة أرضية صنعها الرب لمخلوقاته الصغيرة جزاء شكورا ، فتهلّل الطّيور وتكاد تنسى الحكايات التي روتها لصغارها وهي تزقها نسغ الحياة في أعشاش الغابة السحرية التي ولدت فيها بعد الهجرة من بلاد الشمال، تتناسى الطيور القادمة من سفوح الجبال الباردة وأغصان الأشجار المثقلة بالثلوج أعشاشها الفارغة إلى أن تدقّ نواقيس صغيرة داخل قلوبها الخفّاقة وتشتعل الساعة البيولوجية من جديد وسط الرؤوس التي أتخمتها خيرات بلاد المنفى:
- لقد أزفت ساعة الرحيل فتهيئوا للعودة يا طيور.

6

يتجاهل الصغار هذه النواقيس التي لا عهد لهم بها وهم يواصلون لهوهم في البحيرات وعلى سفوح الجبال المكللة بالزهور والرياحين وداخل الوديان وحقول الحب ، فيعود الكبار للدق عليها أكثر وأكثر إلى أن يعلو صوت حكيمة الطيور، القائدة الفتية للسرب التي تعلمت من العجوز التي أنهكها تعب خمس سفرات متتالية فقررت أن تستريح إلى الأبد على ضفاف البحيرة السحرية ، أسرار الطريق وحكمة السماء. يعلو صوت القائدة الجديدة على زقزقة السرب صغيره وكبيره فتعود أجراس العودة للدّقّ داخل القلوب الخفّاقة بوهج الحياة والشوق إلى أرض الأجداد فتتذكّر الطّيور من جديد أوكارها البعيدة ويستعدّ الصغار لرحلة العودة وتتوهج أنوار الساعة البيولوجية في القلوب خفاقة وهي تنير طريق العودة ...

7

تنادي كبار الطّيور صغارها جذلى، أن استعدّوا للرّحالة الصّعبة يا صغار ، فتخفق قلوبها فرحا وخوفا وترتفع زقزقاتها العاليةحتّى عنان السّماء:
- الحياة جميلة على هذه الأرض...
ولكنّ بلادنا أجمل من كلّ البلدان...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى