كامل فرعون عيادة - الدخان.. قصة قصيرة

عندما حل الليل… ألفت نفسها تذوب في فراغ المنزل الذي امتصها بظمأ… (لا أدري لماذا كل الأشياء مجبولة بهذا الجوع الأزلي ..)… كان شعور الوحدة القاتل… يمزق أكثر الكائنات توافقا وانسجاما مع الكون… يشكل المنزل بغرفه الثلاث مصدرا للخوف والرعب… تقابلها في غرفة الاستقبال التي تفوح منها رائحة بخور منعشة… سجادة بالية معلقة على الجدار… تمثل تاريخ العائلة… منذ نشأتها… مرورا بالهزائم والانتكاسات التي تعرضت لها… بسبب لعنة الجد الأول… المدفونة سرته في حفرة ما من البيت.. (تقول والدتي.. نزحنا من قرية ريفية في الجنوب.. تدعى عروسة الأهوار.. أو مدينة الضباب غزاها في عام مشؤوم مرض جهل الناس اسمه… يتقيأ المصاب به سائلا كصفار البيض.. ثم يموت بعد ساعات قليلة… هلك الكثيرون.. ونجونا نحن بأعجوبة… لكنني بعد البحث والاستقصاء في الخرائط الجغرافية لم أجد قرية بهذا الاسم…)… لم تعرف العائلة كيف استقرت تلك القطعة النادرة في أحضانها.. وكأن زوبعة رعدية، أو ريح مخبولة جلبتها من أنقاض قبور الأسلاف المنقرضين… لتلقي بها… في كهف الرحالة… الموله بالبحر… قبل أن يلقي حتفه تحت عجلات سيارة شحن كبيرة بعد ذلك بسنوات.. كانت وقتها في رحم امها.. عندما سافر الطير المهاجر إلى بلد لا تعرف أسمه… (يقول أخي… إنها إحدى جزر المحيط الأطلسي…).. هو وصديق له يعمل في التجارة… تزوج أمها حين ترملت… (سمعت الناس يتقولون بهذا الكلام.. لكن شتات من روايات متفرقة تؤكد.. أنها هربت معه بعد أن هجرها أبي.. وحلت الفضيحة الأولى في العائلة… وانتشرت بسرعة الضوء في الحي بأجمعه، حتى إنني كنت أطرق رأسي أرضا في ذهابي إلى المدرسة.. ولا أحب الاختلاط مع الطالبات ماعدا صديقتي منى.. لتشابه ظروفنا.) تحوي تلك الرقعة الناعمة الملمس.. وجوها ممسوخة مهترئة.. أكلها الجدب وشوهها جحيم المستنقعات.. وتواريخ لماض تفسخت أزمنته… واستحالت الى رماد بني اللون يحمله بين طياته.. ذلك الجواب التائه الذي ينكر ذهنها أنه داعبها يوما ما.. أو أهداها لعبة جميلة.. لا تمتلك ما يعيد للذاكرة عكس ذلك… أنها لم تر أباها كما تعتقد.. إنها بلا أب أصلا.. لأنه ليس هناك ما يدل على وجوده في حياتها.. وجهه الثعلبي الحائر.. تعكسه نظراته المحدقة من خلف زجاج الصورة المؤطرة بوشاح فضي…

إنه رجل شهواني.. تقوده نزواته التي لا يتمكن من كبح جماحها. (مرة قالت والدتي.. أنه لم يمت بحادث السيارة المزعومة تلك.. وإنما تزوج امرأة أجنبية… وعاش هناك في تلك الجزيرة.. التي يرتادها دائما.. يقال أنها من سيدات القصر الملكي.. لا أعرف ما أغرى امرأة بخنزير شرقي كهذا..).. ظلت مأخوذة لفترة طويلة.. بلحظة التأمل التي انتابتها.. قبل أن تخرج فتلفعها صفعة من ريح باردة.. اندلقت عليها من الباب العريضة.. تدلت أطراف الشال المبسوط على كتفيها نحو الأسفل.. حين مدت يديها الرقيقتين نحو فوهة المدفع المتقدة الحرارة.. فالتمعت تلك الأصابع السمراء الدقيقة كسنابل قمح ناضجة بلون ذهبي لامع.. وسرت في جسدها المرتجف دفقات من دفء لذيذ.. صمت متنمل.. كهسيس ماء منساب برفق.. يحتوي المكان بأكمله.. تقطعه أصوات ماكنة الخياطة المتحشرجة.. التي تزعق بصراخ متواصل.. تحاول فيه ان تغطي على حركة الموجودات المتربصة كصقر على وشك الانقضاض.. يتجاسر بالطغيان.. دبيب الأشياء المتنامي في أحشاء الليل.. بعد هدوء الحدود المزمجر.. (..لا أستطيع الاستمرار بهذا لوضع.. يجب أن أرسل بطلب مني.. لتشاركني أحلام الليلة.. ومخاوفها كذلك..) يعود ضجيج الآلة من جديد.. بعد أن جلست صديقتها,, (تبدو عليها آثار سمنة خفيفة بسبب الحمل الذي تحاول إخفائه.. إنها في شهرها الرابع.. وجهها الطفولي مخضب ببراءة بدائية يلامس كتفيها بنعومة بشعرها الكستنائي الغزير.. تغرق في أحيان كثيرة.. بصمت يطول كليالي الأرق التي لا تنفك تلازمها كظلها.. لم تعبأ بنظرات الآخرين لها.. يكفيها ما ترزح تحته من خواء روحي ممض.. تدور في حلقة مفرغة.. لا تعرف بداية أو نهاية أي شيء.. اختلطت الأمور في مخيلتها وتداخلت حد الامتزاج… وغدت حياتها مجرد مزحة تافهة.. أو مفارقة فكهة.. وما أكثر المفارقات في مصير عائلتها.. كعائلتي.. باختلاف الأسماء فقط… نفس الحكاية تعيد نفسها وهذا ما جمعنا…). تحتسي قدح الشاي الساخن… على كرسي خشبي بالقرب منها.. في ليل شتائي يستلب الحياة.. فيحيلها إلى أحجار صلدة خرساء لا نأمة أو صوت.. يمزق غشاء العنكبوت المنسوج بمهارة… ماعدا العزف المنفرد للماكنة نظرت إليها بحنان قائلة (لا تتبرمي.. أعرف أن الحزن يضفي على وجهك جمالا براقا.. فالعناد صفة في طبعك لا تغيره الأيام… لنسعد بهذه الليلة.. فزواجي لا يبعد سوى أيام معدودة وربما تفرقنا سنة الحياة هذه.. التي يتمسك بها الآخرون… أقسم لك.. إنني سأزورك كل أسبوع.. لا يؤخرني عن رؤيتك شيء.. سترافقينني الى بيتي الجديد.. وإذا شئت أجبرتك على المبيت .. حتى تطرز إشعاعات الشمس الحمراء.. بياض الفجر الباكر..). مضى من الليل ثلثه.. عندما انقطع صوت الآلة الهادر.. وتمددت أقدامها المتشنجة خارج المدوسة الحديدية.. كان التعب باديا عليها.. عيناها منتفختان.. ووجهها ينوء بتصلب بسيط.. دفعت ظهرها الى الجدار.. ورفعت يدها نحو الأعلى.. وشبكتها فوق رأسها.. (إنني فتاة مزعجة.. تفكر بأمور شديدة التعقيد.. وكل صغيرة مهما كانت تفرز دبابيسها الحادة في جسدي حتى ينحني.. بحثت كثيرا عن حقائق أسرتي فلم أجد ما يشفي غليلي.. كل الحكايات كاذبة متناقضة.. ملفقة.. سواء كانت من أهلي أو من ناس الحي القدماء.. إلى أن ترسخت في ذهني قناعتان بأني لم أكن سوى لقيطة.. ليست لي جذور.. لا أنتمي لهذه العائلة المغرقة بالألغاز والرموز وكأنها قادمة من وراء المجهول..) نهضت بتكاسل.. من مكانها لترى الفستان الأبيض بعد الانتهاء من لمساته الأخيرة هه.. ما رأيك؟.. (في يوم ما فوجئت بمنى جالسة.. تبكي على أريكة أخي الكبير الذي سافر هذا المساء هو وأختي الصغرى إلى بغداد.. سألتها ما بك.. فلم تجب لكنها بعد الإصرار قالت مترددة.. لم أكن أعلم أن الملامسة الخفيفة ستفقأ العين وتترك ورائها ثقوبا في جدار الجسد النازف بالدماء المتمرغل بوحل الخطيئة الأولى.. وكانت هذه الحادثة سببا للقطيعة المرة.. التي حدثت بيننا لفترة من الزمن أنها الفضيحة الثانية.. أو الثالثة التي أحاقت بالعائلة المقدسة..).. أرتديه.. ولم تتوان عن خلع ثيابها وارتداء الفستان.. ملكة بحق.. قالت صديقتها ذلك.. بعد أن أطلقت صافرة أعجاب من بين شفتيها المكتنزتين وتمازحتا لفرط السعادة التي احتوت المكان وراحتا تتراكضان من مكان إلى آخر.. وسط فرح الأشياء المحيطة بهما.. جلجلت ضحكاتهما جحود الجدران.. وانغلاق الليل البهيم.. أنهما الأحياء وحدهما.. في زقاق الموت هذا.. نار مجهولة من ضوء شمس ليلية.. أو موقد لم تخبو جمراته بعد.. أو نار اصطناعية.. من عود ثقاب أو عقب سيكارة مشتعلة.. تشبثت بأذيال الثوب الناصع البياض.. المتطاير بخفة نحو الأعلى كاشفا سيقانا منحوتة بدقة فنان ماهر.. حاولت أقدام صديقتها.. إخماد النار التي راحت تلتهم الثوب والجسد المرمري بشهية واضحة.. انفجرت الصرخات المرعبة.. لتحطم الجمود الرابض على البيوت النائمة تحت أشعة النجوم المتلألئة.. ظلت العروس تتلوى من بطش الهول الذي لحق بها.. بحيث عجزت ان تعرف ماذا تفعل.. قبعت كسمكة وقعت في شبكة محكمة الصنع.. لا تملك سوى انتفاضات يائسة متكررة تحاول بها الإفلات.. في تلك اللحظة.. أضاءت بذهنها صورة العرافة العجوز.. لقد صدقت نبوءتها.. الصراخ الممزوج بالحمم الحمراء المتوهجة.. والدخان الأسود الداكن.. جعل الناس يهرعون لمعرفة ما حدث.. هل تطفئ صديقتها..؟ أم تنقذ نفسها.. سؤال تائه في فوضى الأصوات الناعقة بحزن.. والمتصالبة أمام الوجوه المتجمهرة التي مازالت تطرق الباب بقوة.. ظلت ألسنة النيران تأكلها بنشوة الفرح الذي استبد بهما قبل قليل.. الحريق الذي ضرب بأذرعه كل أشياء المنزل.. هجم بقوة موجاته الدخانية.. لتصفع أشباحا مذعورة تراجعت إلى الخلف.. بعد أن حطم فتى مشاكس، إحدى درفتي الباب بضربة عنيفة من قدمه اليسرى مما أشاع رائحة احتراق بشري.. هيمنت على الأجواء لفترة ليست بالقصيرة.. قبل ان يحملها الهواء إلى نهايات بعيدة…. مافتئت صيحات الاستنكار تعم المكان والظلام يحجب وجوها تتكاثر كالذباب.. حين تمدد على الأرض الملأى برماد الأصوات.. جسد ساكن لفتاة.. تصدر أنينا خافتا موجعا.. من فتحة ما في وجهها الذي خلا من الملامح الإنسانية.. ينبض قلبها بدقات مستعجلة.. يهز فوقه كتلة من اللحم المتكور الذي امتلأ بدمامل متقيحة.. مما دفع إحدى النسوة الواقفات بإلقاء غطاء أزرق فوق الجسد العاري.. لتحجب عنه أنظار الرجال المحدقة.. فيما ظلت (منى) الشبح الآخر مطلية بسخام الليل.. تبحث في عيون الآخرين عن بقاياها.. من زمن اكتسى عفونة المياه الراكدة.. تجرأت ولأول مرة أن تكسر أطواق الصمت الاختياري في محاولة لفض شرنقة إنسانية البشر الذين ظلوا جامدين حيال السيل المتدفق الذي اندلع بغتة كانوا هم الحاجز.. ..اللعنة التي سوف تلاحقها الى الأبد أيقظت بصوتها المبحوح تحت سماء غطتها أبخرة سوداء.. صحوة لضمائر حجرية.. لنفوس تسوست بأمراض العصر الجديد.. ثابتة كنخلة الدار.. رغم التأثر الوقتي.. تلك الذوات على انكفائها القديم.. لا تزحزحها توسلات الآلهة المحتضرة.. أو رفيف أجنحة الموت فوق الأشلاء المتناثرة عابقة برائحة الفتاتين.. ظلت الفضاءات بعتمتها السوداء الملوثة بالدماء.. تثقل على الحيوات التي احتضنها الليل.. بتسلط غريب لا يقهر.


ــــــــــــــــ
إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.



* عن وبإذن من:
كامل فرعون عيادة : الدخان (ملف/9)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى