دريني خشبة -2- نشأة الدرامة الإنجليزية

يحتفظ الأدب الإنجليزي من الدرامات القديسية بأربع مجموعات تنسب إلى مدن مختلفة هي يورك ويكفيلد وكوفنتري وشستر؛ كما يحتفظ بدرامة واحدة من كل من نيوكاسل ودبلن وإيست أنجليا ونورفولك. وتختلف هذه الدرامات طولاً وقصراً وجودة ورداءة، ويتركب بعضها من ثمانمائة بيت من الشعر، في حين يتركب البعض الآخر من ثمانين بيتاً فقط؛ ويتألف بعضها من نظم ونثر، أو نظم فقط، أو نثر فقط، وفي بعضها أغان جميلة كما تحوى بعضها الأغاني الغثة. على أن أجمل هذه المجموعات كلها هي مجموعة يورك لتنوع موضوعاتها وجمال أسلوب الكثير من دراماتها، والحرية الظاهرة في تناول حياة القديسين بالتصوير الجريء وكثرة الحركة التي هي حياة التمثيليات جمعاء

أما أقدم درامة قديسية كتبت باللغة الإنجليزية فهي درامة (حرث جهنم) أو (إسلاف جهنم) من سلف الأرض أو أسلافها أي أعدها للزرع بالمسلفة، وهي آلة ذات شعب ولا يعرف مؤلفها على وجه التحقيق. وقد ألفت في أواخر القرن الرابع عشر في عهد إدورد الثاني؛ وهي عبارة عن محاورات شائقة بين السيد المسيح عليه السلام وبين الشيطان عليه اللعنة تنتهي بهزيمة كبيرة الأبالسة، وتهليل البطاريق وتكبيرهم فرحاً بانتصار السيد المسيح واغتباطاً بإجاباته المفحمة

هذا، وقد كانت عناصر شتى تشترك في تأليف الدرامة، فمن ذلك الموضوع، وهو أهمها بالطبع، ثم الأسلوب، وكان يراعي فيه السهولة واليسر، نظماً أو نثراً؛ وذلك بعد أن فشلت الدرامات التي ألفها جون للي بأسلوبه الجزل وعبارته الفخمة. وجون للي هو مبتدع أسلوب اليوفوزم الرائع الأنيق المروأ في الأدب الإنجليزي. . . ثم الموسيقى والألحان والأغاني. . . بيد أن واحداً من هذه العناصر كلها يكاد يكون أهمها، لأنه يتفرد من بينها باهتمام الجماهير، إذا هو الذي يجذبهم لمشاهدة التمثيل، ثم هو بعد ذلك. أقوى الأسباب في نجاح الدرامة أو سقوطها. . . ذلك العنصر هو عنصر الهزل والتضحيك & الذي لم تكن تخلو منه درامة قديسية قط. والعجيب الذي يلفت أنظارنا نحن الشرقيين خاصة جرأة رجال الدين والمؤلفين الدراميين على السواء في إشاعة هذا العنصر في تلك التمثيليات التي تتناول الأنبياء والقديسين ورجال الدين عامة. . . حتى الملائكة. . . فهم قد هتكوا تلك الهالة المقدسة التي ينبغي أن تكلل رؤوس هذه الشخصيات المبجلة، وهم قد هتكوها إلى حد التحقير وتهوين الشأن والزراية بما كان من شأن الدين أن يتصونوا في تناوله. . . اسمع إلى هذا الحوار الذي نقتطفه لك من درامة (طوفان نوح) لترى إلى أي حد اجترأ المؤلف على شخصية هذا الرسول الكريم، أحد أولي العزم العظماء، من هداة البشرية الأولى. . . أنظر إلى هذا الحوار لتعجب كيف أجاز رجال الدين تمثيل هذا العبث بين يدي الشعب:

- نوح: أعدت الفلك، وقد آن لنا أن نبحر، فهلمي يا زوجتي الصالحة!

- زوجه نوح: ماذا؟ أركب في هذه السفينة وأترك تلك الأرض الراسخة؟ أوه! كلا، كلا. إنها لم تصنع من أجلي؛ ومع ذاك، فلدي ما يشغلني يا صاح، فإني ذاهبة لقضاء حاجات كثيرة تلزمنا من السوق اليوم

- نوح: والطوفان؟! ألا تخافين أن تغرقي؟

- الزوجة: آه! كلا. لا عليك. إن هذا لا يخيفني!

- نوح: لقد هطلت شآبيب المطر، وتفتحت أفواه السماء، ولست أرى أنها ستقلع، فتعالي وأركبي في الفلك معي!

- الزوجة: الفلك؟ ماذا تعني؟ ما هذا السر الذي أخفيته عني؟ لماذا لم تستشر زوجتك في أمره؟

- نوح: سر؟ ليس هناك سر قط! إنني لبثت أصنع هذه الفلك طيلة قرن بأكمله. ولقد شهدتني أصنعها طوال هذه المائة من السنين ألف ألف مرة بعينيك!

- الزوجة: حسن، بيد أنني لا أحفل كثيراً بالحياة في هذا المركب، إني سعيدة ههنا، ولست أستروح الحياة فوق الماء قط. . . ثم إني. . . لا أريد أن أصحبك!

- نوح: ولكن. . . إنك تغرقين، ما من ذلك بد، إن لم تفعلي!

- الزوجة: ولكنك أفسحت في مركبك المجال لخصومي والمتقولين علي من المؤمنين بك. . . وهم حفنة! على أنني أعجب كيف تغريني باصطحابك وترك كل هذا المجتمع، لأعاشر في فلكك الوحوش والطيور والزواحف؟! أف لك! إن إغرائك إياي ليغثي نفسي ويكرب صدري!

(وهنا تلكمه بقوة فوق أذنه)

- نوح: هدئي روعك أيتها الزوجة الصالحة. هدئي روعك! ولا يزال بها نوح حتى تستسلم وتركب آخر الأمر، ولكنها تثير الشغب في السفينة من أول الرحلة إلى آخرها، في مشاهد تضحيكية متصلة، لا نرى أنها كانت تتناسب مع الوقار اللازم للرسل

فانظر كيف تلكم نوحاً زوجته في تلك الدرامة الجريئة، كما ساط اليهودي قديس الكنيسة في الدرامة التي لخصناها لك سابقاً. . . على أننا سوف نتناول هذا النوع من الدرامات الكوميك (التضحيكية) بالتفصيل من موضعه من الطور الثالث

الطور الثالث

الدرامات الأخلاقية والفواصل &

ذكرنا في الموجز الذي وضعناه في مستهل هذا البحث، في العدد السابق، أن الدرامات الأخلاقية نسخت بالاشتراك مع الفواصل، الدرامات القديسية وحلت محلها. وفي إيراد الكلام على هذا النحو شيء من المبالغة. وربما كان عذرنا في ذلك أن خلافا شديداً قام بين المؤرخين على أصل هذه الدرامات الأخلاقية، فمنهم، وهم الأكثرية، من يقولون إنها نشأت من الدرامات القديسية. ومنهم من يعارض هذا الرأي، وينفي أن تلك فرع من هذه، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ مورلي من أساطين مؤرخي الأدب في العصر الحديث. على أنه لا مشاحة في أن الإنجيليات والقديسيات قد نشأت في الأمم اللاتينية عامة وانتقلت مع رسل الكنيسة من فرنسا إلى إنجلترا. أما الدرامات الأخلاقية فأكثر المؤرخين على أنها نشأت على أصول القديسيات، وأنها ثمرة من دوحتها الباسقة. وندع بعد هذا الناحية العلمية من مناقشة الفريقين المتناظرين، لأنها ليست من شأننا في هذا البحث. والدرامة الأخلاقية هي تلك الدرامة التي تعنى بالحقائق المجردة وفضائل ورذائل، فهي تجعلها أبطالاً وتتخذ منها شخصيتها وموضوعاتها، ويرجع هذا التجديد إلى أواخر القرن الرابع عشر حينما انتشر الشعر المجازي المشتمل على الكنايات والاستعارات المختلفة. وقد يكون لضيق الشعب بالدرامات القديسية أثر في هذا التحول، إذ أنه مل هذا النوع الواحد من التمثيليات الدينية التي أوشك أن يحفظها عن ظهر قلب لكثرة تكرارها، فأراد المؤلفون أن يتساموا بالدرامة فاقتحموا ميدان الأخلاق، لأنهم إنما كانوا ينشدون نشر الفضيلة - بعد تلقين دروس الدين - بما يقدمون للنظارة من هذه الدرامات. ولا غرو أن فرنسا كانت قد سبقت إنجلترا في ابتكار هذه الدرامة الأخلاقية، ولا يبعد أن تكون قد اقتبستها عنها كما اقتبست الإنجيليات من قبل: أما أن الدرامات الأخلاقية قد نسخت ما قبلها، فقد حدث ذلك بالتدريج فعلاً. فهم يذكرون أن آخر درامة قديسية قد مثلت في أواخر القرن السادس عشر. أو بالضبط سنة 1598 ثم ظلت الدرامات الأخلاقية تمثل بعد ذلك إلى أن ازدهر المسرح الإنجليزي بدرامات ماريو وشيكسبير وبن جونسون. ومن هذا يفهم أن القديسات واكبت الأخلاقيات زمناً طويلاً حتى تغلبت الأخيرة وحلت محلها. وقد كانت الرذيلة أقوى شخصيات الدرامة الأخلاقية. وكانت تحل دائماً محلاً هزلياً كما كانت الفضيلة توضع في مواضع الجد. فكان يمثل الرذيلة معتوه أو ضحكة أو أبله يجيد صوغ النكات والحركات التضحيكية، وكان يبدو دائماً وفي يده خنجر من الخشب، كما كانت ملابسه تثير الضحك الشديد. ولم تكن شيمة من الشيم إلا ولها موضع من درامة من هذه الأخلاقيات التي تكون فيها الشخصيات قسمة بين الفضائل والرذائل. فمقابل الطمع توجد القناعة، ومقابل الزنا يوجد العفاف، ومقابل الكذب يوجد الصدق، وضد الظلم العدالة وهكذا دواليك. وكان مقصوداً بتمثيل هذه الرذائل أن يحدث تباين مع الفضائل حتى لا يمل النظارة من كثرة الحض على التمسك بأهداب الفضيلة. ولهذا السبب كان وكد المؤلف أن يجعل شخصية رذيلة ما من الرذائل - كالجبن أو الشح مثلاً - مثيرة للضحك الذي يهز القلب ويفجر المشاعر، فإذا نال السامعون هذا النصيب من الترويح انتقل بهم المؤلف إلى شخصيات الفضائل الرزينة العاقلة - كالشجاعة والجود مثلاً - فجعلهما يردان على الجبن والشح في وقار وهون، ثم ينتقل إلى الرذائل ليعطي النظارة نصيباً من الضحك وهكذا حتى تنتهي الدرامة

وكانت الفترة التضحيكية المخصصة للرذائل تسمى فاصلاً - أو استراحة - وظل هذا هو النظام المعمول به في مزج الأخلاقيات بالفواصل حتى جاء جون هيوود (1506 - 1565) فألف في الفواصل خاصة، وبذلك أخذت تستقل الأخلاقيات وتكون نواة للملهاة وقبل أن نتكلم عن الفواصل نلم إلمامة ختامية بالأخلاقيات لنعطي القارئ نماذج سريعة من أنواعها ليكون لنفسه صورة من النضال المتصل والجهاد الرائع الذي مهد للمسرح الإنجليزي العتيد في عصر شكسبير العظيم. فمن هذه الدرامات الأخلاقية ما كان دينياً بحتاً مثل درامة قلعة المثابرة من عهد هنري السادس، وموضوعها الحرب بين النوع الإنساني وزملائه الفضائل السبع الرئيسية، ضد الكبائر السبع بقيادة زعمائها الثلاثة: مندس وبليال وكارو الذين يحاصرون النوع الإنساني في قلعة المثابرة، ثم نجاة النوع الإنساني آخر أمر. ومن هذا القبيل درامة (كل إنسان) وقد كتبت قبل سنة 1531 وفيها يستدعي (كل إنسان) هذا أمام محكمة إلهية ليقدم حساباً على ما قدمت يداه في الحياة الدنيا. . . وهنالك تخذله رفاقه (الزمالة والخفة والقوة والسرور والجمال) في حين لا يجد له نصيراً إلا حسناته التي تقدمه (إلى الاعتراف) الذي يبرئ ساحته

ومن تلك الدرامات أيضاً ما تلحظ فيه أثر حركة الإصلاح الديني والروح البروتستنتي الجديد، مثل درامة العرف الجديد أو درامة معركة الضمير. ومنها ما كان يتجه اتجاهاً علمياً يتمشى مع نور النهضة مثل درامة (العناصر الأربعة، وهي نضال بين العرفان وفضائله، والجهالة ومضارها؛ ونحوها درامة (الذكاء والعلم). ومنها ما كان سياسياً، مثل درامة (الفارس ألبيون) وهي تصور ذلك النضال الهائل بين الأشراف والعامة، والصدام الذي انتهى بالإصلاح الدستوري الكبير في بريطانيا. ونحوها درامة لوردات لندن الثلاثة وسيداتها الثلاث، وهي ملهاة لكاتب اسمه روبرت ولسن. وكان يحترف التمثيل. والسيدات هن المنفعة الخسيسة والحب والضمير. أما اللوردات فهم السياسة والأبهة والسرور (وأولئك هم سادة لندن) - ثم الكبرياء والطمع والظلم (وأولئك هم سادة أسبانيا) - ثم الرغبة والمسرة والولاء (وهؤلاء هم سادة لنكلن) وقد كتبت هذه الدرامة بعد تحطيم الأرمادة الأسبانية. وفيها تحقير شديد للأسبان وإشادة بالمجد الإنجليزي

هذا، وقد ألف بعد هذه المرحلة درامات لا هي أخلاقية كلها ولا هي فواصل كلها، بل كانت (بين بين) إن جاز هذا التعبير

أما الكلام عن الفواصل فيحسن أن يستقل بفصل خاص لأهميته، ولأنه كان البذرة الأولى للملهاة الإنجليزية، وهو ما سنتناوله في الفصل المقبل.

دريني خشبة


مجلة الرسالة - العدد 532
بتاريخ: 13 - 09 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى