-1-
كأن قدميّ لا تبلغان الأرض. كأنني أهرول في مرج الفراغ. مخطوفا أسير في الاتجاه الذي يمليه علي هتفان الروح. كأنّ قارورة خبل قد تكسرت في سريرتي بفعل هبوب فكرة هوجاء، فخفّتْ كينونتي ، وبدتْ مشاعري وخواطري وأفكاري ممسوسة بحبور مبهم، وأنا أنتقل مثل ريح مخبولة من محل إلى آخر، أقتني مستلزمات مشروعي من ألواح خشبية مصقولة، ومسامير متباينة الأحجام ، ومواد كهربائية ، وأظلاف الكاغد المقوى ، وأقمشة وزجاج ... وكل ما يلزم لجعل "إكليشيهاتي" الطبية في إطارات مضاءة من الداخل، مبتكرة وجذابة.
-2-
لم أتوان في تنفيذ قراري. لم أدَع لنفسي فرصة لتمحيص الأمر ، أو التفكير بمنطق المسؤولية الذي يبدو لي – الآن – متفسّخا ومدوّدا . أحسست في رجفة واحدة أن حياتي برمتها قد أصبحت زائدة، عدا هذه البارقة التي تمسك برأسي بلا فكاك . تركت القالة وهوس القماش ، تركت الهاتف ينهش برنينه وحشة المحل . تركت زبوناتي نهبا لغيري من تجار " سوق الغزل" . تركت كل شيئ دفعة واحدة وتفرغت لشأني الجديد.
-3-
بنظاراتي الشمسية السوداء التي أستعملها في حالات نادرة لحجب اندفاع نظراتي، اقتعدت كرسيا خشبيا متآكل الحواف في زاوية جانبية من زوايا قاعة العرض، ليس قريبا جدا من الزوار وليس بعيدا عنهم، لكي أتمكن من قراءة انفعالاتهم وهواجسهم وخباياهم في ظروف خالية من أي تشويش، وأتمكن من التقاط خفقات خواطرهم وأفكارهم ، وهم يتأملونني إربا إربا ، وأنا عار من ثوبي ومن جسدي. ثم وهم يمعنون النظر في عظامي ودواخل أعضائي ، حتى تذهب بهم المخاييل أي مذهب في تأويل أغواري، وكسوة جوفي بما يليق بأوهامهم من أزياء الخيال.
-4-
على الساعة الجدارية العتيقة، لم يعد دبيب العقارب المشيرة للوقت يعنيني. وحده العقرب الأحمر الرقيق النابض بالثواني يؤجج فتنة غامضة في خلجاتي . اللهفة تمسك بأطراف أصابعي، وتنفخ في مشاعري احتداما شفيفيا يجذب كياني نحو مجرة هباء رغيد، حتى أنني شعرت – وأنا أنظر إلى أعمالي جاهزة- وكأن الكون ممتليء بي .. كأنني رعشة تشكلت في جوارح لحظة كاشفة ثم انتشرت في الأرجاء.
-5-
في دردشاتي – بين الفينة والأخرى – مع الزوار، قيل لي الشيء الكثير عن تجربة كشف الفنان عن ذاته حتى العظام، وعن سلاسة الوساوس حين تستقى من كواليس فنان، وعن تقنية إلقاء القبض على الضوء المفترس، وتدبير رهافة للذات بالأبيض والأسود .. ولم يقل أحد : " لقد تألمت كثيرا". فهم حين ينظرون إلى جمجمتي في إطارها الأبيض البراق، فإنهم ينشغلون بحشو محجريّ بأبواغ خوفهم من شراسة الماوراء، وتوليد أفكار وتمثلات ونوايا لتعبئة ذلك الفراغ السادر تحت عظم جمجمتي الجداري، وخلف عظمها الجبهي، من غير أن يعيروا أدنى انتباه لطواحين الصداع التي قادتني إلى طبيب الرأس. وحين يتأملون قفصي الصدري، فإنهم ينهمكون في نسج عوالم من الاختلاجات والأسرار لتأثيث ذلك المجهول المترامي خلف أضلاعي، وصوغ تفسيرات وجدانية خاصة لتلك البقع الخفيفة الدكنة المنتشرة في صدري مثل مزق سحاب صيفي في يوم مصاب بعصاب الريح ، من غير أن يدور في أذهانهم سعالي وحشرجاتي واختناق تنفسي الذي قادني رأسا في سيارة أجرة صغيرة إلى غرفة الإنعاش. وحين يقفون بإحساس متضارب أمام " إكليشيه" حوضي ، فإنهم يسرحون عميقا في كهوف الإيروتيكا ، وهم يستنبتون لي قضيبا وهميا وخصيتين في ذلك الخراب الضوئي الذي تظهر فيه عظام العصعص والعجز والحرقفة بتجويفاتها المحشوة بدخان الاستيهام مثل بقايا جثة تناهشتها الحشرات في خلاء أمين، من غير أن يستشعروا ذلك الألم الفظيع الذي كان يقتلع مشاعري ساعة انغراز المباضع في وركي لتثبيت صفائح المعدن على العظم.. وحين يمعنون في "إكليشيه" يدي، فإنهم يلتحمون بمشطي حتى لتكاد الحركة تدبّ في سلامياتي، من غير أن يهتموا بما كابدت من الألم جراء الكسر المفصلي الذي منيت به في اشتباك يدوي مع سائق حافلة بعد اصطدام يدي بمقبض حديدي وانفراج خنصري عن بنصري بشكل زائد عن اللزوم.
-6-
بمحض اختياري قررت أن أصبح مهضوم الحياة. قررت أن أجري "دياليزا" لمشاعري وأفكاري، وأغير مجرى عيشي رأسا على عقب . قررت أن أنقطع نهائيا عن مهنة التجارة في أثواب النساء، لأصبح فنانا تشكيليا من دون ريشة ولا ضجيج ألوان. قررت أن أعود بالمشيئة إلى فطرتها الأولى بالأبيض والأسود.
-7-
عطلت جرس الباب، وأرخيت سماعة التلفون أرضا. وعكفت بمشغلي في الطابق الأرضي، أتنغم في قداسة ورهبة بضربات مطرقتي الخفيفة الخاطفة على رؤوس المسامير، وأملأ جوارحي بذلك الانشراح الفذ المنبعث من خشخشة منشاري الوضاء على قطع الخشب. وأنا أستنفر كل مهاراتي لأعد إطارات لأعمالي الضوئية وفق التصاميم والهندسات المرسومة في رأسي ، إطارات سميكة بيضاء ومجوفة تتيح لي تثبيت مصابيح "النايون" الدائرية على الخلفية الداخلية لكل إطار ، وتزويده بنظام إنارة يشبه نظام الأباجورات ، حتى إذا ضغطت على الزر ، انبعث الضوء في قلب الإطار ليضيء " الإكليشيه " من الخلف ، فتظهر تقاسيمه واضحة للناظرين.
-8-
بالنسبة لي، كل واحد من هذه " الإكليشيهات" المعروضة للعموم يحمل ظلال ألم خاص لا يحيط بتفاصيله سواي . وإن كان الزوار يقفون في استغراق أمام أطرافي الشفافة المثبتة على الجدران مثل شرائح ظلمة مضاءة من الخلف، فإنهم – بلا شك – يبحثون فيّ عن أشياء تخصهم وتشبع هوائش فضولهم، وليس عما يشد مشاعرهم إلى مكامن أوجاعي... إن الألم ملكية شخصية جدا ، لا يمكن لأي كان أن يضع إحساسه رهن إشارتك لتتألم به قليلا ثم تعيده إليه ، فالآلام المدخرة في هذه الإكليشيهات هي لي وحدي، ولن يعنّ أبدا لواحد من هؤلاء الزوار الكثيرين أن يجند إحساسه لحظة للشعور بقسط منها.
-9-
بمنتهى الدهاء دبرت اقتلابي ضد شيخوخة الجمال.
بلا ضوضاء، ولا قلاقل داخل ثكنات أفكاري، حبكت لنفسي ناموسا مغايرا للذهول، وأعلنت الكون – الذي نزّ عبر مراشح الحسّ في كياني – كونا ركيكا، وأرسلت دبدباتي بسلاسة في رحاب سبسب منزوع الجمال، وأسست لنفسي منهاجا متفردا لعرض الذات على العموم ، ثم شرعت أرتب شأني بمنتهى الاحتراس من أي مقلب أو مطبّ، وعقدت العزم على الدفع بفكرتي إلى حيّز التنفيذ.
كأن قدميّ لا تبلغان الأرض. كأنني أهرول في مرج الفراغ. مخطوفا أسير في الاتجاه الذي يمليه علي هتفان الروح. كأنّ قارورة خبل قد تكسرت في سريرتي بفعل هبوب فكرة هوجاء، فخفّتْ كينونتي ، وبدتْ مشاعري وخواطري وأفكاري ممسوسة بحبور مبهم، وأنا أنتقل مثل ريح مخبولة من محل إلى آخر، أقتني مستلزمات مشروعي من ألواح خشبية مصقولة، ومسامير متباينة الأحجام ، ومواد كهربائية ، وأظلاف الكاغد المقوى ، وأقمشة وزجاج ... وكل ما يلزم لجعل "إكليشيهاتي" الطبية في إطارات مضاءة من الداخل، مبتكرة وجذابة.
-2-
لم أتوان في تنفيذ قراري. لم أدَع لنفسي فرصة لتمحيص الأمر ، أو التفكير بمنطق المسؤولية الذي يبدو لي – الآن – متفسّخا ومدوّدا . أحسست في رجفة واحدة أن حياتي برمتها قد أصبحت زائدة، عدا هذه البارقة التي تمسك برأسي بلا فكاك . تركت القالة وهوس القماش ، تركت الهاتف ينهش برنينه وحشة المحل . تركت زبوناتي نهبا لغيري من تجار " سوق الغزل" . تركت كل شيئ دفعة واحدة وتفرغت لشأني الجديد.
-3-
بنظاراتي الشمسية السوداء التي أستعملها في حالات نادرة لحجب اندفاع نظراتي، اقتعدت كرسيا خشبيا متآكل الحواف في زاوية جانبية من زوايا قاعة العرض، ليس قريبا جدا من الزوار وليس بعيدا عنهم، لكي أتمكن من قراءة انفعالاتهم وهواجسهم وخباياهم في ظروف خالية من أي تشويش، وأتمكن من التقاط خفقات خواطرهم وأفكارهم ، وهم يتأملونني إربا إربا ، وأنا عار من ثوبي ومن جسدي. ثم وهم يمعنون النظر في عظامي ودواخل أعضائي ، حتى تذهب بهم المخاييل أي مذهب في تأويل أغواري، وكسوة جوفي بما يليق بأوهامهم من أزياء الخيال.
-4-
على الساعة الجدارية العتيقة، لم يعد دبيب العقارب المشيرة للوقت يعنيني. وحده العقرب الأحمر الرقيق النابض بالثواني يؤجج فتنة غامضة في خلجاتي . اللهفة تمسك بأطراف أصابعي، وتنفخ في مشاعري احتداما شفيفيا يجذب كياني نحو مجرة هباء رغيد، حتى أنني شعرت – وأنا أنظر إلى أعمالي جاهزة- وكأن الكون ممتليء بي .. كأنني رعشة تشكلت في جوارح لحظة كاشفة ثم انتشرت في الأرجاء.
-5-
في دردشاتي – بين الفينة والأخرى – مع الزوار، قيل لي الشيء الكثير عن تجربة كشف الفنان عن ذاته حتى العظام، وعن سلاسة الوساوس حين تستقى من كواليس فنان، وعن تقنية إلقاء القبض على الضوء المفترس، وتدبير رهافة للذات بالأبيض والأسود .. ولم يقل أحد : " لقد تألمت كثيرا". فهم حين ينظرون إلى جمجمتي في إطارها الأبيض البراق، فإنهم ينشغلون بحشو محجريّ بأبواغ خوفهم من شراسة الماوراء، وتوليد أفكار وتمثلات ونوايا لتعبئة ذلك الفراغ السادر تحت عظم جمجمتي الجداري، وخلف عظمها الجبهي، من غير أن يعيروا أدنى انتباه لطواحين الصداع التي قادتني إلى طبيب الرأس. وحين يتأملون قفصي الصدري، فإنهم ينهمكون في نسج عوالم من الاختلاجات والأسرار لتأثيث ذلك المجهول المترامي خلف أضلاعي، وصوغ تفسيرات وجدانية خاصة لتلك البقع الخفيفة الدكنة المنتشرة في صدري مثل مزق سحاب صيفي في يوم مصاب بعصاب الريح ، من غير أن يدور في أذهانهم سعالي وحشرجاتي واختناق تنفسي الذي قادني رأسا في سيارة أجرة صغيرة إلى غرفة الإنعاش. وحين يقفون بإحساس متضارب أمام " إكليشيه" حوضي ، فإنهم يسرحون عميقا في كهوف الإيروتيكا ، وهم يستنبتون لي قضيبا وهميا وخصيتين في ذلك الخراب الضوئي الذي تظهر فيه عظام العصعص والعجز والحرقفة بتجويفاتها المحشوة بدخان الاستيهام مثل بقايا جثة تناهشتها الحشرات في خلاء أمين، من غير أن يستشعروا ذلك الألم الفظيع الذي كان يقتلع مشاعري ساعة انغراز المباضع في وركي لتثبيت صفائح المعدن على العظم.. وحين يمعنون في "إكليشيه" يدي، فإنهم يلتحمون بمشطي حتى لتكاد الحركة تدبّ في سلامياتي، من غير أن يهتموا بما كابدت من الألم جراء الكسر المفصلي الذي منيت به في اشتباك يدوي مع سائق حافلة بعد اصطدام يدي بمقبض حديدي وانفراج خنصري عن بنصري بشكل زائد عن اللزوم.
-6-
بمحض اختياري قررت أن أصبح مهضوم الحياة. قررت أن أجري "دياليزا" لمشاعري وأفكاري، وأغير مجرى عيشي رأسا على عقب . قررت أن أنقطع نهائيا عن مهنة التجارة في أثواب النساء، لأصبح فنانا تشكيليا من دون ريشة ولا ضجيج ألوان. قررت أن أعود بالمشيئة إلى فطرتها الأولى بالأبيض والأسود.
-7-
عطلت جرس الباب، وأرخيت سماعة التلفون أرضا. وعكفت بمشغلي في الطابق الأرضي، أتنغم في قداسة ورهبة بضربات مطرقتي الخفيفة الخاطفة على رؤوس المسامير، وأملأ جوارحي بذلك الانشراح الفذ المنبعث من خشخشة منشاري الوضاء على قطع الخشب. وأنا أستنفر كل مهاراتي لأعد إطارات لأعمالي الضوئية وفق التصاميم والهندسات المرسومة في رأسي ، إطارات سميكة بيضاء ومجوفة تتيح لي تثبيت مصابيح "النايون" الدائرية على الخلفية الداخلية لكل إطار ، وتزويده بنظام إنارة يشبه نظام الأباجورات ، حتى إذا ضغطت على الزر ، انبعث الضوء في قلب الإطار ليضيء " الإكليشيه " من الخلف ، فتظهر تقاسيمه واضحة للناظرين.
-8-
بالنسبة لي، كل واحد من هذه " الإكليشيهات" المعروضة للعموم يحمل ظلال ألم خاص لا يحيط بتفاصيله سواي . وإن كان الزوار يقفون في استغراق أمام أطرافي الشفافة المثبتة على الجدران مثل شرائح ظلمة مضاءة من الخلف، فإنهم – بلا شك – يبحثون فيّ عن أشياء تخصهم وتشبع هوائش فضولهم، وليس عما يشد مشاعرهم إلى مكامن أوجاعي... إن الألم ملكية شخصية جدا ، لا يمكن لأي كان أن يضع إحساسه رهن إشارتك لتتألم به قليلا ثم تعيده إليه ، فالآلام المدخرة في هذه الإكليشيهات هي لي وحدي، ولن يعنّ أبدا لواحد من هؤلاء الزوار الكثيرين أن يجند إحساسه لحظة للشعور بقسط منها.
-9-
بمنتهى الدهاء دبرت اقتلابي ضد شيخوخة الجمال.
بلا ضوضاء، ولا قلاقل داخل ثكنات أفكاري، حبكت لنفسي ناموسا مغايرا للذهول، وأعلنت الكون – الذي نزّ عبر مراشح الحسّ في كياني – كونا ركيكا، وأرسلت دبدباتي بسلاسة في رحاب سبسب منزوع الجمال، وأسست لنفسي منهاجا متفردا لعرض الذات على العموم ، ثم شرعت أرتب شأني بمنتهى الاحتراس من أي مقلب أو مطبّ، وعقدت العزم على الدفع بفكرتي إلى حيّز التنفيذ.