عبد الغني صراض - الشبيه

عبدالغني صراض.jpg

"هل هناك من لا يشبه نفسه على هذه الأرض؟". (أمير تاج السر، "إيبولا"، 76)
أية حماقة تجعلني أومن بأن كل الأشياء لا تشبهني؟ وهذه المخلوقات جميعها: الأرض، السماء، الإنس، الجن، الملائكة، العفاريت وكل هذه الأشياء التي تحوم حولي، والتي احتّلتني اعتسافا، وانتحلت ذاتي من غير إذْن أليست أسرارا تشبهني؟. ربما اجتمعت، بالصدفة، داخل العلبة المقيتة التي تشكلني. وقد يحدث أن تكون أسيرة ذاتي المشاعة لها سلفا. ولشبهها المفترض بي، فلا محالة أنها تمتلك قدرة على تأجيج رغبة الصراع بداخلي؛ فأنا كائن مخذول، لا أمتلك قيمة حظ. وكل الأشياء التي تشبهني، حتما، لم تترك لي إلا كدمات وجراحات متعبة تستقر بكيان علبتي المتشظية..
**
بتأفف مقيت، أنسحب إلى المقهى الغارقة في مستنقع ممل، و لا تنتمي إلى زمن محدد. الأشياء بها تشي بالرعب والوجل، أدخنة "الشيشا" المتسربة عبر النوافذ الزجاجية شبه المغلقة تحاور أنوف الرائيين القابعين على الكراسي التي اسودّت بفعل أدخنة عوادم الحافلات، موسيقى كلاسيكية متسربة من مذياع قديم موضوع على "الكونتوار" تخلق ارتعاشات لحالمين ينتظرون سقوط الشمس في البحر، وأنا يتقاذفني الصمت بركن زاوية من هذه المقهى كهارب تغازله "رامايانا" الهندوس المقدسة وتنثر أسرارها على الفراغ الذي يحمل صمته.
**
في تأمل مستفز، أنقر بيدي على الطاولة الخشبية الملتصقة بالواجهة المطلة على البحر.. أترقب حضور أسئلة على الوجوه التي ألفت فراغها بالمقهى، نقاشات وحوارات تكاد تتشابه يوميا ألفت أصوات أصحابها، صراخهم يعلو ويشتّد ثم يغيب أحيانا، وأنا أرمق جيوشا من النوارس تحلّق فوق قارب صخري يحمل جثة الوليّ الصالح "مول المزمار" المكوم هناك منذ أزل داخل علبة غير مرتبطة بزمان؛ لكنها مرتبطة بأحداث وبركات لا يعرفها إلا أهل الكرامات.
**
همسٌ خفيفٌ، ارتد إليّ يقول
أما بعد،
: "ولما اشتد بي الحال وسط البحر قبالة مدينة أنفا، وأنا قادم أصفع الأمواج، أقمتُ وسط البحر خوفا من المتعقبين، أقتات على فضلات البحر وصدقات الصيادين، وجعلت من مزماري وسيلة تعبد وتزهد في الدنيا، وحدث أن نامت روحي على حسرة الفراق لأهلي وعشيرتي ؛ فرأيت في منامي العابد الزاهد المولى بوشعيب الرداد بلحيته الغثة الرمادية على بساطه الأخضر، يشد على رأسي حاثا إياي على قمع شهواتي الجسدية، عدم الاستسلام للغواية والغرور، والخروج عن طريق السالكين العباد، والبوح بسر من أسراري، فكان أني استفقت من نومي منهكا وحمى تلدغ جميع أعضائي. ولا أخفيك أني من يومها وأنا في حيرة من أمري تتقاسمني إغراءات الكلام والصمت والاحتراس في فضح أسراري. ومن شدة غروري، شاعت كراماتي، وانفضحت أسراري، واستبدت بي الغواية، وأصبحت محجا للراغبين في الملذات والحاجات، وها أنا ذا أبلغك حقيقة أمري".
كم وددت أن أشبه الرجل في صبره على امتطاء البحر، وتوزيع بركاتي المعطلة على الراغبين والزائرين من النساء والرجال والأطفال والشيوخ والمقدمين والسلطات وأصحاب اللذة. كم وددت أن أكون كنحت بليد رابض على الصخرة، أو صورة لهذا الرجل أوزع بمزماري البركات النائمة فيّ إلى حين.
**
الجريدة التي أمامي أتفحصها في توأدة تامة، أرتّب أوراقها كما القهوة السوداء التي أمامي. كنت كمن يريد التخلص من هذه التجريدات اليومية وأنا أختبئ باشتهاء تام خلف الأشياء، حيث لا أبصر شيئا، ولا أرى شيئا، ولا أقدر قيمالأشياء أو ألتمس هجنتها المتجذرة في ذاتها، حيث لا صورة تمثل حقيقة لغزي الماكر الذي يأبى أن يتخطى مراياه الصدئةالمجذورة بفعل تراكم الزمان عليه.
أنسل من الباب الأمامي للمقهى، أتوجه صوب الكورنيش، بحثا عن أشياء تشبهني، وأنا أندس وسط هذا الظلام المكشر ألوّح بعينيّ المفتوحتين جهة اليمين واليسار، وأجذف بمخيلتي على القوارب المنتشرة في الشارع العام للكورنيش. أتذكر وأنا أرتجف في أعماقي أنه منذ سنوات طويلة طويلة جدا لم تحملني قدماي إلى هذا المكان المفزع. كنت ألتمس لغيابي أعذارا لم تكن من عالمي الحقيقي. إحساس غريب ينتابني وأنا أتامل الأشياء بضبابية غريبة، لا شيء يشبهني منها، لا شيء من زماني، ولا شيء يحملني من داخلي. هل، بالفعل، ثمة من يشبه خوفي ووحدتي وخيبتي؟ قد أبقى وحيدا في هذا العالم المحيط بي من غير شبيه. صراخ صامت ينتابني وأنا أولي وجهي جهة الولي "مول المزمار"، أبحث عن قارب صخري أرتد إليه علّه يلتمس هجنتي في ذاتي.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى