"إنَّه يومُك الأخيرُ, صباحُكَ الأخيرُ… أيها التائهُ في البلاد البعيدة.
تنفَّسْ بعمق، اشحن الذاكرةَ جيِّداً، احفظ ْصُورَ الأعداءِ، والأصدقاءِ ولا تخطئ.
انظرْ حولك جيَّداً… فلن ترى هذه البلادَ مرَّة ً أخرى".
أنهى كتابة َكلماتِه، وأغلقَ الدفترَ الصغير.
أمواجُ المحيطِ تتلاطمُ أمامَه, وتمثالُ الحرِّيَّة ينتصبُ على مدخل القارَّة، شعلته ترتفعُ عالياً منذُ عشرات السنين، نظر إليه دونَ اكتراثٍ ومضى.
إحساسٌ بالمرارة يملأ كيانَه منذُ ذلك الحدثِ الذي فجَّرَفيه كَوامِنَ غضبه...
في البداية كان الأمرُ معتاداً, جزءاً من عمله الصحفيّ. حَمَلَ آلة التصويرِ, وضَعَ حقيبته الصغيرة َعلى كتفه, وتوجَّهَ إلى ( جامعة جورج تاون ) ليغطيَ الحَدَث.
مبنى الجامعةِ يبدو لامعاً, مغسولاً بماءِ المطر المنهمِر، وفي الداخل َصدَمَتْهُ المنشوراتُ المعلَّقةُ على الجدران. نَزَعَ واحداً منها، تمعَّنَ فيه طويلاً:
"هل تكرهُهُمْ ؟... نحن أيضاً نكرَهُهُم "... وتحتَ العبارةِ صورةٌ لرجلٍ باللباس العربيِّ التقليديّ.
شعر بالغثيان. لم يلتقطْ صُوراً، ولم يسجّلْ ملاحظاتٍ، أحسَّ بأنَّ الكلماتِ موجَّهةٌ إليه هو، وأنَّ هذه القضيةَ قضيتُه هو... وهل يمكنه أنْ يظلَّ شاهدَ زُورٍ على احتقارهم له ؟!
انقطعَ عن العمل أيَّاماً، ومرَّتْ ليالٍ طويلة ٌمن التّعب و الأرَق.
عاد إلى التقارير الكثيرة التي تراكمت عنده، منذ أن كلفتْـه الصحيفةُ بتغطية ردودِ الأفعـال التي يتعرَّضُ لها العربُ، والمسلمون بَعْدَ أحداث الحادي عَشَرَ من أيلول: مراقبةٌ في المطارات، وسوءُ معاملةٍ، التصنُتُ على المحادثات, وأوامرُ اعتقالٍ إلى أجَلٍ غيرِ مسمَّى، وحملاتُ تشويهٍ واحتقارٍ للعنصر العربيِّ.
تذكَّر النزاعاتِ التي كانت تقومُ مع رئيس التحرير عندَ كلِّ مَقالٍ يكتبه كي يتناسبَ مع (حياديَّةِ المهنة).
وجاءَ مقاله الأخيرُ ورقةَ دفاعٍ عن وطنه، واتّهاماً لبلد الحريَّةِ المتبجِّحة. أفرَغَ تراكماتِ السنين, فجّر إحساسَه بالدونيَّة بكلماتٍ تُعيد إلى نفسه بعضَ توازنها.
أعاد رئيس التحرير المقالَ أكثرَ من مرّة، ووضعَ ملاحظات على لغة المقال (المنحازة)؛ لكنَّه لم يتنازلْ, ولم يقبلْ أيَّ تعديل.
رفضتِ الصحيفةُ نشْرَ المقال، أحسَّ بأنّه ينتمي إلى وطنٍ يَغارُ عليه, ويدافعُ عنه ولو بمقالٍ لم يُنْشَرْ، وعاد بذاكرته إلى شوارع وطنه، رجالٌ بنظاراتٍ سود, لا يرَوْنَ خلفَها إلا ما تسمحُ زجاجاتُها المعتمة بأن يروه, يملِكون حقَّ رزقِه وفقرِه، يطاردونه في كلِّ مكان, يدخلون بين تلافيف دماغه، يفتّشون عن أفكارٍ لا تناسبُ مصالحَهم؛ لكنَّ عزاءه أنَّ العيون كانت تطاردُه لأنه أراد وطنَه أكثرَ عدلاً, ورأفةً بأبنائه… فأيُّ عزاء له الآن؟
قدَّم استقالته، تعرَّضَ لحملةِ عَداء، تعزَّزتْ لديه القناعةُ بأنَّ ما يحدثُ ليس ردودَ أفعالٍ عفويّة، بل عملٌ عنصريٌّ تقوده منظماتٌ كبيرة, وتُدفَعُ له أموالٌ كثيرة, وترعاه أجهزة الدولةِ الكبرى.
اِنهارَ في عينيه تمثـالُ الحرّيّـة, سـقطت شـعلتُه العالية، وشـعورٌ باحتقار الذات لازَمَه، صَغُرَ كثيراً في نفسه، وكبُرَ وطنه، استيقظ في داخـله الحنيـنُ إلى بيت أهله الصغير في ذلك الزقاق الضيّق الذي تملؤه أوّلُ غيمةٍ شتائيّةٍ بالمستنقعات، وتنازعتْه مشاعرُ متناقضة:
"ما سرُّ هذا الحنينِ إلى وطنٍ أحببتَه أكثرَ من حبِّك لذاتِك, فلمْ تجنِ غيرَ المطاردة، والاختفاءِ، والهرب؟".
الشارعُ الواسعُ يكتظُّ بالسيارات، والضجيجُ يملأ المدينة.
وحدَه يمشي في هذا الصباح الشتائيِّ, في مدينةٍ لم يعدْ يملكُ فيها ِسوى جوازِ سفرٍ، وحقيبةٍ صغيرة.
سنواتٌ طويلةٌ مرَّتْ منذ أن جاء إلى الولايات المتَّحدة، عَمِلَ في صُحفِها حَصَلَ على الجنسيّة الأمريكيّة، امتلك بيتاً وسيّارةً... وسيُدركُ بعد كلِّ تلك السنين, وبمرارة الفجيعة, أنه ليس بجواز السفر نملك وطناً, ليس بالبيت, والعمل والسيارة.
موعدُ السفر يقترب. تفقَّدَ حقيبتَه, رأى جواز السفر الذي جاء به أولَّ مرَّةٍ, ولم يفارقْه.
صالةُ المطار تزدحمُ بالناس، لا أحدَ مَعَهُ، لا أحدَ يودِّعه.
وحيداً, ومهزوماً يعود, مثلما جاء وحيداً ومهزوماً.
ساعاتُ الطيَران –وإنْ طالتْ– فستنتهي في أرض الوطن.
تغزوه الذكرياتُ, تلحُّ عليه في رحلة هجرته الأخيرة: كيف سافر ِسرَّاً إلى بيروت، وأصبح متسوِّلاً يستجدي السفاراتِ، يفتِّش عن وطنٍ يحتويه، حتّى دخل السفارةَ الأمريكيّةَ، وخرج منها ليبدأَ رحلةَ الغربةِ والتشرُّد.
وهاهو يعودُ من جديد، يعود كما خرجَ، بحقيبةِ َسفَرٍ لا تحوي سوى الخيبةِ، والفجيعةِ، والأحلام ِالموؤودة.
وجيبُ القلب لا يهدأ، الشوقُ، الخوفُ, الفرحُ، والألمُ، مشاعرُ تتزاحم في صدره.
يطالِعه موظّفُ الجوازات بلباسه الرسميِّ، ناوَله جوازَ السفر، يتمعّن الموظّف في جواز السفر الأمريكيِّ تارةً، وفي شاشة الحاسوب تارةً أخرى… وتارةً ينظر إليه.
الصمتُ يسودُ، ولحظاتُ الانتظارِ تطول, تتمدّدُ على الأعصاب المكهربة. خرج الموظف من خلف الزجاج، وطلب منه مرافَقتَه.
في مكتب مدير أمـن المطار فاجأه الضابط بوسامته، وأناقته, والنظافة التي تفيض منه, تنهمر على المقاعد الجلديّة اللامعة, والمكتبِ الجميل, والنافذةِ الواسعةِ التي يدخل منها ضوءُ النهار.
دعاه للجلوس، نظر إليه باستغرابٍ، نظر حوله… كلُّ شيءٍ مختلفٌ, جديدٌ, وجميل!
فتّشَ عن النظارة السوداءِ… لاشيءَ على الطاولة، لاشيءَ على المكتبة:
" حقاً… لقد تغيَّرَ كلُّ شيء ".
بينما مديرُ الأمنِ يفتحُ دُرْجَ مكتبِهِ، التقطتْ عيناه مغلَّفاً كبيراً, وفوقه نظارةٌ سوداء، توجّسَ قلبُه، دقَّاتُه ازدادتْ في صدره، أفكارٌ شتّى هاجمتْه دفعةً واحدة. أخْرَجَ الضابطُ الملفَّ، وقال بأدبٍ واضح:
ـ هذا ملفُّك القديمُ، ولابدَّ من إنهائِه. نظر في جواز السفر الذي أمامه, وتابَع: من حقِّك أن تُخْـبِرَ السفارةَ الأمريكيّةَ؛ لكنّ الأمرَ يتعلَّق بالماضي، حين كنتَ مواطناً من أبناء البلد.
جرحَتْه العبارة ُالأخيرة، وشعورٌ بالإهانة سيطرَ عليه، أزاحَ من نفْسه كلَّ المشاعر الأخرى، تفرَّسَ بالضابطِ الأنيق، ونـهض، وقف ملاصقاً للمكتب، مواجهاً له مباشرةً، مدَّ يدَه، أزاح جوازَ السفرِ الأجنبيَّ إلى الطرفِ البعيدِ من الطاولة أخرَجَ من جيبه جوازَ سفره القديم، وَضَعَه فوق الملفِّ الكبير، وبكلماتٍ هادئةٍ واضحةٍ قال له:
ـ نحن الآن مواطنان في البلد نفسِه، مواطنان متساويان، بإمكاننا –معاً- أن ننهيَ كلَّ الملفّات.
تنفَّسْ بعمق، اشحن الذاكرةَ جيِّداً، احفظ ْصُورَ الأعداءِ، والأصدقاءِ ولا تخطئ.
انظرْ حولك جيَّداً… فلن ترى هذه البلادَ مرَّة ً أخرى".
أنهى كتابة َكلماتِه، وأغلقَ الدفترَ الصغير.
أمواجُ المحيطِ تتلاطمُ أمامَه, وتمثالُ الحرِّيَّة ينتصبُ على مدخل القارَّة، شعلته ترتفعُ عالياً منذُ عشرات السنين، نظر إليه دونَ اكتراثٍ ومضى.
إحساسٌ بالمرارة يملأ كيانَه منذُ ذلك الحدثِ الذي فجَّرَفيه كَوامِنَ غضبه...
في البداية كان الأمرُ معتاداً, جزءاً من عمله الصحفيّ. حَمَلَ آلة التصويرِ, وضَعَ حقيبته الصغيرة َعلى كتفه, وتوجَّهَ إلى ( جامعة جورج تاون ) ليغطيَ الحَدَث.
مبنى الجامعةِ يبدو لامعاً, مغسولاً بماءِ المطر المنهمِر، وفي الداخل َصدَمَتْهُ المنشوراتُ المعلَّقةُ على الجدران. نَزَعَ واحداً منها، تمعَّنَ فيه طويلاً:
"هل تكرهُهُمْ ؟... نحن أيضاً نكرَهُهُم "... وتحتَ العبارةِ صورةٌ لرجلٍ باللباس العربيِّ التقليديّ.
شعر بالغثيان. لم يلتقطْ صُوراً، ولم يسجّلْ ملاحظاتٍ، أحسَّ بأنَّ الكلماتِ موجَّهةٌ إليه هو، وأنَّ هذه القضيةَ قضيتُه هو... وهل يمكنه أنْ يظلَّ شاهدَ زُورٍ على احتقارهم له ؟!
انقطعَ عن العمل أيَّاماً، ومرَّتْ ليالٍ طويلة ٌمن التّعب و الأرَق.
عاد إلى التقارير الكثيرة التي تراكمت عنده، منذ أن كلفتْـه الصحيفةُ بتغطية ردودِ الأفعـال التي يتعرَّضُ لها العربُ، والمسلمون بَعْدَ أحداث الحادي عَشَرَ من أيلول: مراقبةٌ في المطارات، وسوءُ معاملةٍ، التصنُتُ على المحادثات, وأوامرُ اعتقالٍ إلى أجَلٍ غيرِ مسمَّى، وحملاتُ تشويهٍ واحتقارٍ للعنصر العربيِّ.
تذكَّر النزاعاتِ التي كانت تقومُ مع رئيس التحرير عندَ كلِّ مَقالٍ يكتبه كي يتناسبَ مع (حياديَّةِ المهنة).
وجاءَ مقاله الأخيرُ ورقةَ دفاعٍ عن وطنه، واتّهاماً لبلد الحريَّةِ المتبجِّحة. أفرَغَ تراكماتِ السنين, فجّر إحساسَه بالدونيَّة بكلماتٍ تُعيد إلى نفسه بعضَ توازنها.
أعاد رئيس التحرير المقالَ أكثرَ من مرّة، ووضعَ ملاحظات على لغة المقال (المنحازة)؛ لكنَّه لم يتنازلْ, ولم يقبلْ أيَّ تعديل.
رفضتِ الصحيفةُ نشْرَ المقال، أحسَّ بأنّه ينتمي إلى وطنٍ يَغارُ عليه, ويدافعُ عنه ولو بمقالٍ لم يُنْشَرْ، وعاد بذاكرته إلى شوارع وطنه، رجالٌ بنظاراتٍ سود, لا يرَوْنَ خلفَها إلا ما تسمحُ زجاجاتُها المعتمة بأن يروه, يملِكون حقَّ رزقِه وفقرِه، يطاردونه في كلِّ مكان, يدخلون بين تلافيف دماغه، يفتّشون عن أفكارٍ لا تناسبُ مصالحَهم؛ لكنَّ عزاءه أنَّ العيون كانت تطاردُه لأنه أراد وطنَه أكثرَ عدلاً, ورأفةً بأبنائه… فأيُّ عزاء له الآن؟
قدَّم استقالته، تعرَّضَ لحملةِ عَداء، تعزَّزتْ لديه القناعةُ بأنَّ ما يحدثُ ليس ردودَ أفعالٍ عفويّة، بل عملٌ عنصريٌّ تقوده منظماتٌ كبيرة, وتُدفَعُ له أموالٌ كثيرة, وترعاه أجهزة الدولةِ الكبرى.
اِنهارَ في عينيه تمثـالُ الحرّيّـة, سـقطت شـعلتُه العالية، وشـعورٌ باحتقار الذات لازَمَه، صَغُرَ كثيراً في نفسه، وكبُرَ وطنه، استيقظ في داخـله الحنيـنُ إلى بيت أهله الصغير في ذلك الزقاق الضيّق الذي تملؤه أوّلُ غيمةٍ شتائيّةٍ بالمستنقعات، وتنازعتْه مشاعرُ متناقضة:
"ما سرُّ هذا الحنينِ إلى وطنٍ أحببتَه أكثرَ من حبِّك لذاتِك, فلمْ تجنِ غيرَ المطاردة، والاختفاءِ، والهرب؟".
الشارعُ الواسعُ يكتظُّ بالسيارات، والضجيجُ يملأ المدينة.
وحدَه يمشي في هذا الصباح الشتائيِّ, في مدينةٍ لم يعدْ يملكُ فيها ِسوى جوازِ سفرٍ، وحقيبةٍ صغيرة.
سنواتٌ طويلةٌ مرَّتْ منذ أن جاء إلى الولايات المتَّحدة، عَمِلَ في صُحفِها حَصَلَ على الجنسيّة الأمريكيّة، امتلك بيتاً وسيّارةً... وسيُدركُ بعد كلِّ تلك السنين, وبمرارة الفجيعة, أنه ليس بجواز السفر نملك وطناً, ليس بالبيت, والعمل والسيارة.
موعدُ السفر يقترب. تفقَّدَ حقيبتَه, رأى جواز السفر الذي جاء به أولَّ مرَّةٍ, ولم يفارقْه.
صالةُ المطار تزدحمُ بالناس، لا أحدَ مَعَهُ، لا أحدَ يودِّعه.
وحيداً, ومهزوماً يعود, مثلما جاء وحيداً ومهزوماً.
ساعاتُ الطيَران –وإنْ طالتْ– فستنتهي في أرض الوطن.
تغزوه الذكرياتُ, تلحُّ عليه في رحلة هجرته الأخيرة: كيف سافر ِسرَّاً إلى بيروت، وأصبح متسوِّلاً يستجدي السفاراتِ، يفتِّش عن وطنٍ يحتويه، حتّى دخل السفارةَ الأمريكيّةَ، وخرج منها ليبدأَ رحلةَ الغربةِ والتشرُّد.
وهاهو يعودُ من جديد، يعود كما خرجَ، بحقيبةِ َسفَرٍ لا تحوي سوى الخيبةِ، والفجيعةِ، والأحلام ِالموؤودة.
وجيبُ القلب لا يهدأ، الشوقُ، الخوفُ, الفرحُ، والألمُ، مشاعرُ تتزاحم في صدره.
يطالِعه موظّفُ الجوازات بلباسه الرسميِّ، ناوَله جوازَ السفر، يتمعّن الموظّف في جواز السفر الأمريكيِّ تارةً، وفي شاشة الحاسوب تارةً أخرى… وتارةً ينظر إليه.
الصمتُ يسودُ، ولحظاتُ الانتظارِ تطول, تتمدّدُ على الأعصاب المكهربة. خرج الموظف من خلف الزجاج، وطلب منه مرافَقتَه.
في مكتب مدير أمـن المطار فاجأه الضابط بوسامته، وأناقته, والنظافة التي تفيض منه, تنهمر على المقاعد الجلديّة اللامعة, والمكتبِ الجميل, والنافذةِ الواسعةِ التي يدخل منها ضوءُ النهار.
دعاه للجلوس، نظر إليه باستغرابٍ، نظر حوله… كلُّ شيءٍ مختلفٌ, جديدٌ, وجميل!
فتّشَ عن النظارة السوداءِ… لاشيءَ على الطاولة، لاشيءَ على المكتبة:
" حقاً… لقد تغيَّرَ كلُّ شيء ".
بينما مديرُ الأمنِ يفتحُ دُرْجَ مكتبِهِ، التقطتْ عيناه مغلَّفاً كبيراً, وفوقه نظارةٌ سوداء، توجّسَ قلبُه، دقَّاتُه ازدادتْ في صدره، أفكارٌ شتّى هاجمتْه دفعةً واحدة. أخْرَجَ الضابطُ الملفَّ، وقال بأدبٍ واضح:
ـ هذا ملفُّك القديمُ، ولابدَّ من إنهائِه. نظر في جواز السفر الذي أمامه, وتابَع: من حقِّك أن تُخْـبِرَ السفارةَ الأمريكيّةَ؛ لكنّ الأمرَ يتعلَّق بالماضي، حين كنتَ مواطناً من أبناء البلد.
جرحَتْه العبارة ُالأخيرة، وشعورٌ بالإهانة سيطرَ عليه، أزاحَ من نفْسه كلَّ المشاعر الأخرى، تفرَّسَ بالضابطِ الأنيق، ونـهض، وقف ملاصقاً للمكتب، مواجهاً له مباشرةً، مدَّ يدَه، أزاح جوازَ السفرِ الأجنبيَّ إلى الطرفِ البعيدِ من الطاولة أخرَجَ من جيبه جوازَ سفره القديم، وَضَعَه فوق الملفِّ الكبير، وبكلماتٍ هادئةٍ واضحةٍ قال له:
ـ نحن الآن مواطنان في البلد نفسِه، مواطنان متساويان، بإمكاننا –معاً- أن ننهيَ كلَّ الملفّات.