….في المقهى اختارا طاولةً منفردةً تزيّنها وردة ُقرنفل, وتنيرها شـمعة ٌ وحيدة.
نزعتِ القبّعةَ عن رأسها, فانْسدل الشعرُ الناعم ُعلى كتفيها, وغطّتْ خصلةٌ صغيرة ٌمنه جبيـنَها الناصع...فكّت أزرارَ معطفِها، وجلست صامتةً.
أحضرَ فنجانـي قهوة...وأشـعل سيجارةً, وارتشف رشفة ً كبيرة ً باضطرابٍ واضح .
لم تلمسْ فنجانَها...ظلَّت صامتة.
قهوتُها بردت؛ لكنَّها مشغولة ٌعنها, عيناها تتمعّنان بذلك الرجل الذي يجلسُ أمامها كالتمثال: يشربُ ويدخِّنُ، ولاشيءَ غيرَ ذلك.
تمعّنتْ فيه بعمقٍ, طافَ بصرُها في كل ِّ تقاسيم وجهه...كأنَّـها تراه للمرّةِ الأولى.
ذلك الوجهُ الأسمرُ، والشَّعرُ الأجعدُ الفاحمُ, تلك العينانِ الصغيرتان, ببريقهما الغامض الذي شدَّها نحوه منذ ثلاثِ سنوات.
سـقطت قطرة ٌصغيرة ٌكانت تختبئ بين خصلات ِشعرها. لمَحها صدفةً حين لمعتْ في ضوء ِالشمعة الخافت...توهَّجَ جيدُها، انزلقت إلى حفرة النّحر، درَجَتْ على مرآة صدرِها، واختفت في قنـاة النهـدين... قناة ٌمن المرمرِ لبحرٍ من الألماس.
ذلك الصدرُ الذي احتواه في ليـالي الـبرد والغربة, عليه فجَّرَ بركانَ رجولتِـه المهزومة, وعليه بكى البردَ والغربة َوالألم، ذلك الصدرُ الذي تربّـى على يديـه، ولم يعرفْـه رجِـلٌ سواه.
لكنَّ حسَّـه في هذه اللحظة لم يتجـاوز الحس َّ بالجمال, فاليوم يراها صغيرةً...أصغرَ كثـيراً ممّـا عرفـها: بصَمْتِها, بشرودِها الطويـل, بنظراتِها المتواصلة نحوه, أحسَّها طفلةًً صغيرة.
وخيط ٌمن الحنـان والحـزن راح ينسحب في عمق ِ وجدانـه...إحساسٌ كأنَّـه الأبـوّة ُاستـفاق في أعماقـه.
نظر من النافذة: المـطرُ لا يزال يهطل بغـزارة، ومصابيح الشّارع ِ ترسم أقواسَ قـزح ٍ صغيرة.
قبـلَ قليـلٍ كـانـا معـاً يمشـيان تحت مطرِ باريسَ, في ذلك الشارع الضّـيّق الطويـل: رجلٌ أربعينـيٌّ، أسـمرُ، نحيفٌ, بقامته الطويلةِ, ومعطفه الذي لم يبدّلْه منـذ أن عرفـتْه، يحمل مظلَّـتَها الصـغيرة, وقد أمالها نحوها ليقيَها المطر.
وفتاة ٌ لم تتجاوز العشرينَ كثيراً, بجسمِها الرّشيقِ, وقبـّعتِها الأنيـقةِ، ومعطفِها الفرائـيِّ السّميك، كانت تتعلَّقُ بذراعِه بكلتا يديها, تتمسّك به كطفلةٍ تلعبُ مع أبيـها.
لكنّها ـ تلك اللحظة ـ لم تكنْ تلعبُ, لم تكن تشعرُ بمتعةِ اللعبِ معَ هذا الرّجل ِ الذي تجرَّأتْ أنْ تلعبَ معه أكثرَ المقالبِ طفوليّةً، هذا الرجلُ الذي عرفَه الناسُ (طلابُه في الجامعة، وجمهورُ قُـرّائِهِ، أو متابعيه على وسائلِ الإعلامِ) بجِـدِّه، وصلابـته, وبقضيّتِه التي تشغلُ كلَّ تفكيرِه.
وحدَها هي استطاعتْ أن تُذيبَ جلـيدَ السّنواتِ المتراكمَ من التشرُّدِ, والغربة، فأعجبتْه بقدْرِ ما أضْحَكتْه، بقدر ما أمتعته.
حين اسـتضافها في بيـته أوّلَ مرَّةٍ, لم يكنْ يتوقَّّـعُ أن تأتيَ وحدَها. فالمُفترَضُ أن تدعوَ معها مجموعة ً من الطـلابِ ... لكـنّها اعتذرت منه وصارحتْه: لم أخبـرْ بقيّـة َ الطلابِ بالمـوعدِ...ضحكت بثـقةٍ، ولمعتْ عينـاها ببـريقٍ طفوليٍّ...بصراحة، أردتُ أن أنفـرِدَ بزيارتِك في البيت لوحدي.
أذهلته المفاجأة؛ لكنه وقفَ أمامَها عاجزا، أربكته جرأتُها, وجعلتْه عاجزاً عن الرّدِّ، عاجـزاً عن الغضبِ بقدر عجـزِه عن التسامح.
وكانت الزياراتُ بعد ذلك كثيرةً, صارت تساعدُه , ترتّبُ له الأوراقَ, وتطبع له المقالات...نقلت سكنَها إلى شقّته الصغيرة, وعاشت معه.
أصبحت مفاهيم ُمثل: أرضُ فلسطينَ التاريخيـةِ, وحقُّ العودةِ, وديرُ ياسين, وقِبية، والاستيطانُ، مفاهيم َ تتردّدُ كثيراً عندَها، وتحوّلت كلمة: "الإرهابُ الفلسـطينيُّ", إلى المقاومةِ الفلسـطينيةِ، في قناعتِها، تغيّرتْ كثيراً, انحازتْ إليهِ, إلى كلِّ ما يمتُّ له بِصِلة.
تركتْ أهلها, وفقدتْ كثيراً من أصدقائِها، واختارت الحُبَّ, والانتماءَ إلى الحبيبِ.
كانت - حين يُلقي محاضرةً - تدعو معها مجموعاتٍ من نُشطاءِ السّلام وحقوق ِ الإنسان ِ في فرنسا، وحين يُنهي محاضرتَه, تثيرُ بينهم بعضَ الأسـئلةِ التي تعرفُ أجوبتَها كي تستفزَّهم فيسألوه، ليشرحَ لهم ويستفيضَ بـما لم يكتبْه على الورق .
وكان يدرك لمحاتِ الذكاءِ هذه, فيزدادُ إعجاباً بها, وتكبر في نفسِه, وتقتربُ أكثرَ فأكثرَ إلى روحِه : "حين يتَّفقُ الذكاءُ مع البسـاطةِ والجمال، فلا بدَّ أن يصبحَ الإنسانُ كاملاً".
ومضت الأيّامُ، والرجلُ يصبح أكثرَ نشاطاًًً, وشهرة، وقبولاًً، وتصبحُ هي أكثرَ فرحاً وحبّاً، وانتماءً إلى عالم هذا الحبيب.
حتى جـاءتِ الأحـداثُ الأخـيرة، وفـاجأها بالقرار الذي فكَّر فيه طويلاً: السفر, والعودة إلى فلسطين...فلسطين المحتلة.
ذبُلت وردةُ الشبابِ في داخلها, وانطفأت شـعلة ُالمرح في حركاتها، ولجأتْ إلى (أسلحتها) كي تجبرَه على الرجوع ِعن قراره...لكنَّ هذا كله لم يأتِ بنتيجة .
كان بكاؤها يَحفِرُ عميقاً في قلبه، وضحكتها الصبيانيّة ـ حين تضحكُ ـ تثيرُ فيه الحزنَ والشفقة....لكنَّ القرارَ لم يتغيّر.
خاصَمَتْه, وتركتْ بيته, وكان هذا هو السلاحُ الأخيرُ الذي تُشْهِرُهُ في وجهِ عواطفِه...ولم يتزحزحْ عن قراره.
واليومَ عادت, وقد هيّأتْ نفسَـها للجولةِ الأخيرة، طلبت منه موعداً فالتقيا.
ـ جئتُ إليك لنتناقش، قالت، وهي تنزع ُ يدَها الصغيرةَ من يدِه التي تحتويها .
لمْ يُجِبْ، واكتفى بأنْ نظرَ في الأرض, وهو يُرخي أصـابعَه لتسحبَ يدَها .
تابعتْ بالسؤال:
ـ ما حاجتك للسفرِ الآنَ ؟... يعني, كل ما حققتَه سيضيعُ...بإمكانك الاستمرارُ في باريس تتابع نشاطك الفكريَّ, لتساعد على تحقيق السلام.
وظلَّ صـامتاً، ينظر إليها ولا يجيبُ, يمشـي بجانبها، يدُه في جيبِ معطفِه، وشفتاه تمتصَّان دخانَ السيجارة، وعيناه شاردتان، وحين ازدادَ انهمارُ المطرِ، دخلا المقهى الصغير .
كان ما يزال يراقبُ منظرَ المطرِ من النافذة, حين جاءَهُ صوتُها خفيضاً منكسراً.
انـهارَ جدارُ الصّمتِ, وتكسّرَ زجاجُ الأفكارِ المشتتة , انتبه إليها غيرَ واثق ٍ أنَّه سمعَ صوتَها؛ لكنّها كرَّرتْ، بكلماتٍ يقطعها ارتعاشُ شفتيها:
ـ أريدُ أن تناقشَني في الموضوع.
لم ينطقْ بكلمة، اكتفى بالنظرِ إلى عينيها تارةً، وإلى فنجانِ القهوةِ تارةً أخرى.
شَـعَرَتْ بالإهانة, والظلم, والغضب، أحسَّتْ – ببروده وهدوئه – كأنَّها لم تعرفْه قبل هذا اليوم .
وما كانت تدري أية حرائقَ تشـتعل في داخله, وأية مشاعرَ تتلاطم في قلبه، بين قنـاعته بضرورة العودةِ, وبين حزنه لوداعِها، وخوفِه على شـبابها الذي وزَّعَتْه في أرجاء بيته، وزَرَعَتْه في تربة وجدانهِ الخصبة.
أكمَلتْ بنبرةِ مَذلةٍ، وعيناها ترتميان على بلاط المقهى:
ـ كنتَ دائـماً تقول لي أنك لن تتمكنَ من العودة إلى وطنك, وأنك محكومٌ بالغربةِ, وأن العيشَ في فرنسا وحيداً وبعيداً هو قدرك!.
طالَ صمتُه، وطال انتظارُها للجوابِ، وحين لم تجدْ منه ردّاً انفجرت ببكاءٍ عنيف، وَصَفتْه بالقاسي, والانتهازيِّ, والأنانيِّ, واللئيم...كانت لا تدرك كيف تخرُج الكلمات من فمها, أو ماذا تقول.
تناول منديلاً من جيبه، مسح دموعَها, وتنهّدَ، وأخذ يهدئُها:
ـ كلُّ ما قلتِهِ صحيح، وكل ما قلتُه ُ لك آنذاك صحيحٌ أيضاً.
أنا لم أخْترِ العيشَ في فرنسـا لأني أحبُّ ذلك, بل أُجِبرْتُ على العيش خارج وطني حين هجَّرني الأعداء من مدينتي بعد حرب 67، ثمَّ أبعدني الأشقاء عن المخيم بعد اجتياح 82...
قدري، قدرنا – نحن الفلسطينيين – أن يهجِّرَنا من أرضنا الذين هاجروا من شتّى أصقاع الأرض.
القضية الآن تبدأ من جديد, وإذا كنتُ هاجرتُ من أرضي في الحروب السابقة, فحرب غزّة يجب أن تكون حرب العودة . يجب العودة إلى الأرض المحتلة, والوقوف مع من تبقَّى هناك لمنْعِ ضياعها، وضياع الحقوق الوطنية....وهذه خطوةٌ أولى من الطريق.
التقطتْ كلماتِه الأخيرة َ كحبلِ نجاة، وقاطَعَتْهُ:
ـ يمكنك النضالُ من هنا. أنتَ مفكِّرٌ، ونضالك في كتاباتك, مع جمهورك الذي يتّسِعُ أكثرَ فأكثرَ, وسيكونُ الأمرُ أسهلَ عليكَ, سيصبح جمهورُك أكثر حرِّيَّة في حضورِك, والتعاطف ِ معك, وفهم ِقضيّتِك….هل نسـيتَ كلماتِك: "كـثرة الأسـئلة تعني الاهتمامَ بالموضوع, والاهتمامُ بالموضوع، يعني تفهُّم ما أقول...التفهُّمُ...هذا كلُّ ما أحتاجه"
ألم يعدْ يهمُّك التفهمُ، والجمهورُ؟.
تحدّثتْ طويلاً, وأوردتْ حججاً كثيرةً...كانت كلماتُها تتدرَّجُ من الحِدّة والاندفاع ِإلى اليأس ِوالإحباط، كلماتُ عتابٍ ممزوجة ٌ بالحزن والغضب.
" كلُّ ما تقوله صحيحٌ, منطقيٌّ، ولكنْ ينقصـها الإحسـاسُ، ذلك النبضُ الخاصُّ الذي لا يشعر به إلا صاحبُ القضيَّةِ الذي يعاني في كلِّ يومٍ من أيَّامه, ويعيش معنى الواجب...والشـعورُ بالواجب يتناقضُ مع المنطق أحياناً, وهذا ما يعطيه خصوصيَّته التي يصوغ بـها وهجه وزخمه...سنواتٌ طويلة, وكلُّ ما حققتُه هو شيء من (التفهُّم), ولو عشتُ كلَّ حياتي هنا لن أحقِّق غيرَ هذا التفهُّم...ستهتزُّ مشاعر الإنسان الغربيِّ قليلاً ليتعاطفَ معنا، وفي أحسـن الحالات يصـوغ بياناً من إحدى جمعيّات حقوق الإنسان، والإنسانُ في وطني يُقتل وأرضُه تضيع".
كان يحدِّث نفسَه وهو شاردُ الذهن, يسمعها ولا يسمعها.
وفجأةً قال بنبرةٍ واضحةٍ محدَّدة ومتَّزنة:
يا عزيزتي: يجب أن أعودَ . بعد الذي حدث، ويحدث, لا عذرَ لأحد. يجب أن تُملأ الأرضُ بالناس, بكلِّ الناس, وهناك سيكون لي مكانٌ أتكلم فيه، وأكتب فيه، وأناضل فيه، وسيكون لكلامي صدقٌ أكبر ونفعٌ أكثر….يا حبيبتي – تابع بنفس النبرة المتزنة – الواجب ليس مجرّدَ شعارٍ نكتبه, أو كلمةٍ نقولها ونمضي، الواجب فعلٌ يوميٌّ, ممارسةٌ، والتحامٌ بالعمل الوطنيِّ الشعبيّ.
لا أنكر أهميَّة َالتفهمِ لأوروبيِّ، ولكنْ لن يحققَ أحدٌ لنا شيئاً إذا لم نسعَ لتحقيقه بأنفسنا.
ـ أنت أنانيٌّ -قالت له، والتوتُّرُ لم يفارقْها- أنت أنانيّ. مادمت تفكِّر بالعودة, فلماذا جعلتني أبني حياتي معك؟، لماذا جعلتني أهجرُ أهلي, ومعظمَ أصدقائي, وأغيِّرُ حياتي كلها؟.... اذهبْ, ولن أودّعك.
قالت كلماتِها الأخيرةَ، ونقابٌ من الدمع يغلِّف عينيها, ويجري بحرارةٍ على وجنتيها المحمرَّتين، وهي تتنفَّس أنفاساً متلاحقة.
في داخـله كان يبكي لبكائها, وهو يعرف أنَّ ما تقوله هو يدٌ يائسة أخيرة تمدّها نحوه لتتمسّكَ به. لم يدافعْ عن نفسه، خجل أن يستخدمَ حبَّه للوطن ورقة َدفاعٍ أمامها، واكتفى بسيجارةٍ جديدةٍ دسّها بين شفتيه وأخذ منها أنفاساً عميقةً.
حملتْ حقيبتها، ومضتْ مسرعةً, وعند الباب...وقفتْ قليلاً، التفتتْ إلى الوراء...كان كلّ ما رأته : غيمةٌ كثيفةٌ من الدخان, وضوء سيجارةٍ يخبو ويتوهّج.
نزعتِ القبّعةَ عن رأسها, فانْسدل الشعرُ الناعم ُعلى كتفيها, وغطّتْ خصلةٌ صغيرة ٌمنه جبيـنَها الناصع...فكّت أزرارَ معطفِها، وجلست صامتةً.
أحضرَ فنجانـي قهوة...وأشـعل سيجارةً, وارتشف رشفة ً كبيرة ً باضطرابٍ واضح .
لم تلمسْ فنجانَها...ظلَّت صامتة.
قهوتُها بردت؛ لكنَّها مشغولة ٌعنها, عيناها تتمعّنان بذلك الرجل الذي يجلسُ أمامها كالتمثال: يشربُ ويدخِّنُ، ولاشيءَ غيرَ ذلك.
تمعّنتْ فيه بعمقٍ, طافَ بصرُها في كل ِّ تقاسيم وجهه...كأنَّـها تراه للمرّةِ الأولى.
ذلك الوجهُ الأسمرُ، والشَّعرُ الأجعدُ الفاحمُ, تلك العينانِ الصغيرتان, ببريقهما الغامض الذي شدَّها نحوه منذ ثلاثِ سنوات.
سـقطت قطرة ٌصغيرة ٌكانت تختبئ بين خصلات ِشعرها. لمَحها صدفةً حين لمعتْ في ضوء ِالشمعة الخافت...توهَّجَ جيدُها، انزلقت إلى حفرة النّحر، درَجَتْ على مرآة صدرِها، واختفت في قنـاة النهـدين... قناة ٌمن المرمرِ لبحرٍ من الألماس.
ذلك الصدرُ الذي احتواه في ليـالي الـبرد والغربة, عليه فجَّرَ بركانَ رجولتِـه المهزومة, وعليه بكى البردَ والغربة َوالألم، ذلك الصدرُ الذي تربّـى على يديـه، ولم يعرفْـه رجِـلٌ سواه.
لكنَّ حسَّـه في هذه اللحظة لم يتجـاوز الحس َّ بالجمال, فاليوم يراها صغيرةً...أصغرَ كثـيراً ممّـا عرفـها: بصَمْتِها, بشرودِها الطويـل, بنظراتِها المتواصلة نحوه, أحسَّها طفلةًً صغيرة.
وخيط ٌمن الحنـان والحـزن راح ينسحب في عمق ِ وجدانـه...إحساسٌ كأنَّـه الأبـوّة ُاستـفاق في أعماقـه.
نظر من النافذة: المـطرُ لا يزال يهطل بغـزارة، ومصابيح الشّارع ِ ترسم أقواسَ قـزح ٍ صغيرة.
قبـلَ قليـلٍ كـانـا معـاً يمشـيان تحت مطرِ باريسَ, في ذلك الشارع الضّـيّق الطويـل: رجلٌ أربعينـيٌّ، أسـمرُ، نحيفٌ, بقامته الطويلةِ, ومعطفه الذي لم يبدّلْه منـذ أن عرفـتْه، يحمل مظلَّـتَها الصـغيرة, وقد أمالها نحوها ليقيَها المطر.
وفتاة ٌ لم تتجاوز العشرينَ كثيراً, بجسمِها الرّشيقِ, وقبـّعتِها الأنيـقةِ، ومعطفِها الفرائـيِّ السّميك، كانت تتعلَّقُ بذراعِه بكلتا يديها, تتمسّك به كطفلةٍ تلعبُ مع أبيـها.
لكنّها ـ تلك اللحظة ـ لم تكنْ تلعبُ, لم تكن تشعرُ بمتعةِ اللعبِ معَ هذا الرّجل ِ الذي تجرَّأتْ أنْ تلعبَ معه أكثرَ المقالبِ طفوليّةً، هذا الرجلُ الذي عرفَه الناسُ (طلابُه في الجامعة، وجمهورُ قُـرّائِهِ، أو متابعيه على وسائلِ الإعلامِ) بجِـدِّه، وصلابـته, وبقضيّتِه التي تشغلُ كلَّ تفكيرِه.
وحدَها هي استطاعتْ أن تُذيبَ جلـيدَ السّنواتِ المتراكمَ من التشرُّدِ, والغربة، فأعجبتْه بقدْرِ ما أضْحَكتْه، بقدر ما أمتعته.
حين اسـتضافها في بيـته أوّلَ مرَّةٍ, لم يكنْ يتوقَّّـعُ أن تأتيَ وحدَها. فالمُفترَضُ أن تدعوَ معها مجموعة ً من الطـلابِ ... لكـنّها اعتذرت منه وصارحتْه: لم أخبـرْ بقيّـة َ الطلابِ بالمـوعدِ...ضحكت بثـقةٍ، ولمعتْ عينـاها ببـريقٍ طفوليٍّ...بصراحة، أردتُ أن أنفـرِدَ بزيارتِك في البيت لوحدي.
أذهلته المفاجأة؛ لكنه وقفَ أمامَها عاجزا، أربكته جرأتُها, وجعلتْه عاجزاً عن الرّدِّ، عاجـزاً عن الغضبِ بقدر عجـزِه عن التسامح.
وكانت الزياراتُ بعد ذلك كثيرةً, صارت تساعدُه , ترتّبُ له الأوراقَ, وتطبع له المقالات...نقلت سكنَها إلى شقّته الصغيرة, وعاشت معه.
أصبحت مفاهيم ُمثل: أرضُ فلسطينَ التاريخيـةِ, وحقُّ العودةِ, وديرُ ياسين, وقِبية، والاستيطانُ، مفاهيم َ تتردّدُ كثيراً عندَها، وتحوّلت كلمة: "الإرهابُ الفلسـطينيُّ", إلى المقاومةِ الفلسـطينيةِ، في قناعتِها، تغيّرتْ كثيراً, انحازتْ إليهِ, إلى كلِّ ما يمتُّ له بِصِلة.
تركتْ أهلها, وفقدتْ كثيراً من أصدقائِها، واختارت الحُبَّ, والانتماءَ إلى الحبيبِ.
كانت - حين يُلقي محاضرةً - تدعو معها مجموعاتٍ من نُشطاءِ السّلام وحقوق ِ الإنسان ِ في فرنسا، وحين يُنهي محاضرتَه, تثيرُ بينهم بعضَ الأسـئلةِ التي تعرفُ أجوبتَها كي تستفزَّهم فيسألوه، ليشرحَ لهم ويستفيضَ بـما لم يكتبْه على الورق .
وكان يدرك لمحاتِ الذكاءِ هذه, فيزدادُ إعجاباً بها, وتكبر في نفسِه, وتقتربُ أكثرَ فأكثرَ إلى روحِه : "حين يتَّفقُ الذكاءُ مع البسـاطةِ والجمال، فلا بدَّ أن يصبحَ الإنسانُ كاملاً".
ومضت الأيّامُ، والرجلُ يصبح أكثرَ نشاطاًًً, وشهرة، وقبولاًً، وتصبحُ هي أكثرَ فرحاً وحبّاً، وانتماءً إلى عالم هذا الحبيب.
حتى جـاءتِ الأحـداثُ الأخـيرة، وفـاجأها بالقرار الذي فكَّر فيه طويلاً: السفر, والعودة إلى فلسطين...فلسطين المحتلة.
ذبُلت وردةُ الشبابِ في داخلها, وانطفأت شـعلة ُالمرح في حركاتها، ولجأتْ إلى (أسلحتها) كي تجبرَه على الرجوع ِعن قراره...لكنَّ هذا كله لم يأتِ بنتيجة .
كان بكاؤها يَحفِرُ عميقاً في قلبه، وضحكتها الصبيانيّة ـ حين تضحكُ ـ تثيرُ فيه الحزنَ والشفقة....لكنَّ القرارَ لم يتغيّر.
خاصَمَتْه, وتركتْ بيته, وكان هذا هو السلاحُ الأخيرُ الذي تُشْهِرُهُ في وجهِ عواطفِه...ولم يتزحزحْ عن قراره.
واليومَ عادت, وقد هيّأتْ نفسَـها للجولةِ الأخيرة، طلبت منه موعداً فالتقيا.
ـ جئتُ إليك لنتناقش، قالت، وهي تنزع ُ يدَها الصغيرةَ من يدِه التي تحتويها .
لمْ يُجِبْ، واكتفى بأنْ نظرَ في الأرض, وهو يُرخي أصـابعَه لتسحبَ يدَها .
تابعتْ بالسؤال:
ـ ما حاجتك للسفرِ الآنَ ؟... يعني, كل ما حققتَه سيضيعُ...بإمكانك الاستمرارُ في باريس تتابع نشاطك الفكريَّ, لتساعد على تحقيق السلام.
وظلَّ صـامتاً، ينظر إليها ولا يجيبُ, يمشـي بجانبها، يدُه في جيبِ معطفِه، وشفتاه تمتصَّان دخانَ السيجارة، وعيناه شاردتان، وحين ازدادَ انهمارُ المطرِ، دخلا المقهى الصغير .
كان ما يزال يراقبُ منظرَ المطرِ من النافذة, حين جاءَهُ صوتُها خفيضاً منكسراً.
انـهارَ جدارُ الصّمتِ, وتكسّرَ زجاجُ الأفكارِ المشتتة , انتبه إليها غيرَ واثق ٍ أنَّه سمعَ صوتَها؛ لكنّها كرَّرتْ، بكلماتٍ يقطعها ارتعاشُ شفتيها:
ـ أريدُ أن تناقشَني في الموضوع.
لم ينطقْ بكلمة، اكتفى بالنظرِ إلى عينيها تارةً، وإلى فنجانِ القهوةِ تارةً أخرى.
شَـعَرَتْ بالإهانة, والظلم, والغضب، أحسَّتْ – ببروده وهدوئه – كأنَّها لم تعرفْه قبل هذا اليوم .
وما كانت تدري أية حرائقَ تشـتعل في داخله, وأية مشاعرَ تتلاطم في قلبه، بين قنـاعته بضرورة العودةِ, وبين حزنه لوداعِها، وخوفِه على شـبابها الذي وزَّعَتْه في أرجاء بيته، وزَرَعَتْه في تربة وجدانهِ الخصبة.
أكمَلتْ بنبرةِ مَذلةٍ، وعيناها ترتميان على بلاط المقهى:
ـ كنتَ دائـماً تقول لي أنك لن تتمكنَ من العودة إلى وطنك, وأنك محكومٌ بالغربةِ, وأن العيشَ في فرنسا وحيداً وبعيداً هو قدرك!.
طالَ صمتُه، وطال انتظارُها للجوابِ، وحين لم تجدْ منه ردّاً انفجرت ببكاءٍ عنيف، وَصَفتْه بالقاسي, والانتهازيِّ, والأنانيِّ, واللئيم...كانت لا تدرك كيف تخرُج الكلمات من فمها, أو ماذا تقول.
تناول منديلاً من جيبه، مسح دموعَها, وتنهّدَ، وأخذ يهدئُها:
ـ كلُّ ما قلتِهِ صحيح، وكل ما قلتُه ُ لك آنذاك صحيحٌ أيضاً.
أنا لم أخْترِ العيشَ في فرنسـا لأني أحبُّ ذلك, بل أُجِبرْتُ على العيش خارج وطني حين هجَّرني الأعداء من مدينتي بعد حرب 67، ثمَّ أبعدني الأشقاء عن المخيم بعد اجتياح 82...
قدري، قدرنا – نحن الفلسطينيين – أن يهجِّرَنا من أرضنا الذين هاجروا من شتّى أصقاع الأرض.
القضية الآن تبدأ من جديد, وإذا كنتُ هاجرتُ من أرضي في الحروب السابقة, فحرب غزّة يجب أن تكون حرب العودة . يجب العودة إلى الأرض المحتلة, والوقوف مع من تبقَّى هناك لمنْعِ ضياعها، وضياع الحقوق الوطنية....وهذه خطوةٌ أولى من الطريق.
التقطتْ كلماتِه الأخيرة َ كحبلِ نجاة، وقاطَعَتْهُ:
ـ يمكنك النضالُ من هنا. أنتَ مفكِّرٌ، ونضالك في كتاباتك, مع جمهورك الذي يتّسِعُ أكثرَ فأكثرَ, وسيكونُ الأمرُ أسهلَ عليكَ, سيصبح جمهورُك أكثر حرِّيَّة في حضورِك, والتعاطف ِ معك, وفهم ِقضيّتِك….هل نسـيتَ كلماتِك: "كـثرة الأسـئلة تعني الاهتمامَ بالموضوع, والاهتمامُ بالموضوع، يعني تفهُّم ما أقول...التفهُّمُ...هذا كلُّ ما أحتاجه"
ألم يعدْ يهمُّك التفهمُ، والجمهورُ؟.
تحدّثتْ طويلاً, وأوردتْ حججاً كثيرةً...كانت كلماتُها تتدرَّجُ من الحِدّة والاندفاع ِإلى اليأس ِوالإحباط، كلماتُ عتابٍ ممزوجة ٌ بالحزن والغضب.
" كلُّ ما تقوله صحيحٌ, منطقيٌّ، ولكنْ ينقصـها الإحسـاسُ، ذلك النبضُ الخاصُّ الذي لا يشعر به إلا صاحبُ القضيَّةِ الذي يعاني في كلِّ يومٍ من أيَّامه, ويعيش معنى الواجب...والشـعورُ بالواجب يتناقضُ مع المنطق أحياناً, وهذا ما يعطيه خصوصيَّته التي يصوغ بـها وهجه وزخمه...سنواتٌ طويلة, وكلُّ ما حققتُه هو شيء من (التفهُّم), ولو عشتُ كلَّ حياتي هنا لن أحقِّق غيرَ هذا التفهُّم...ستهتزُّ مشاعر الإنسان الغربيِّ قليلاً ليتعاطفَ معنا، وفي أحسـن الحالات يصـوغ بياناً من إحدى جمعيّات حقوق الإنسان، والإنسانُ في وطني يُقتل وأرضُه تضيع".
كان يحدِّث نفسَه وهو شاردُ الذهن, يسمعها ولا يسمعها.
وفجأةً قال بنبرةٍ واضحةٍ محدَّدة ومتَّزنة:
يا عزيزتي: يجب أن أعودَ . بعد الذي حدث، ويحدث, لا عذرَ لأحد. يجب أن تُملأ الأرضُ بالناس, بكلِّ الناس, وهناك سيكون لي مكانٌ أتكلم فيه، وأكتب فيه، وأناضل فيه، وسيكون لكلامي صدقٌ أكبر ونفعٌ أكثر….يا حبيبتي – تابع بنفس النبرة المتزنة – الواجب ليس مجرّدَ شعارٍ نكتبه, أو كلمةٍ نقولها ونمضي، الواجب فعلٌ يوميٌّ, ممارسةٌ، والتحامٌ بالعمل الوطنيِّ الشعبيّ.
لا أنكر أهميَّة َالتفهمِ لأوروبيِّ، ولكنْ لن يحققَ أحدٌ لنا شيئاً إذا لم نسعَ لتحقيقه بأنفسنا.
ـ أنت أنانيٌّ -قالت له، والتوتُّرُ لم يفارقْها- أنت أنانيّ. مادمت تفكِّر بالعودة, فلماذا جعلتني أبني حياتي معك؟، لماذا جعلتني أهجرُ أهلي, ومعظمَ أصدقائي, وأغيِّرُ حياتي كلها؟.... اذهبْ, ولن أودّعك.
قالت كلماتِها الأخيرةَ، ونقابٌ من الدمع يغلِّف عينيها, ويجري بحرارةٍ على وجنتيها المحمرَّتين، وهي تتنفَّس أنفاساً متلاحقة.
في داخـله كان يبكي لبكائها, وهو يعرف أنَّ ما تقوله هو يدٌ يائسة أخيرة تمدّها نحوه لتتمسّكَ به. لم يدافعْ عن نفسه، خجل أن يستخدمَ حبَّه للوطن ورقة َدفاعٍ أمامها، واكتفى بسيجارةٍ جديدةٍ دسّها بين شفتيه وأخذ منها أنفاساً عميقةً.
حملتْ حقيبتها، ومضتْ مسرعةً, وعند الباب...وقفتْ قليلاً، التفتتْ إلى الوراء...كان كلّ ما رأته : غيمةٌ كثيفةٌ من الدخان, وضوء سيجارةٍ يخبو ويتوهّج.