محمد الشرادي - أسلحة غير مناسبة

مشاهدة المرفق 943
- إلى سعاد بني أخي -
على باب الإدارة العامة استقبل الموظفون مديرهم الجديد.رغم تقدمه في السن بدا وسيما واثقا من نفسه.عند مدخل مكتبه، وقفت كاتبته كأميرة فاتنة غب تعميدها في نهر من حليب. شده صدرها المرمري المتألق تحت ضوء المصباح. تسمر في مكانه فاغرا فاه، يرزح تحت تأثير الوهج الغامر لجسدها الباهر. اخترقه وميضها.أحس فؤاده يختلج كقلب ناسك هندوسي في معبد الآلهة.عندما همّت بفتح باب المكتب،مدت ذراعا رشيقة تشع ببياض فضي كنصل سيف ياباني أصيل.بينما أناملها الأبنوسية الرائعة أيقظت فيه شهوة الأمير موساشي(1). أحس بالذنب عندما اعتبر رغبة الأمير يوم قرأ الرواية مجرد نزوة مريضة:
(ما أسعده لو يلقى مصرعه. و توضع رأسه بين أنامل كاتبته الباهرة الجمال لتمشطها.)
وضع فوق مكتبه صورته بالبزة العسكرية الموشاة بنياشين الجدارة.و في الرفوف خلفه رتب روايات قرأ بعضها،و البعض الآخر سيقرؤه في وقت فراغه. جلس على الكرسي:
- ما أروع أن تكون مديرا،و على مرمى حجر من شهوتك تتألق خريدة فاتنة كأنها مملكة من أزهار النسرين البيضاء! بمناورة بسيطة،و أسلحة تكتيكية خفيفة يمكن الإيقاع بها في شباك رغبتي. و إلا فما الفائدة من أوسمة الكفاءة العسكرية التي تألقت على صدري لسنين طويلة؟.
ألم يقرأ في رواية فوضى الحواس(2) هذه الكلمات التي تلذذ بمذاقها: (أو ليست النساء كالشعوب، يقعن دائما تحت سيطرة البذلة العسكرية و سطوتها...)
قبل أن يدعوها في الصباح الموالي إلى مكتبه، درب لسانه على اسمها عدة مرات: جــ يـ هان. تلذذ بكل حرف على حدة.عندما دخلت عليه ترفل في بهائها، تأمل أخدود صدرها المترع بالجلال كأنه نهر من الظلال المقدسة نحتته الآلهة عند منابت نهديها المتحفزين، اللذين يظهران من تحت قميصها الشفيف بكامل استدارتهما المثالية. منظرهما الباهر هز شجرة ذاكرته، فتساقط منها مقطع رائع على لسان إيغوشي(3):
( كيف تسنى لثدي الأنثى البشرية...من بين جميع الحيوانات أن يتخذ بعد تطور طويل هذا الشكل الرائع،أليس الجمال الذي بلغه نهد المرأة المثال الأبهى لتطور الإنسانية).
قدم لها هدية نفيسة. أفرجت عن بسمة عذبة، بدت معها اللثة الوردية لأسنانها مزهرية خفيفة الحمرة نسقت فيها أزهار ياسمين ناصعة البياض.لكنها بسمة محايدة. لم تش بأي تنازل أو انصياع،و لم تعرب عن أي حظوة نالها المدير من هذه المناورة.كانت عيناها المليحتان،و هما تحلقان في سماء وجهها الصافي كجناحي طائر أسطوري، تشتعلان ذكاء،و توجسا،وكانت شفتاها القرمزيتان،و هما تقدمان مفردات الشكر تتحركان بدلال كزهرة جوري تنوس بها نسائم خفيفة.أخذت الهدية بلباقة مغلفة بحرص شديد،و قفزت بعيدا كأنها وعل جبلي استشعر الخطر. باءت مناورته الأولى بالفشل الذر يع.جلس يلعق جراح الهزيمة.بات مقتنعا أنه إزاء قلعة منيعة صعبة الاقتحام.كيف السبيل لولوج قلبها الحصين؟ بالطبع لن تجديه حيلة الإغريق لاقتحام طروادة، حتى ولو حول الحصان الخشبي إلى حصان حديدي قادر على إسالة لعابها .لأن كلام – جنيت (4) مازال يرن في أذنيه:
(فالحق أنه ما كان بالإمكان الاستيلاء على طروادة بحصان خشبي)
ضرب بكفه على مكتبه بكل قوة، و التمع في عينية بريق نصر بدا له مؤكدا. صار يخاطب نفسه بثقة عالية:
- الحصار،و قطع خيوط الإمداد لتجريدها من كل أسباب الصمود. قبل فصل الشتاء ستنهار عند قدمي كقصر من الرمال على شاطئ مهجور.
افتعل مشاكل إدارية جمة. نقلها إلى قبو الإدارة في مصلحة الأرشيف. حرمها من كل الامتيازات التي كانت تحظى بها...ألغى ترقيتها لأسباب كاذبة... أخر راتبها الشهري عنوة لعلها تأتيه ضارعة لم تسقط القلعة.بل ازدادت مناعة و ارتفاعا.
أخذ وميض البرق يأتي من مكان ما من السماء. يتبعه هدير رعد صاعق يمزق أحشاء الصمت.أطل من النافذة.كانت السماء تطبق على المدينة كسرادق من العهن الأسود.و قد تسللت من أطرافها غيمات قاتمة راحت تلتهم هامات العمارات الشاهقة. رشق المطر سطوح البنايات بكل ما أوتي من قوة.أطفأ المدير المصابيح إلا واحدا في الوسط...أرخى الستائر على النوافذ... صار المكتب يرزح تحت ظلمة خفيفة...أرسل في طلبها.دخلت المكتب المعتم متوهجة كغرة بيضاء على جبين فرس دهماء.بات المكان يعبق بأريج أنفاسها الزكية.أحس بدفيف قلبه يتصاعد تدريجيا. لم تبارح البسمة ثغرها الريان، كأن نحاتا عريقا نحتها على شفتيها لتبقى هناك إلى الأبد. أمعن النظر فيها بحسرة عميقة.لأول مرة لاحظ التكيف الباهر لجسدها مع الفصول كلها. لم تسعفه لسانه. تكلف الكلام و قد هدجت الدموع صوته:
- كل ما كنت أتمناه بعد هذا العمر المديد هو الموت في محراب حبك. لكن عقليتي العسكرية جنحت بي بعيدا.اعتبرتك معسكر عدو علي اقتحامه...استعملت أسلحة لا تليق و مقام الحب...
ظلت أمامه صامتة، ذلك الصمت الذي يخرجه عن طوره. تأمل وجهها مليا. كانت أرنبة أنفها المترعة بالكبرياء تضفي على وجهها جلالا يملأ قلب الناظر إليها رهبة.قبل يدها،ثم عاد ليجلس خلف مكتبه. أخذ رواية – طبول المطر-(5)...شرع يقرأ:
(ظل الباشا واقفا في الظلمة الخفيفة،ثم طلب كأس ماء...فتح الباشا صندوقا أخرج منه ظرفا أفرغ محتواه في الكأس...اجترعه دفعة واحدة...ظل واقفا على قدميه بعض الوقت، فيما تابعت طبول المطر دويها... و لدى الدوخة الأولى استند على الأرائك و أغلق عينيه.)


هوامش
[1 – الأمير موساشي بطل رواية التاريخ السري للأمير موساشي لجونيتشيرو تانيز.
– فوضى الحواس لأحلام مستغانمي.
– بطل رواية الجميلات النائمات لياسوناري كواباتا.
– بطل رواية الوحش لإسماعيل كداريه.
– مقطع من رواية طبول المطر لإسماعيل كداريه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى