جلست القرفصاء, وقد وضعت أمامها كوما من الكارطون والأعواد اليابسة .. سرعان ما صبت عليها قليلا من كحول الحريق ثم أشعلت النار..وتعالت ألسنة اللهب أمامها, مدت يديها المعروقتين تتدفأ من صقيع البرد الذي كان يخيم على المدينة المستسلمة لجيوش الظلام، القادمة في أثر الليل .
كانت الأيام الأولى لفصل الشتاء قد أطلت وهي تنبئ بشتاء قاس.. وهو فصل الويلات والمعاناة بالنسبة للمشردين مثلها.
اِقترب متشرد يطلب دفء النار ودفء جسدها.. نهرته بغضب ولوحت في وجهه بشفرة حلاقة كانت تضعها بين الخنصر والسبابة. اِبتعد المتشرد وهو يسب ويشتم . ردت عليه بصوت غاضب :
-اِبتعد يا اَبن الزانية وإلا مزقت وجهك .. لم نرض بالرجال فكيف نرضى بالحشرات مثلك...؟؟
تملكتها فجأة نوبة غضب .. تشنجت أعصابها ,تقلصت عضلات وجهها .. حدقت في خيالها يرتسم على الحائط المواجه لمكان جلوسها .. واَنطلقت تحدث نفسها بصوت عال يحطم سكون الليل و ويوقظ كل من استسلمت جفونه للكرى ..
حطمني اَبن اللئيمة .. باعني بثمن زهيد , أنا التي تلقفته من الشارع وفتحت له قلبي وبيتي .. أطعمته من جوع وآ ويته من خوف .. أنا سادجة حمقاء .. كل الرجال ملاعين كلهم لؤماء مبغوضون...
اِستعادت سكونها واستعادت معه ذكرياتها الأليمة
لا يمكن أن تنسى أنها كانت فتاة جميلة , نالت نصيبها من العلم والثقافة .. وكانت محبوبة من أسرتها ومحيطها .. إلى أن ظهر فجأة في حياتها , سَحرها بكلامه العذب ولغته الدافئة .. أقنعها بأنه الفارس المغوار القادم من أعماق التاريخ ليحول حياتها الى شلال سعادة, وينبوع فرح .. لم تتردد فسلمته قياد نفسها .. ومنحته مفاتيح قلبها ..لكنه باعها بثمن زهيد وغذربها, وخانها مع أقرب الناس إليها ..فكانت مصيبتها كبيرة , لأن العشيقة لم تكن إلا أختها التي اِستأمنتها على بيتها , فخانت الأمانة وسلمت نفسها على طبق الغدر الى فارس أختها الجبان يفترس شرف عائلتها ويهدر كرامتها..
لم تفق من هول الصدمة إلاعلى بحر من الدماء سال على فراش الخيانة .. و مدية مشحوذة تقطع الأوردة و تمزق الشرايين.. مات زوجها وأختها على يديها , ودخلت هي مصحة الأمراض العقلية علها تشفى مما ألم بها .. لكنها ظلت على حالها ترفض أن تزيح إهاب الجنون وتتلفع بثوب النفاق..
تقطعت بها السبل في دنيا المجانين وعالم الحماق حتى واتتها الفرصة فهربت من المصحة .. وأصبحت متشردة تجوب أرض الله الواسعة ,, غير مبالية بزمن أو مهتمة بمكان منتظرة رحمة الله.........