أحمد عبد المعطي حجازي - عبد القادر القط.. الأستاذ والصديق

يوم رأيت عبد القادر القط أول مرة، كان فى الأربعين من عمره، وكنت فى الحادية والعشرين.
كان اسمه جديدا على، كما كان اسمى جديدا عليه فلم اكن إلا شاعرا مبتدئا وكان هو قد قضى سنوات ما بعد الحرب الثانية فى انجلترا، يعد دراسته التى حصل بها على درجة الدكتوراه فى " مفهوم الشعر عند العرب". ثم عاد ليستغرقه عمله فى الجامعة طوال الخمسينيات الأولى ، فلم يبدأ مشاركته الفعالة فى الحياة الأدبية إلا فى الوقت الذى تعرفت عليه فيه. فإذا كان بعلمه الغزير وخبرته الناضجة استاذا من اساتذة الجيل الذى انتمى إليه ، فهو بما ألف بيننا من أفكار متقاربة ونشاط مشترك، أخ وصديق.
تعرفت عليه فى مقهى عبد الله. وكان هذا المقهى يحتل الصدر من ميدان الجيزة ، فهو فى موقع وسط بين الجامعة وبين الأحياء المحيطة بها كالجيزة، والدقى ، والروضة ، والمنيل ، حيث يسكن عدد كبير من الطلاب والأساتذة فضلا عن عدد من الكتاب والشعراء. من هنا انتظمت فيه الندوة التى كانت تنعقد كل مساء ، وكان من نجومها أنور المعداوى، وعبد القادر القط ، وزكريا الحجاوى ، ومحمود السعدنى ، وعبد المحسن طه بدر، ورجاء النقاش. وبين الحين والحين يمر محمود حسن إسماعيل أو سواه، فيتخذ له مكانا فى الندوة التى واظبت على حضورها أو يجلس غير بعيد.
كان المعداوى ألمع نجومها رغم أنه كان فى ذلك الوقت كف عن الكتابة ولم يكن قد بلغ الأربعين فقد احتجبت "الرسالة" التى كان ينشر فيها "تعقيباته" الشهيرة ولم تطل بعد ذلك تجربته مع "الآداب" البيروتية. وربما اتخذت منه المؤسسات الثقافية التى نشأت بعد يوليو 1952 موقفا سلبيا وربما كان هو الذى بادر إلى هذا الموقف فعزف عن المشاركة فى الحياة الأدبية ولجأ إلى الصمت ، لكنه كان بكبريائه وجاذبيته وأناقته، وشهرته التى حققها فى سنواته الذهبية الخاطفة ألمع الموجودين.
أما عبد القادر القط ، فكان نشاطه الحافل المتنوع أمامه لا وراءه. ولهذا كان يواجه مرارة المعداوى وتبرمه بشئ من الصمت، وكثير من التعاطف الذى يعبر عنه بوجوده أكثر مما يعبر عنه بالكلام. وهو الوحيد من بين أعضاء الندوة الذى كانت تشغله أحيانا هوايات لم أكن أعتقد أنها تشغل رجال القلم إذ لم تكن تفوته مباراة من مباريات الكرة ، كما لم يكن يفوته التعليق عليها بحذق وتفقه. وهو الوحيد بين أعضاء الندوة الذى كان يلعب الشطرنج ويدخن الشيشة. وربما استغرق فى هذه الهوايات إيثارا للصمت فى ظروف كان رفيف الخطر فيها يحوم على الرؤوس.
كان فى ذلك الوقت مقبلا على إلقاء دروسه فى الجامعة، حفيا بالتيارات الطليعية التى نشطت منذ أواخر الأربعينيات فى الشعر والقصة والنقد والمسرح يقرأ ويناقش بهدوء واعتدال ، بعيدا عن التحزب واللجاجة وبقدر كبير من الحياء والدماثة وسعة الصدر وهى صفات طبيعية فيه زكتها الثقافة والتجربة العملية، فإذا كانت الثقافة الفرنسية تثير فى طلابها الحمية وتغريهم بالاندفاع وراء التحدى، فالثقافة الإنجليزية تميل بصاحبها إلى شئ من التحفظ وعدم القطع وتشحذ قدرته على السخرية واكتشاف المفارقات وهى أمارات يتميز بها عبد القادر القط سواء فى كتابته أو فى سلوكه.
مع أن لندن لم تكن بغيته حين استحق البعثة إلى أوروبا، وإنما كانت بغيته باريس.
كان رومانتيكيا حتى النخاع، كما ينتظر من شاب مصرى تفتحت مداركه ومواهبه فى الثلاثينيات التى نشأت فيها جماعة "أبوللو"، وازدهر شعر المهجر ونشرت عدة أعمال طليعية لطه حسين والمازنى، والعقاد ، وتوفيق الحكيم، وترجم العديد من مسرحيات شكسبير وجوته، ومن قصائد لامارتين وألفريد دوموسيه وهنريك هاينه، وشارل بودلير، وشيلى، ولورد بايرون، فمن الطبيعى ان يصطبغ شعره وهو الفن الذى بدأ به بالشعر الرومانتيكى كما كان يكتبه على محمود طه، وإبراهيم ناجى. وربما تبدت رومانتيكية عبد القادر القط حتى فى مظهره الوديع الأنيق المصقول بغير تكلف. وطبيعى أن يحلم هذا الشاعر الرومانتيكى الشاب بأن تكون بعثته إلى باريس وأن يكمل دراسته العالية فى السوربون، كما فعل أستاذ "طه حسين" وزميله الأسن منه محمد مندور.
غير أن السفر إلى باريس كان غير مأمون بسبب اشتعال الحرب فحولت بعثته إلى انجلترا التى طالت رحلته بالباخرة إليها حتى بلغها بعد ستة شهور. وقد انتفعت الحركة الأدبية بهذا الاضطرار إذ كان التقليد المتبع حتى ذلك الوقت أن يتجه طلاب العلوم الطبيعية إلى انجلترا، وطلاب الدراسات الإنسانية إلى باريس، إلا إذا كان منهم من سيتخصص فى الأدب الانجليزى ولم تكن لهؤلاء فى الغالب الأعم معرفة كافية بالأدب العربى ولهذا لم تكن الحياة الأدبية خارج الجامعة تستفيد منهم، فكان من الخير إذن ألا يجد عبد القادر القط أمامه إلا لندن ليدرس فى جامعاتها مفهوم الشعر عند العرب. وقد تبع القط زملاء له أحدث سنا درسوا الأدب العربى سكه فى انجلترا . ثم كان هذا الخروج على التقليد القديم فاتحة لتنويع أكبر فى مصادر المعرفة الأدبية فقد أصبحت الجامعة توزع طلاب الأدب العربى على جامعات فرنسا، وانجلترا، وأسبانيا، وألمانيا .
فإذا كان المبعوثون العائدون من فرنسا كمحمد مندور قد عرفونا على اجتهادات لانسون وماييه فى تاريخ الأدب وفى اللغة والنحو المقارن فقد عرفنا العائدون من انجلترا وفى مقدمتهم عبد القادر القط ومصطفى ناصف على النقاد الإنجليز فضلا عما تعلمناه ممن تخصصوا فى الأدب الانجليزى خصوصا لويس عوض وعلى الراعى و مجدى وهبة.
غير أن عمل عبد القادر القط، فى دراسة الشعر ونقده، قد تميز بميزة لم تكن متاحة لنقاد آخرين، وهى معرفته العميقة الواسعة بالشعر العربى، لا قارئا متذوقا أو دارسا فحسب، بل مبدعا كذلك عانى النظم وعرف فنونه وأسراره ومداخله ومخارجه، وهى معرفة أهلته ليلعب دورا مرموقا فى حركة التجديد الشعرية التى وقف إلى جانبها منذ بداياتها إلى الآن، وإن ظل هذا الموقف المساند مشروطا كما هى الحال دائما بثقافة عبد القادر القط وذوقه الخاص وانتماءاته الفكرية وعقيدته الفنية، وما يراه جوهريا فى الشعر فلا يجوز الخروج عليه، وإلا خرجنا منه إلى فن سواه وما يراه أسلوبا فى تجسيد هذا الجوهر يخضع للتجريب ويتغير ويتطور بالعوامل الذاتية والموضوعية التى تؤدى إلى ذلك.
كان عبد القادر القط فى مقدمة النقاد المجددين الذين وقفوا فى وجه العقاد، وعزيز أباظه، وزكى نجيب محمود، وصالح جودت، وسواهم من الشعراء والنقاد المحافظين، وربما حققت حركة الشعر الجديد باعتدال القط فائدة لا تقل عما حققته بحماسة محمود العالم ولويس عوض، هذا الاعتدال هو الذى مكن القط من أن يرأس تحرير مجلة "الشعر" التى تبنت حركة التجديد رغم صدورها عن وزارة الثقافة التى كانت تتبع وزارة الإعلام آنذاك، وفى الوقت الذى كان فيه المحافظون لا يزالون اقوياء ولهذا نجحوا فى أن يكيدوا لعبد القادر القط وأن يقنعوا عبد القادر حاتم بإغلاق المجلة.
وجهود القط فى نقد الرواية والمسرح لا تقل عن جهوده فى نقد الشعر فهو من النقاد الأوائل الذين عالجوا الرواية والمسرحية كشكلين أدبيين لكل منهما عمارته وأدواته الخاصة، فلا يجوز فيهما الاكتفاء بالانطباعات كما كان يفعل معظم الكتاب من قبل، كما لا يجوز الوقوف عند حدود المعنى الاجتماعى أو الأخلاقي كما كان يفعل آخرون بل لابد من معرفة نظرية لخصائص الشكل تكون أساسا للتطبيق، وهكذا أخذ عبد القادر القط يفرق بين البطولة الإيجابية والبطولة السلبية فى الرواية والمسرحية، ويميز بين المعنى الفنى للسلب والإيجاب والمعنى الأخلاقى لهما، وقد كان هذا التمييز ضرورة فى الخمسينيات التى شاعت فيها أفكار كانت تضحى أحيانا بالقيمة الفنية فى سبيل القيمة الاجتماعية والسياسية، فالبطل الإيجابى من وجهة النظر الاشتراكية مثلا هو الذى يناضل أعداءه الطبقيين ويدافع عن قضايا الكادحين أما فى نظر عبد القادر القط فالبطل الإيجابى هو الذى يستجيب للدوافع الخارجية والداخلية المتشابكة المتناقضة ويشارك فى صنع الأحداث بما يتفق مع تكوينه وما تتيحه له الظروف المحيطة من قدرة على الاستجابة والمقاومة والاختيار.
وقد أدى دفاع القط عن البطولة الإيجابية كما يفهمها إلى صدام عنيف مع يوسف السباعى الذى كان يمثل السلطة فى الحركة الأدبية المصرية منذ أواسط الخمسينيات إلى أواخر السبعينيات.
وكان أكثر النقاد المصريين يتجاهلون رواياته، فإذا التفتوا لها فليظهروا ما فيها من ضعف وتفكك كما فعل محمد مندور وكما فعل عبد القادر القط فكان جزاؤهما وضع اسميهما فى قائمة المعادين للثورة، وقد عانى مندور من هذا حتى رحل، أما عبد القادر القط فظل يمنع هو وزوجته النمساوية وأولاده الصغار من السفر إلى الخارج حتى توسط بعض الوسطاء كمهدى علام وعبد الرحمن الشرقاوى بين الكاتب المستبد والناقد الضحية فتمت المصالحة وهذه النقطة لا تزال غامضة بالنسبة لى، فقد تحرجت دائما من الحديث فيها مع الدكتور عبد القادر القط ، وسوف يكون مفيدا أن نعرف تفاصيلها منه.
وفى اعتقادى أن عبد القادر القط لم يقدم تنازلات جوهرية، فإذا كان قد كف عن مهاجمة السباعى، ورضى بالتعاون معه، فى بعض المجالات العملية، فلم يكن لهذا التحول أثر فى نقده وكتابته فقد ظل عبد القادر القط وفيا لأفكاره لم ينقضها ولم يتنكر لها.
والناظر فى مؤلفات القط يجد اتصالا واطرادا وتطورا، فموقفه الذى فضل فيه البحترى على أبى تمام كما فعل الآمدى من قبل هذا الموقف الذى تبناه فى رسالته حول "مفهوم الشعر عند العرب" يتردد صداه فى كتابه "الاتجاه الوجدانى فى الشعر العربى المعاصر" وهو الكتاب الذى ناقش فيه الرومانتيكية العربية واعتبرها أفكارا مستعارة لا تستند إلى أساس

عبدالقادر القط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى