منذ أن تمّ افتتاح هذا الفرع الجديد "للشركة المغربية لنقل الأموات"، في البناية المقابلة للعمارة التي أسكنها، تغيّرتْ حياتي تمامًا.. تغيّرتْ نحو الأسوأ. ففضلًا عن هوسي المزمن وغير المفهوم بتتبّع مواقيت دخول الموظفين وخروجهم؛ ترصّد نوعية الزهور والتوابيت المقترحة على الزبائن؛ وإحصاء عدد السيارات الوافدة بأجداث الراحلين أو الماضية بهم، صرتُ أتخيّل كلّما حملتُ سلة أو حقيبة... فتحتُ دولابًا أو خزانة، أنّ بداخلها جثّة.. جثّة حقيقية يصدرُ عنها نحيبٌ مكتومٌ كأنّه جدول ماء طويل في جوفِ الأرض، ينساب بدعةٍ وهدوء وبلا توقف. بل، حتّى سلالم العمارة بتُ أخشى صعودها، من دون أن تبدر مني التفاتةُ فضولٍ واحدة إلى الوراء، لأنني كنتُ أتصوّر بشكلٍ هذياني بأنّ ثمّة يدًا خفيّة كانت تعمد لطيّها من خلفي.
ربّما لم يحدث أي شيء من هذا الذي يبدو أنه يحدث لي، لكنّ تأجّج التهيؤات وانعدام التآلف بين الواقع ودخيلتي، غداة الحلول الطارئ وغير المتوقع لهذا "الفرع الجديد" في السهوب المقفرة لروحي، كان دافعًا ملحًّا كي أعود، اليوم بعد نهاية دوام العمل، محمّلًا بالعتاد الضروري، وفي نيّتي عندما ينشرُ الظلام أجنحته السميكة، إغلاق نوافذ الشقّة بالألواحِ الخشبية والمسامير، وكذا بناء جدارٍ فاصلٍ بالآجّر والإسمنت لطمسِ الشرفة التي كانت وقودي اليومي، لقدحِ زناد التلصّص على فكرة الموت.. هذه الفكرة الأشدّ إيلامًا من الموت نفسه.
وعلى الأرجح، في انتظار أن أنجزَ ما عقدتُ العزم عليه، استسلمتُ للنوم، لنومٍ ثقيلٍ كما لو أنني لم أنم قط من قبل، لنومٍ قاتمٍ كانت فيه نفسي بعيدة بمقدارٍ سحيقٍ عن نفسي، لنومٍ شديد الجسارة أشبه ما يكون بقفزةِ سيرك من دون شبكة حماية. وعوضًا عن فراشي المعتاد، كنت ممدّدًا على لوحٍ معدني تصلُ برودته إلى عمودي الفقري، حينَ انبثق فجأةً أمام بصري رجلٌ بقفّازات مطاطية وصدرية بلاستيكية شفافة، ثم بعد أن أحكم تسوية عنقي المتدلّي تحت جسم صلب، طفق في تجريدي من نظارتي وخاتمي وساعة يدي. فعل هذا بحركاتٍ تنزع إلى الكياسة والوقار، قبل أن يشرعﹶ مستعينًا بمقصٍ في شقّ قميصي وسروالي وجواربي. وددتُ حينها أن أطلبَ منهﹸ الكفّ عن العبث بخصوصيتي، بيد أنني كنت عاجزا كياطرِ سفينةٍ غارقةٍ.
فواصل الرجل عمله بوضعِ المزقِ في كيسٍ بلاستيكي لمحتﹸ عليه اسمي مدوّنًا ورقم بطاقتي التعريفية. ثمّ باشر بمنشفةٍ نُقعت في كحولٍ طاغٍ تنظيفَ ثقبٍ غائرٍ بالصدغ الأيمن لجمجمتي. في الحقيقة، لا أعرف إن كان ثقبًا أو جرحًا أو كدمةً أو شيئًا آخر، لكن قياسًا إلى كمية الدم التي كانت ترشحُ من بين مسامات المنشفة وانفراجة أصابعه، افترضتُ هذا الزعم.
من المؤكد، إذن، أنني كنتُ ميتًا. الدماء لم تعد تتدفّق بأوعيتي. خلايا دماغي تعطّلت كليًا عن العمل. جسدي في طورِ التحلّل بالفعل. شهادة وفاتي وقّع عليها من دون ريب الطبيب الشرعي منذ ساعات خلت. وفي هذه الأثناء بالذات، ها هو موظفُ صالة التشريح يقوم باللازم لمعرفة أسباب ما جرى لي، ولإعدادي كي أكون لائقًا يوم الجنازة.
لكن، لا يجوز أن أكون ميتًا وأنا أتنفّس وأعي جيدًا ما يدور حولي. لا بدّ أنّ هذا كابوس، محض كابوس. ويتعيّن عليّ أن أستيقظ في التوّ حتّى لا تمتدّ أنصال المباضع والمناشير إلى قحفة رﺃسي. رباه، أريدُ أن أستيقظ ... رباه، أريد أن أفيق حالًا قبل أن يدفع هذا الرجل اللوح المعدني ويحشرني في العمق المظلم، لذلك الرفّ المصمّم لحفظِ الجثث في البرودة. رباه، لا أريد أن أُنضّد إلى جوارِ هذه الرفوف العمودية، التي راحت طبلةُ أذني تلتقط ما تنفثه من نحيبٍ كظيمٍ يمزقُ نياط القلب. رباه.. كنتُ أكرّر هذا الرجاء الأصم بداخلي مثل الغرز في قطعة قماش، عندما قرع أحدهم بجماعِ قوّته صناجتين في وجهي، فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، لأجدني مستلقيًا داخل غرفةٍ صغيرةٍ فوق سرير، سرير مستشفى على ما يبدو، لأن أنابيب التنفّس كانت تخرج من فتحتي أنفي، وﺇبر السيروم مغروسة في أوردة ساعدي. وفي الطرف الموازي من الواجهة الزجاجية للغرفة، كان هنالك طبيبان بوزرتين ناصعتي البياض وعيون تلمع بحدّة مثل عيون الصقور عندما ينزعون الغطاءَ عن رؤوسها، يتحدّثان وهما يشيران ناحيتي بحركاتٍ أراها وكلماتٍ لا أسمعها. لا أدري لحظتها لماذا تولّد لدي حدسٌ مشؤومٌ بأنني سوف أموت قريبًا... قريبًا جدًا جرّاء ورم خبيث. ورم أفرط في التكيّس مثل حقيبةٍ منتفخةٍ في المخ. ورم من مواهبه الأبرز، كونه عازفًا بارعًا ومثابرًا وفائقَ السرعة على أوتارِ أنسجةِ علبة الدماغ. والطبيبان في الأغلب كانا هنا للحيلولة بطريقة أو بأخرى، كي لا يُتمّ السرطان تأديةَ مقطوعته بنجاحٍ باهر.
ربّما، كان كلّ هذا غير حقيقي بالمرّة، لأن الأمور مختلطة ومتعامدة في ذهني، وسياط الحمّى تلسعني لدرجة أن الغرفة بأكملها كانت، بالنسبة لهلوساتي، منظرًا مضخّمًا مصابًا بالحمّى. وبينما أنا أكابد هذا الوضع الملتبس، أحسستُ بارتطام باطن قدمي بباطن قدمٍ ثانية، مثلما لو كان لسريري نسخة سالبة غير مرئية في الجهة الأخرى.
باطن القدم الثانية كانَ مطابقا لمقاس باطن قدمي وباردًا جدًا كما لو كنتُ ميتًا تحت الملاءات في تلك الجهة المفترضة التي ما هي إلا الامتداد المجازي والترجمة الروحية المشتركة لحالتي نفسها. سحبتﹸ باطن قدمي برعب، فتناهى إلى سمعي نحيبٌ موجعٌ لا يُطاق. أعدتها إلى موضعها، فجفّ النحيب. بقيتُ على هذا الوضع وبدأت أصرخ طالبًا النجدة. أصرخﹸ كي ينقشع هذا الشعور الضخم الذي لا يتزحزح. أصرخ … عندما قرع أحدهم بجماعِ قوته صناجتين في وجهي.. فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، وبدأت أمشي بخطواتٍ واهنة تضربُ في الكتمان، كأنني أمشي داخل لقطةٍ بالحركة البطيئة. وقد كان واضحًا لشعوري، بأنني لا أمشي في الشارع الحقيقي الذي طالما ارتدته كي أعود إلى شقّتي، بل بصدى شارعٍ مطابقٍ ومتخيّلٍ بذاكرتي. فعلى ما يبدو، لقد ضللّت وجهتي وأتيتُ إلى مكانٍ غريبٍ وصلتُ إليه عبر بابٍ زائفٍ من أبواب الواقع. فكلّ الأزقة والممرّات والأرصفة، خلو من أية سيارة أو إنسان أو حيوان.
أبواب المحلات والمقاهي والمؤسسات مغلقةٌ يعلوها الغبار. ووحدها بعض الفترينات كانت مزروعة بالبقايا المحطّمة لدمى غريبة متشعّثة ولمجسّمات عارية صلعاء من السيليكون، يندّ عنها بدورها أزيزٌ مبهمٌ أقرب ما يكون إلى النحيبِ الآدمي. لكنني رغم كلّ هذا لم أرجع على أعقابي، وواصلتُ السير صوبَ الجهة التي من المفترض أن شقّتي تقع فيها، إلى أن وقعَ بصري مصادفةً على يافطةٍ تحمل اسم "الشركة المغربية لنقل الأموات". وقفتُ لبرهة أمام بوّابتها المفتوحة كمن ينفضُ عنه وعثاء الأبدية، ثم دخلت. كانتْ هناك طاولةٌ وحيدة عليها موظف استقبال (يشبه إلى حدّ بعيد رجل صالة التشريح، أو واحدًا من طبيبي المستشفى!)، سرعان ما هبّ واقفًا واتّسعت ابتسامته لمّا انتبه لمقدمي. ثمّ بلا أدنى مقدّمات بادرني قائلًا:"حمدًا لله على سلامتك.. لقد كنّا في انتظارك.. أنت الأخير على اللائحة!".
لم ﺃفهم أي شيء، غير أنني أحسستُ بأنّ في الأمر خلطًا ما، خلطًا جسيمًا قد أذهب ضحيةً له، إذا لم أولّ الأدبار بأقصى ما أملكُ من قوّة سيقان. ثم شرعتﹸ في الركض.. أسرع فأسرع.. بلا توقفٍ داخل مضمار هذا الكابوس الخانق المتشعّب الذي علقتُ فيه. وفي كلّ مرة كان يبدو لي أن خطّ النهاية بعيدٌ جدًا وبأنني لن أصل حتمًا، عندما قرع أحدهم بجماع قوّته صناجتين في وجهي.. فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، ونهضتُ من فراشي، ﻷستهل ما عقدتُ العزم عليه سابقًا. لكن لمّا خرجت إلى الشرفة لأضعَ أوّل طوبة آجّر في الجدار الفاصل، لم يكن في البناية المواجهة للعمارة، أيّ ﺃثر يذكر لـ "الشركة المغربية لنقل الأموات"!
ربّما لم يحدث أي شيء من هذا الذي يبدو أنه يحدث لي، لكنّ تأجّج التهيؤات وانعدام التآلف بين الواقع ودخيلتي، غداة الحلول الطارئ وغير المتوقع لهذا "الفرع الجديد" في السهوب المقفرة لروحي، كان دافعًا ملحًّا كي أعود، اليوم بعد نهاية دوام العمل، محمّلًا بالعتاد الضروري، وفي نيّتي عندما ينشرُ الظلام أجنحته السميكة، إغلاق نوافذ الشقّة بالألواحِ الخشبية والمسامير، وكذا بناء جدارٍ فاصلٍ بالآجّر والإسمنت لطمسِ الشرفة التي كانت وقودي اليومي، لقدحِ زناد التلصّص على فكرة الموت.. هذه الفكرة الأشدّ إيلامًا من الموت نفسه.
وعلى الأرجح، في انتظار أن أنجزَ ما عقدتُ العزم عليه، استسلمتُ للنوم، لنومٍ ثقيلٍ كما لو أنني لم أنم قط من قبل، لنومٍ قاتمٍ كانت فيه نفسي بعيدة بمقدارٍ سحيقٍ عن نفسي، لنومٍ شديد الجسارة أشبه ما يكون بقفزةِ سيرك من دون شبكة حماية. وعوضًا عن فراشي المعتاد، كنت ممدّدًا على لوحٍ معدني تصلُ برودته إلى عمودي الفقري، حينَ انبثق فجأةً أمام بصري رجلٌ بقفّازات مطاطية وصدرية بلاستيكية شفافة، ثم بعد أن أحكم تسوية عنقي المتدلّي تحت جسم صلب، طفق في تجريدي من نظارتي وخاتمي وساعة يدي. فعل هذا بحركاتٍ تنزع إلى الكياسة والوقار، قبل أن يشرعﹶ مستعينًا بمقصٍ في شقّ قميصي وسروالي وجواربي. وددتُ حينها أن أطلبَ منهﹸ الكفّ عن العبث بخصوصيتي، بيد أنني كنت عاجزا كياطرِ سفينةٍ غارقةٍ.
فواصل الرجل عمله بوضعِ المزقِ في كيسٍ بلاستيكي لمحتﹸ عليه اسمي مدوّنًا ورقم بطاقتي التعريفية. ثمّ باشر بمنشفةٍ نُقعت في كحولٍ طاغٍ تنظيفَ ثقبٍ غائرٍ بالصدغ الأيمن لجمجمتي. في الحقيقة، لا أعرف إن كان ثقبًا أو جرحًا أو كدمةً أو شيئًا آخر، لكن قياسًا إلى كمية الدم التي كانت ترشحُ من بين مسامات المنشفة وانفراجة أصابعه، افترضتُ هذا الزعم.
من المؤكد، إذن، أنني كنتُ ميتًا. الدماء لم تعد تتدفّق بأوعيتي. خلايا دماغي تعطّلت كليًا عن العمل. جسدي في طورِ التحلّل بالفعل. شهادة وفاتي وقّع عليها من دون ريب الطبيب الشرعي منذ ساعات خلت. وفي هذه الأثناء بالذات، ها هو موظفُ صالة التشريح يقوم باللازم لمعرفة أسباب ما جرى لي، ولإعدادي كي أكون لائقًا يوم الجنازة.
لكن، لا يجوز أن أكون ميتًا وأنا أتنفّس وأعي جيدًا ما يدور حولي. لا بدّ أنّ هذا كابوس، محض كابوس. ويتعيّن عليّ أن أستيقظ في التوّ حتّى لا تمتدّ أنصال المباضع والمناشير إلى قحفة رﺃسي. رباه، أريدُ أن أستيقظ ... رباه، أريد أن أفيق حالًا قبل أن يدفع هذا الرجل اللوح المعدني ويحشرني في العمق المظلم، لذلك الرفّ المصمّم لحفظِ الجثث في البرودة. رباه، لا أريد أن أُنضّد إلى جوارِ هذه الرفوف العمودية، التي راحت طبلةُ أذني تلتقط ما تنفثه من نحيبٍ كظيمٍ يمزقُ نياط القلب. رباه.. كنتُ أكرّر هذا الرجاء الأصم بداخلي مثل الغرز في قطعة قماش، عندما قرع أحدهم بجماعِ قوّته صناجتين في وجهي، فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، لأجدني مستلقيًا داخل غرفةٍ صغيرةٍ فوق سرير، سرير مستشفى على ما يبدو، لأن أنابيب التنفّس كانت تخرج من فتحتي أنفي، وﺇبر السيروم مغروسة في أوردة ساعدي. وفي الطرف الموازي من الواجهة الزجاجية للغرفة، كان هنالك طبيبان بوزرتين ناصعتي البياض وعيون تلمع بحدّة مثل عيون الصقور عندما ينزعون الغطاءَ عن رؤوسها، يتحدّثان وهما يشيران ناحيتي بحركاتٍ أراها وكلماتٍ لا أسمعها. لا أدري لحظتها لماذا تولّد لدي حدسٌ مشؤومٌ بأنني سوف أموت قريبًا... قريبًا جدًا جرّاء ورم خبيث. ورم أفرط في التكيّس مثل حقيبةٍ منتفخةٍ في المخ. ورم من مواهبه الأبرز، كونه عازفًا بارعًا ومثابرًا وفائقَ السرعة على أوتارِ أنسجةِ علبة الدماغ. والطبيبان في الأغلب كانا هنا للحيلولة بطريقة أو بأخرى، كي لا يُتمّ السرطان تأديةَ مقطوعته بنجاحٍ باهر.
ربّما، كان كلّ هذا غير حقيقي بالمرّة، لأن الأمور مختلطة ومتعامدة في ذهني، وسياط الحمّى تلسعني لدرجة أن الغرفة بأكملها كانت، بالنسبة لهلوساتي، منظرًا مضخّمًا مصابًا بالحمّى. وبينما أنا أكابد هذا الوضع الملتبس، أحسستُ بارتطام باطن قدمي بباطن قدمٍ ثانية، مثلما لو كان لسريري نسخة سالبة غير مرئية في الجهة الأخرى.
باطن القدم الثانية كانَ مطابقا لمقاس باطن قدمي وباردًا جدًا كما لو كنتُ ميتًا تحت الملاءات في تلك الجهة المفترضة التي ما هي إلا الامتداد المجازي والترجمة الروحية المشتركة لحالتي نفسها. سحبتﹸ باطن قدمي برعب، فتناهى إلى سمعي نحيبٌ موجعٌ لا يُطاق. أعدتها إلى موضعها، فجفّ النحيب. بقيتُ على هذا الوضع وبدأت أصرخ طالبًا النجدة. أصرخﹸ كي ينقشع هذا الشعور الضخم الذي لا يتزحزح. أصرخ … عندما قرع أحدهم بجماعِ قوته صناجتين في وجهي.. فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، وبدأت أمشي بخطواتٍ واهنة تضربُ في الكتمان، كأنني أمشي داخل لقطةٍ بالحركة البطيئة. وقد كان واضحًا لشعوري، بأنني لا أمشي في الشارع الحقيقي الذي طالما ارتدته كي أعود إلى شقّتي، بل بصدى شارعٍ مطابقٍ ومتخيّلٍ بذاكرتي. فعلى ما يبدو، لقد ضللّت وجهتي وأتيتُ إلى مكانٍ غريبٍ وصلتُ إليه عبر بابٍ زائفٍ من أبواب الواقع. فكلّ الأزقة والممرّات والأرصفة، خلو من أية سيارة أو إنسان أو حيوان.
أبواب المحلات والمقاهي والمؤسسات مغلقةٌ يعلوها الغبار. ووحدها بعض الفترينات كانت مزروعة بالبقايا المحطّمة لدمى غريبة متشعّثة ولمجسّمات عارية صلعاء من السيليكون، يندّ عنها بدورها أزيزٌ مبهمٌ أقرب ما يكون إلى النحيبِ الآدمي. لكنني رغم كلّ هذا لم أرجع على أعقابي، وواصلتُ السير صوبَ الجهة التي من المفترض أن شقّتي تقع فيها، إلى أن وقعَ بصري مصادفةً على يافطةٍ تحمل اسم "الشركة المغربية لنقل الأموات". وقفتُ لبرهة أمام بوّابتها المفتوحة كمن ينفضُ عنه وعثاء الأبدية، ثم دخلت. كانتْ هناك طاولةٌ وحيدة عليها موظف استقبال (يشبه إلى حدّ بعيد رجل صالة التشريح، أو واحدًا من طبيبي المستشفى!)، سرعان ما هبّ واقفًا واتّسعت ابتسامته لمّا انتبه لمقدمي. ثمّ بلا أدنى مقدّمات بادرني قائلًا:"حمدًا لله على سلامتك.. لقد كنّا في انتظارك.. أنت الأخير على اللائحة!".
لم ﺃفهم أي شيء، غير أنني أحسستُ بأنّ في الأمر خلطًا ما، خلطًا جسيمًا قد أذهب ضحيةً له، إذا لم أولّ الأدبار بأقصى ما أملكُ من قوّة سيقان. ثم شرعتﹸ في الركض.. أسرع فأسرع.. بلا توقفٍ داخل مضمار هذا الكابوس الخانق المتشعّب الذي علقتُ فيه. وفي كلّ مرة كان يبدو لي أن خطّ النهاية بعيدٌ جدًا وبأنني لن أصل حتمًا، عندما قرع أحدهم بجماع قوّته صناجتين في وجهي.. فأجفلت، ثم فتحتﹸ عيني.
فتحتُ عيني، ونهضتُ من فراشي، ﻷستهل ما عقدتُ العزم عليه سابقًا. لكن لمّا خرجت إلى الشرفة لأضعَ أوّل طوبة آجّر في الجدار الفاصل، لم يكن في البناية المواجهة للعمارة، أيّ ﺃثر يذكر لـ "الشركة المغربية لنقل الأموات"!