الضوء عند حافة الأفق
قصة
(إلي صديقي سليمان فياض، أدين له بإيقاظ عالم هذه التجربة في نفسي).
بلغت الثامنة والعشرين من عمري، ليس اليوم، ولكن منذ عدة شهور، تري هل يشفع لي هذا التقدم المريع في السن إذا ما قمت ببعض الأعمال الهستيرية التي قد يحكم الناس عليَّ من خلالها بالجنون. أو علي الأقل قد يكتفون بالنفور من معاملتي علي مستوي الكائنات السوية الجديرة بالاحترام؟ أعمال هستيرية؟ وما هو نوع تلك الأعمال؟ مثلا: أقوم من النوم في الصباح فأعبر صالة شقتنا حتي أصل بمنتهي السرعة إلي غرفة الجلوس، ودون أن أهتم حتي بإزالة آثار النعاس من وجهي، أسرع بفتح الشباك وأقذف برأسي إلي الخارج حتي يصبح نصفي الأعلي معلقا كله في الهواء، وأرفع عيني إلي أعلي مسددا نظرتي إلي حبل الغسيل المعلق في شرفة الشقة التي ترتفع بدورين عن شقتنا في العمارة المقابلة، وأدقق النظر، فهناك شيء ما يربطني بهذه الحبال، إن نظري ضعيف، ولكن غشاوة النوم مازالت تمنعني من رؤية الأشياء بوضوح، وأحاول جهدي أن أعد مشابك الغسيل المعلقة علي الحبال: واحد اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، اذن فالموعد في الساعة الخامسة ، تمام، وأنتظر دون جدوي أن يفتح شباك الشرفة وتطل منه بوجهها المليء بالرغبة، فأتملي منه قليلا، وأحظي بابتسامة تدغدغ رأسي، ثم بعد ذلك أعاود الرجوع إلي حجرتي فارتمي علي السرير وقد غمرني احساس شديد بالقلق؛ كيف، وأنا الانسان المثقف في سبيل ارضاء رغباتي إلي مثل هذه الطرق التي طالما كرهتها نظرت منها، بل ونددت كثيرا بما فيها من تفاهة وسطحية؟ وإذا ما صادف ورآني أحد مع سناء، بعض معارفي أو أصدقائي مثلا، فماذا افعل لهم وكيف لي بمواجهتهم، وهم الذين يعرفون شغفي الشديد والدفاع الجاد المتزمت عن الصلابة والقوة والمثل العالية؟ لاشك أن هذا يتفق بحال من الاحوال مع السنوات الثمانيس والعشرين التي احملها ويحمل المسافر بطاقته الشخصية، وقد ينخدع البعض فيقولون إن الانسان عندما يبلغ الثامنة والعشرين فإنه لا يعتبر حينئذ متقدما في السن، ولكن اسارع فأقول إن الحياة لا يكفي في قياسها الزمن، الزمن المجرد، ولكنها بالنسبة لي ولبعض الأشخاص الآخرين يقاس بالزمن المليء بالأعمال، الزمن الكثيف. وعلي هذا يجدر بي أن ألقي السؤال هكذا: ماذا صنعت أنا خلال هذه المدة من الزمن، أو بالأحري، أتيح لي أن أصنع؟.. وعندما يكون الجواب: لا شيء، أكون أنا قد تقدمت في السن كثيرا جدا، دون أن يتاح لي عمل شيء، بل وأكون قد أصبحت شخصا يرثي له، آلة تدور في الفراغ.
لا أنكر أن لي أصدقاء كثيرين، كثيرين جدا، يفوق عددهم أضعاف وسط أصدقاء أي شخص عادي. وهذا من احدي الزوايا قد يعتبر من قبيل الحظ الحسن. ولكني لأمر ما، بدأت أشعر أن ذلك ما هو إلا بعض مظاهر تعاستي. هم يقدمون لي الولاء والاحترام الكافيين لجعل أي انسان يزداد شعورا بالثقة في نفسه فيما لو حظي بمثل هذا القدر من العواطف. إلا أني، وقد تجاوزت الثامنة والعشرين من عمري، بدأت أشعر بجفاف عجيب في علاقتي بهم. جفاف في داخلي يجعلني باستمرار أحس بكثافة جسدي كلما قذفت بي الظروف في موقف مع أي منهم. وأتململ، وأراهم هم الآخرين يتململون بدورهم وكأنما قد حبست واياهم في غرفة خانقة وما علينا إلا أن نسارع بالهرب منها قدر ما نستطيع قبل أن يصيبنا الاختناق. ويكون انهاء الموقف مصحوبا بالشعور بالألم من ناحيتي علي الأقل، مهما كان الأمر تافها. وأحاول قتل هذا الشعور بكلمات الوداع الجوفاء التي أحملها انفعالات زائفة تدل علي ارتباطي بهم. وأحدد معهم موعدا آخر للقاء معتذرا عن تعبي في هذه اللحظة. وأنا وإن كنت تعبا، فإنه ذاك النوع من التعب الذي لا يمنعني بأي حال من الأحوال من الجلوس مع أي صديق والتحدث معه بطلاقة فيما إذا وجدت المبررات الكافية لذلك في نفسي. إلا أنني بعد ما ارهقني هذا النوع من الانفعالات حتي صرت لا أقوي علي القيام بأي عمل، بدأت افكر في الأمر. وليس غريبا في الواقع أن ترتبط هذه الانفعالات الأخري التي تصاحب تفكيري في سناء وأنا بعيد عنها. (عندما كنت جالسا معها كان التفكير فيها مستحيلا فقد كنت ساعتها مستغرقا في نوع من الحذر الذي يحيلني دائما إلي كائن شبه سلبي). فقد حدث أنني بعد عودتي إلي سريري ذات صباح من رحلتي القصيرة إلي شباك حجرة الجلوس، كان قلقي قد بلغ قمته. وكنت في الليلة السابقة قد قابلت عشرين صديقا، علي الأقل، وسهرنا حتي تجاوزت الساعة منتصف الليل بكثير. لم أكن أذكر بالضبط ما هي الأحاديث التي تبادلتها مع هؤلاء الأصدقاء لأنها كانت من ذلك النوع من الكلام الذي ينسي بعد قوله مباشرة ولا يتخلف منه في النفس إلا بعض المشاعر التي تؤرق الوجدان طويلا مثل الريح الكريهة التي تمر علي مكان نظيف لتمكث فيها قليلا ثم تمضي، وفتحت نوافذ حجرة غرفتي كلها واضطجعت علي الفراش بتراخ وجعلت استمتع بضوء الصباح الغامر الذي دخل إلي الحجرة في قوة. وساعتها أشعلت سيجارة وأخذت أفلسف المسألة علي هذا النحو: "الحياة يا محمود من حيث اللفظ مشتقة من فعل "يحيي" أو "يعيش" فعلان يدلان علي الحركة. وما من حركة في العالم إلا وتستهلك ما يسمي في العلم "بالطاقة". واستمرار الحركة التي هي الحياة مرهون بوجود الطاقة دوما. البنزين الذي يحرك السيارة. الحرارة التي تدفعها إلي أمام. وقد علمتك ثقافتك التي تحرص عليها دائما حرصك علي شرفك أن العلاقات الإنسانية - والصداقة بوجه خاص، أو الحب - هي الحياة في إنقي لحظاتها، الحياة الطاهرة الشفافة. والحياة في أنقي لحظاتها - في الصداقة مثلا، ولندع الحب جانبا لأن لنا معه شأنا آخر - تحتاج إلي الطاقة في أقصي صورها. ومن أين لك بهذه الطاقة يا محمود وقد استنفدت، استنفدت نهائيا علي التقريب خلال ثمانية وعشرين من الأعوام الطوال؟ لقد كنت تعمل مدرسا في العراق لأنك لم تجد عملا في مصر بعد تخرجك. وكنت تحظي بكل احترام من الناس هناك، وكنت تنفق عن سعة. ولكنك عند عودتك كاد أصدقاؤك الا يعرفوك من شدة نحولك. وكان الذبول باديا عليك مما أثار دهشة الجميع وشفقة أهلك. طبيعي اذن يا محمود أن تجلس مع صديق لك لقيته بعد غيبة مدة طويلة، عن طريق المصادفة، وكنت في الماضي قد أنفقت معه أحلي اللحظات، ثم بعد أن ينتهي حديث الترحيب والسؤال عما حدث خلال مدة الفراق هذه، تري نفسك قد فرغت جعبتك تماما، لم تعد لديك كلمة واحدة جديدة لتضيفها إلي ما فرغت من قوله. ثم تري لزاما عليك أن تقوم مدعيا الانشغال - وأنت في الواقع تشكو من الفراغ - متمنيا ان تلقاه قريبا جدا لتعاودا إحياء الصداقة التي كانت مزدهرة بينكما في الماضي".
وبقيت أخاطب نفسي مدة طويلة علي هذا النحو. ثم تتوارد علي مخيلتي جميع مواقف اللقاء التي مررت بها منذ مدة إلي القاهرة فأشعر بقليل من الضيق متمنيا لو حدثت من جديد، اذن لكنت كيفتها علي النحو الذي يرضيني. والغريب أنني بدأت ألاحظ عدم تفردي بهذا الجفاف. دعاني "شوقي" ذات مساء للقاء علي المقهي الذي كنا نلتقي فيه كل مساء أثناء فترة دراستنا. وشوقي اليوم يشغل منصبا كبيرا في التدريس رغم صغر سنه. وطالما حسدته علي هذه الطاقة العجيبة من البلادة التي يتمتع بها في مواجهته أمور الحياة. وكثيرا ما كانت هذه البلادة مثار سخرية مني حتي إنني فرحت ذات يوم بإثارته فإذا به يدافع - ربما لأول مرة في حياته - عن بلادته بانفعال شديد. ولكن، ها هو الآن يفحمني بواقع حياته المطمئن. ولست أدري اينا كان علي حق، حتي الآن. وظللنا نتحدث في هذه الأمسية طويلا. وأدهشتني نبرة المرارة التي كانت تشوب حديثه، لقد كان كأنه كتلة سوداء من اليأس. تعلقت به زميلة له كنت أعرفها وأنفر منها بشدة، إذ إنها كانت فيما بدا لي، تتستر علي حقدها العارم الموجه ضد الناس، بمظهر خادع من الفكر والثقافة والحرية. لم تكن قبيحة جدا، ولكنها كانت تدفع من يراها إلي النفور منها بسرعة شديدة. ولكنه بعد مدة تعلق بها هو الآخر، بيأس. وها هو الآن يرجم كل شيء بكلماته، حتي نفسه، حتي خطيبته سامية. قال لي يومها ونحن نحتسي أكواب الشاي ونتبادل السجائر في جو غريب من صخب زبائن المقهي وأشكالهم المتنافرة، وطرقعة زهر الطاولة بسرعة، وتعليقاتهم المرتفعة.
- ماذا بقي لنا يا محمود؟ لقد كنا ندفع الثمن في بداية عهدنا بالدراسة من الكبت والمثابرة والتغاضي عما في حياتنا من تمزق. كان أبي كما تعلم أنت جيدا يرسل لي أربعة جنيهات في الشهر أنا وأخي. تصور. كنا ندفع جنيهين منها للحجرة التي كنا نسكنها فوق سطح أحد البيوت القذرة، وكان علينا بعد ذلك أن نقضي جميع مطالب الحياة من أكل وشرب وشراء للأدوات الدراسية من الجنيهين الباقيين. تصور. لقد كنا نتحمل هذا كله. ندفع هذا الثمن الباهظ عن طيب خاطر، في سبيل الأمل الذي نسعي إليه ويبرق من بعيد في ظلمات المستقبل. يبرق فقط. ومع ذلك فقد تخرجنا، واشتغلنا، ولم يحدث أي شيء، تعقدت الأمور عن ذي قبل، وستراني بعد أيام أرضي - لا حيلة لي - بالبقاء في بيت واحد طول عمري مع وجه قبيح. ولكني أحبها مع ذلك. هيه. وهي تعبدني. تعبدني.
ومط حروف كلمة تعبدني بشكل يوحي إلي السامع بعكس ما تحمله من معني علي طول الخط. أسخرية هي، أم اشفاق، أم يأس؟ جميع هذه الانفعالات تطل برؤوسها من كل حرف من حروف الكلمة يخرجها ببطء ويتوقف عند كل مقطع ليوفيه حقه من الطاقة الصوتية وأجبته دون أن اسمح له بالاسترسال في هذا الجو الكئيب من المعاني الخانقة.
- ولكنك تملك كثيرا من الأسلحة تستطيع أن تقاوم بها كل هذه الأوضاع. لديك مثلا مركزك المطمئن في التدريس، وهو مركز يحسب عليه كثيرون ممن هم في مثل سنك. ولديك القدر الكافي من الثقافة الذي يؤهلك لفهم كثير من الحقائق. ولديك زاد من الاحترام تلقاه كلما وجد في مكان ما. وأخيرا فإنك تستطيع أن تعتمد علي "سامية" طالما هي "تعبدك" كما تقول.
وحاولت بكل جهدي أن أنطق الجملة الأخيرة بصوت محايد خال من كل انفعال، ويبدو أنني لم أفلح في ذلك كثيرا، فقد بادرني بقوله علي الفور:
- سامية ! هيه. انني سأنتحر علي صدرها. إنني أتصور نفسي الآن لا أدخل عش زوجيتنا المزعوم إلا بعد منتصف الليل، وجسمي من فرط السكر اتساند علي الجدران في الشوارع المظلمة. اسمع سأحكي لك ما حدث لي ذات مرة: عدت إلي منزلي بعد ما شربت وثرثرت كثيرا مع كل من قابلتهم من المعارف. وكنت قد دعوتها لأول مرة لزيارة في بيتي ذلك الصباح. وحاولت تقبيلها ولكنها رفضت، الملعونة ترفض. تصور. انها تتمنع. ها . ها . ها تتمنع بنت اللئيمة، أثارني هذا الموقف جدا حتي انني لم استطع أن افعل شيئا غير الهرب من نفسي، وبمجرد أن عبرت مدخل البيت - وكان ذلك في الثالثة صباحا علي التقريب - حتي رأيت الشقة الأولي في الدور الأرضي في هذا الوقت المتأخر، والباب مفتوح علي مصراعيه. وهذه الشقة يسكنها شاب في مقتبل عمره يعمل سائقا في احدي شركات الاتوبيس وله زوجة جميلة جدا في ريعان شبابها وطفلان صغيران. ولم أكن أسمع عنهما شيئا قبل اليوم علي الاطلاق منذ سكنت في الدور الثاني. كنت احيانا التقي به في مدخل البيت وأنا خارج إلي العمل في الصباح فأقوم برد التحية التي يوجهها إلي في اقتضاب بالغ، وعندما كنت اعود، كنت أري وجهها هي مطلا من فرجة الباب تنادي طفليها اللذين يلعبان في الشارع. وغالبا ما كانت صورة وجهها تظل عالقة بوجداني لمدة ساعة بعد ذلك حتي تطمسها مشاغلي التي كنت أستغرق فيها ابتداء من المساء وفي هذه المرة رأيتها - بكامل جسدها وليس بوجهها فقط - جالسة علي الأرض في صالة شقتها وقد جلس قبالتها زوجها علي كرسي من الخيزران ومد ساقيه أمامها في وعاء بينما انهمكت هي في تدليك قدميه كان وجهه شاحبا وسمعته يتأوه في صوت واهن بينما كانت هي أشد شحوبا منه. وتباطأت خطواتي من تلقاء نفسها لالتقاط تفاصيل الحديث وأنا أعبر المسافة الصغيرة من الباب حتي بداية السلم دون أن يبدو الفضول. ولكنها لمحتني، فجرت نحوي بسرعة، فحرصت علي أن أكون مبتعدا عنها بمسافة كافية لمنعها من معرفة حقيقة الحالة التي كنت عليها عن طريق الشم، وبادرتني بجرأة الذي لا حيلة له:
- أنا انتظرت حضرتك كتير، طلعت فوق وخبطت علي الباب لكن محدش رد عليّ. اعمل معروف تكتب لجوزي علشان يحولوه مستشفي الشركة.
واستردت أنفاسها قبل أن تستأنف حديثها القلق:
- أصله عيان قوي، وما قدرش يروح الشغل.
الذي استوقفني يا محمود ليس الحادث في ذاته، فكثيرا ما يتكرر أمثاله أمامي عن طريق المشاهدة أو السماع، ولكن المهم هو تلك الطريقة التي كانت تدلك بها امرأة شابة قدمي زوجها المريض في قلب الليل وليس من أحد معهما سوي الظلام في الخارج والسكون المطبق والانات الخافتة. ثم، يا محمود، تلك اللهفة التي بدت عليها عندما رأتني كأنما قد عثرت علي كنز ثمين، أو قطرة ماء بعد عناء سير طويل في صحراء محرقة، ذلك هو الذي بهرني حقا. وحاولت أن أرد عليها أن أشاركها بأي طريقة في ألمها، غير أني لم أعثر علي غير هذه الكلمات - إن شاء الله - مري علي الصبح خذي الجواب.
وعندما كانت تقول لي "كتر ألف خيرك" كنت أنا أصعد الدرج متساندا علي الحاجز الحجري ببطء شديد وكأنما قد صب علي وعاء كامل من الماء البارد فأصابتني رجفة شديدة وبدأت آثار السكر تزايلني بشكل فجائي. وخيل إلي أن هذا الرجل المريض ذا الوجه الأصفر، المتهالك علي كرسي قاس، انما يستنشق، في هذه اللحظات، انسام سعادة خفية. وعبرت في خاطري تفاصيل ما حدث لي مع سامية في الصباح، فكدت أبصق علي صورتها التي بدأت تبرز في رأسي بشكل وقح. وظللت مرتميا علي فراشي بملابسي كاملة طول الليل والدموع تنهمر من عيني دون أن أقوي علي حبسها. سامية!: آه! إني سأضمها ذات يوم، قريبا جدا، إلي صدري، كما عانقت كليوبطرة الافعي بغية الانتحار، سأنتحر علي صدرها يا صديقي. ولا مفر. إنها تريد أن تتزوج المنصب فيّ، تريد أن تشركني في تمثيلية سخيفة تبرئ بها نفسها أمام المجتمع. ولكن.. لا مفر لي منها....".
وانهمرت الدموع من عينيه مما اضطررنا إلي القيام خشية أن ينتبه إلينا زبائن المقاهي وكلهم تقريبا يعرفوننا منذ زمن طويل. وإذ لم أجد ما أرد به عليه، لم يكن لي بد من تركه لأعود إلي المنزل كي أحاول النوم لأستيقظ في الصباح علي عدة مشابك للغسيل رتبتها سناء بأناقة علي الحبال المعلقة في شرفتها لتحدد لي موعدا ألقاها فيه، كما انحدر، للحظات، إلي الخدر الذي تدفع بي إليه.
>>>
منذ عدت من القاهرة أسلمت نفسي كلية للمصادفة. قد يكون هذا جميلا، ولكن في هذه الظروف القاسية التي كنت مارا بها، لم يكن من الأوفق أن أترك نفسي علي سجيتها هكذا، وأسلم زمامي إلي الحوادث تشيلني وتحطني كما شاءت. قد يكون السبب أني كنت مشتاقا جدا إلي كل ما في القاهرة، كنت اريد أن امتعها ذرة ذرة بوجداني المتعطش لاطمئن نفسي إلي انني لم افقدها إلي الابد كما كان يخيل إلي في ليالي غربتي القاسية، فأصاب بالذعر، وأعكف علي الشراب والبكاء. وقد تكشفت لي خطورة هذا الوضع. عندما انسقت وراء ابتسامة سقطت علي من شرفة سناء ذات صباح فلم أستطع أن اصمد أمامها لفرط اشتياقي إلي صحبة امرأة، أية امرأة، لقد رسمت لي موعدا بمشابك الغسيل. وكان ما يشغلني في هذا الوقت هو كيف سأستطيع أن أعاود الحياة في القاهرة من جديد، وكنت أدرس جميع الوسائل العملية التي يمكن أن توصلني إلي ذلك. وعلي خطورة هذا الموضوع بالنسبة لحياتي كلها: في الحاضر، وفي المستقبل، وكذلك في الماضي أيضا، إلا أنني نسيته تماما عندما انفرجت شفتان مكتنزتان ورسم انفراجهما علي البعد ابتسامة دعوة، وتألقت عينان سوداوان جميلتان وقالتا لي كثيرا من الكلام. ولم أفكر يومها في شيء آخر غير لقائها. وظللت قبل موعدها بساعات أدبر في رأسي كل ما سأفعله معها خلال جلوسي إليها وكل ما سأقوله لها بالتفصيل. وعندما كنا ننزل درجات السلم المؤدي إلي حديقة الكازينو المطل علي النيل، عثرت قدمها وكنت متأخرا عنها بدرجة فإذا بها تسقط علي صدري، ورأسها، بالشعر الغزير المعطر الذي يكسوه، مدسوس تحت أنفي مباشرة. ولففت ذراعي حول خصرها ودفعتها إلي الأمام بكل قوتي حتي لا تسقط وأسقط أنا معها. فإذا بها تعمدت هذه العثرة كي أفعل انا هذا الذي فعلته. وتلاقت عينانا ونحن نعاود النزول فتأكدت ساعتها تأكدا تاما من صدق هذا الخاطر الذي مر بي.
وعندما كانت جالسة قبالتي علي المائدة المغطاة بمفرش طويل ينزل مسترسلا حتي يكاد يلامس الأرض، أحسست أنها تقترب بصدرها من حافة المائدة أكثر فأكثر حتي التصقت تماما بها وثبتت كوعيها عليها بينما أسلمت رأسها إلي كفيها وهي تنظر إليّ. وبعد قليل شعرت بساقها من تحت المائدة، تلتف بساقي وتضغط عليها بشدة. لم يكن في نظراتها أي خجل. واستحوذ علي ارتباك عنيف حتي شعرت بقطرات من العرق تتجمع علي جبيني في بطء وأخرجت منديلا أجفف به وجهي بينما بدأت هي الكلام بقولها:
- أتدري ما الذي أريده أنا من هذه الحياة؟ إنني لا أبتغي سوي الرجل.. الرجل ولا غير.. لقد طلقني زوجي منذ سنة لأنه كان يغار عليّ، أبله! وهأنذا اليوم قد مضت علي سنة طويلة وأنا محبوسة في المنزل مع أمي وأخي المتزوج لا أكف طول النهار عن الشجار مع زوجته. وهم ثلاثتهم يحصون علي كل حركة أقوم بها كما لو كنت موشكة علي ارتكاب جريمة في كل لحظة. اسمع. أنا لا أريد زوجا، ولا حبيبا، ولا أي شيء آخر من هذا النوع. أريد فقط رجلا.. عشيقا!
لها حولوا نظراتهم إلينا من أجلها.. بينما كنت أنا منهمكاً بكليتي في تجفيف عرقي أحرك يدي القابضة علي المنديل بشكل آلي ابتداء من جبهتي حتي أدني ذقني، ومستسلماً للخدر اللذيذ الذي يحدثه احتكاك ساقها بساقي من تحت المائدة.
واستأنفت قولها:
- هل ستظل مع أهلك دائماً؟
واستجمعت طاقتي لأجيب عليها:
- لا.. أنني انتظر حتي أحصل علي عمل ثم أنفصل عنهم لأسكن وحدي، فأنا بحاجة إلي الوحدة لكي أواصل إتمام مشاريعي التي أعددتها للمستقبل.
- وأين ستسكن؟
- لست أدري حتي الآن.
- أرجو أن تحرص علي أن يتوفر في سكنك الجديد هذا شرطان: أن يكون بعيداً في وسط المدينة، وأن يكون كذلك في حي صاخب.
ولم أستطع أن أفهم مغزي هذا الطلب إلا بعد قليل، فقد سألتها:
- ولِمَ هذه الشروط؟
فأطلقت نفس الضحكة العالية وهي تقول:
- ألم تفهم وحدك.. إنك ساذج!
فارتبكت مرة أخري بصورة قوية، ولكني تذرعت بالهدوء وقلت لها:
- لم أفهم.. إنني أريد حياً هادئاً يصلح للعمل.. فلماذا هذه الشروط؟
- لكي أستطيع زيارتك دون أن يراني أحد!
وعندئذ أدركت ضرورة فراري من هذا الموقف بأسرع ما يمكن.. لم أكن أبتغي الجلوس إلي أنثي.. محض أنثي لا تبتغي من حياتها شيئاً سوي الرجل.. كنت أريد فتاة رقيقة سحرتني في الصباح ببسمتها وتألق عينيها لأجلس معها قليلاً فأحظي بشيء من الراحة وهدوء البال وربما.... ربما استطعت بعد تكرار لقائي معها أن آنس إليها أكثر فأحظي في النهاية بإنسانة تحبني وأحبها.. ما كان أشد خيبتي! وما شعرت بعدها إلا وأنا أدفعها أمامي إلي الخارج بقوة ونظرات الناس تلاحقنا، وسمعتها تقول، وأنا أودعها علي محطة الأتوبيس:
- ماذا جري لك؟
- لا شيء.. مجرد تعب بسيط يحدث لي أحياناً.
- مسكين!
قالتها بسخرية حتي قررت أن أحسم الأمر بأسرع ما أستطيع، فقلت لها بعصبية والمنديل مازال عالقاً بيدي:
- مع السلامة.
- ومتي سأراك ثانية؟
- قريباً.. قريباً..
قلت ذلك وأنا أسارع بالابتعاد كأنما أجري، أفر من شيء مفزع، وعدت إلي البيت، وكان أول شيء فعلته هو أن أغلقت شباك حجرة الجلوس، وأنزلت عليه ستارة لم تكن تنزل عليه أبداً مع أنها موجودة منذ زمن طويل، وجلست خلفه علي كرسي مريح أجفف عرقي ودموعي حتي الصباح.
> > >
غير أن الصباح كان يحمل لي مفاجأة جديدة، بينما كنت قد عقدت العزم نهائياً علي ألا تكون دموع المساء قد جفت إلا ويكون القلق الذي استحوذ علي نفسي قد تبخر نهائياً ورجعت إلي حالة من الصفاء تؤهلني لبداية مرحلة جديدة من حياتي.. ولكن الدموع آثرت أن تتخذ من هذه المصادفة الجديدة معيناً لا ينضب، وظللت أبكي بعد ذلك بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام.. ثلاثة أيام طوال.
كنت مستغرقاً في دفء الفراش استغراقاً كلياً وقد أخذني ذلك الخدر اللذيذ الذي يسيطر عليّ في تلك اللحظات علي الدوام كلما تصادف ونمت متأخراً، وسمعت طرقات علي باب الحجرة ولم يمهلني الطارق حتي أرد عليه، إذ سمعت صرير الباب وهو ينفتح برفق وصوت أختي الكبري يصافح أذني وهي علي مسافة قريبة جداً من رأسي:
- محمود! محمود!
وتقلبت في الفراش علي جانبي الآخر مولياً ظهري إليها دون أن أرد، لأنني كنت متعباً للغاية وأريد أن أستأنف النوم دون إزعاج.. غير أنها كانت فيما تبدو متلهفة علي إيقاظي بأي ثمن.
- محمود.. افتح يا محمود.. صفاء هنا.
كان صوتها خافتاً كالهمس عندما قالت لي هذه الجملة الأخيرة وهي تهزني من كتفي برفق، ولكنه كان واضحاً غاية الوضوح، ولا مفر من قبول الحقيقة دون أي محاولة للتهرب.. لقد سمعت بالذات الجملة الأخيرة بكل حرف من حروفها: "صفاء هنا".. وكأنما ذابت الحروف وتحولت إلي سائل ناري أخذ يجري في عروقي مع الدم.. وفتحت عيني علي أقصي ما تكون سمعتهما وقذفت الغطاء بعيداً بركلة من قدمي، واستويت جالساً علي السرير وجذبت أختي من يدها فأجلستها إلي جواري، بعد أن كانت هي من تلقاء نفسها قد أدركت ما أنا فيه.
وأطلقت ضحكة خُيِّل إليَّ أن جميع رواد الكازينو قد سمعوها ودهشوا.
فتحت الباب، وقلت لها مفزوعاً:
- ماذا حدث؟
ــ أقول لك صفاء هنا، ألا تسمع.. وصلت حالاً.
ــ وماذا جاء بها؟
ــ جاءت تقابل خطيبها وتمكث معنا قليلاً.. عدة أيام.
ــ وخطيبها معها الآن؟
ــ لا..
لم أرد عليها.. غير أنها قامت وخرجت في هدوء بعد أن أغلقت الباب وراءها وخلفتني وحدي، وتذكرت في الحال الخطاب الذي أرسلته لي وأنا في العراق.. فقد قالت لي فيه بكلمات ساذجة "إنني سأتزوج آخر غيرك، ولكنك ستظل أطيب إنسان عرفته في حياتي" لم تكن متاعب السهر في الليلة الماضية قد زالت آثارها من جسمي تماماً، ذلك لأنني لم أحظ بأكثر من ساعتين قضيتهما نهباً للأحلام المفزعة، لذا أحس بأن أعضائي كلها وكأنها قد انفصلت عن بعضها واستقل كل عضو بذاته استقلالاً تاماً.. كانت الأيام الأخيرة هذه قد سلبتني من وهج الحياة، ولذلك كان الشعور المسيطر عليّ بشكل واضح هو أنني أضمحل، أتبخر شيئاً فشيئاً.. وبالرغم من أن خبر وجود صفاء بالبيت قد أثارني جداً، إلا أنني بعد قليل استشعرت لها طعماً آخر للغاية في وجداني.. إنها قريبتي، وهي الإنسانة الوحيدة التي لي معها تجربة حب حقيقي لم تشأ له الظروف أن ينتهي نهاية سعيدة.. كبرت البنت دون أن أفرغ من تعليمي، وما أن فرغت منه حتي كان عليّ أن أبحث عن عمل خارج مصر.. فما كان من أهلها إلا أن قبلوا أول من ذهب إليهم يطلب يدها.. لم أكن قد رأيتها منذ خمس سنوات علي الأقرب، والصورة التي أحفظها لها في ذهني هي صورة فتاة حلوة الوجه لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها.. تُري كيف أصبحت؟ وكيف لي أن أواجهها؟ وعلي أي نحو سأتصرف معها؟ وما الذي سأقوله لها؟ وهل هي حقاً آتية لرؤية خطيبها أم أنها ترمي إلي شيء دفع بها إليه اليأس وخيبة الأمل؟ في الحياة أناس قد ركزوا سعادتهم، برغم قسوة الظروف، في شيء واحد فقط، جانب واحد من جوانب وجودهم تضخم وتضخم في نظرهم حتي صار هو الوجود نفسه، الدنيا بكاملها.. بعضهم اختار المال وبعضهم آثر النجاح أو الصحة مثلاً.. فقلما تراهم يحزنون إذا ما أصابهم مكروه خارج حدود هذا الجانب، بل إنهم قد لا يشعرون به، وهذه الفتاة الصغيرة كانت قد اختارت الحب علي أي شيء سواه فعلقت عليه كل آمالها وركزت فيه كل الأشياء المبتغاة، وكنت أنا الإنسان الذي أحبته.. وهآنذا الآن أدرك تماماً أنها جاءت لا لتري خطيبها، فأنا واثق أنها لا تود رؤيته طوال حياتها، بل جاءت لتثير فيَّ كل أحاسيسي القديمة لكي أحاول بدافع منها أن أمنع هذا الزواج.. وهذا أمر مستحيل مادام قد وصل إلي هذا الحد.. فأبوها قد أعطي كلمة لخطيبها، وليس من الشرف بالنسبة لرجل ريفي عندنا أن يرجع في كلمته.. وهي تعلم ذلك أيضاً.. ولكني تذكرت امرأة من أيام أمي مات ابنها الضابط في حادث سقطت فيه الطائرة التي كان يستقلها في البحر وهي عائدة من أوروبا بعد تخرجه بشهور.. غير أنها لم تصدق موته وظلت تؤكد لكل من تراه أن ابنها سيعود بعد فترة، وأخذت تهيئ له حجرته كل يوم وترسل ملابسه إلي المكوجي وترتب فراشه، وتفاضل بين الفتيات اللاتي قد رشحتهن من قبل للزواج به.. ظلت شهراً كاملاً بهذه الصورة ولم تنتقل من البيت إلا إلي مستشفي الأمراض العقلية.. أفكانت هذه الفتاة تطلق آخر صرخة يأس بهذه الزيارة علي حب لا تريد أن تصدق أنه مات، أو بالأحري قضي عليه بالموت؟ وصممت علي أن أكون رابط الجأش جداً خلال فترة إقامتها بالمنزل، وصممت أيضاً علي الذهاب إلي خطيبها لاستدعائه ليكون إلي جانبها معظم الوقت، وكذلك صممت علي أن أقضي أكبر فترة ممكنة من وقتي خارج البيت، ولكني كثيراً ما أصمم علي أشياء لا أستطيع تنفيذها مطلقاً، وهآنذا جالس علي سريري قبل أن أخرج إليها، وبيني وبينها فاصل رقيق للغاية، باب خشبي، ولست أدري إذا ما فتح هذا الباب وخرجت إليها فهل سأستطيع كبت عواطفي التي تبرزها الآن تمزقات هذه الأيام الماضية.. ربما ضممتها إلي صدري أمام الجميع وقبلتها قبلة أضع فيها كل متاعبي ومخاوفي وآلامي، وربما لم تخرج من شفتي سوي ثلاث كلمات رتيبة خالية من المعني هي: "ازيك يا صفاء".. لست أدري.. إلا أنها هي نقطة الطهر الوحيدة في حياتي.. غير أن الباب انفتح بصورة غير متوقعة ووجدتني وجهاً لوجه أمام إنسانة تعرفت في ملامحها بعد عناء شديد علي فتاة الرابعة عشرة الصغيرة التي كنت أحبها والتي قضيت معها فترة طويلة من عمري في طفولتي ومراهقتي.. إنني الآن أمام امرأة كاملة ناضجة ولم تمهلني حتي أسترد قواي التي امتصتها المفاجأة، إذ قالت لي وقد استلقت بكل شجاعة علي مقربة سنتيمترات مني فوق السرير:
- ازيك يا محمود.. ألازلت تذكرني؟
ووضعت يدها علي كتفي، وكنت لاأزال مستلقياً كما تركتني أختي منذ دقائق، ثم قربت جسمها مني أكثر من ذي قبل، وامتدت ذراعها إلي عنقي فطوقته ففقدت حساسيتي بالمرة، ورحت في شبه غيبوبة، وأصابني دوار، ولست أدري من الذي جعلني أتذكر سناء وما صنعته معي في الليلة الماضية.. لقد تحولت الفتاة الصغيرة الخجولة التي كانت تحمر وجنتاها لأبسط كلمة ثناء من رجل إلي امرأة متبجحة ترغب في غير خجل، ولا تطرف لها عين وهي تطوق شاباً في الثامنة والعشرين من عمره بذراعيها وتقرب وجهها من وجهه وتكاد تلتصق به بجسمها كله وهو راقد لا حيلة له علي فراشه غارق في الأحزان، وتخلصت منها بسرعة، ونظرت إليها نظرة عتاب صامتة دون أن أحرك شفتي بكلمة غير أن ذلك كان أشد إثارة لها فيما يبدو.. وخيل إليّ أنني ربما كنت بطلاً لقصة غريبة تكتبها المصادفات، وإلا فأي تبرير معقول لهذا الذي يحدث لي منذ عدت إلي مدينتي، وحاولت أن أجعل صوتي يبدو رزيناً وأنا أقول لها:
- أين خطيبك؟
فضحكت.. يا إلهي! إنها نفس الضحكة التي أطلقتها سناء بالأمس في الكازينو!
- من خطيبي؟
- خطيبك طه..
- طه!.. آه... في الوزارة.
- أي وزارة؟
- وزارة المالية.
وبعد قليل كان طه يجلس معنا علي الغداء.. ولست أدري أهي المصادفات وحدها التي جعلت مقعدها يكون ملاصقاً لمقعدي أم هو تدبير محكم منها لكي تواصل إثارتي هكذا أمام الجميع وفي وجود الرجل الذي سيصبح زوجها بعد أشهر.. ولكني مع ذلك ظللت طوال فترة الأكل صامتاً.. كانت انفعالات شتي، بل ومتناقضة تتجاذبني.. غير أن شيئاً منها لم يكن بادياً علي سحنتي.. هذه هي المرة الثانية التي أصبو فيها إلي لحظة جميلة شفافة، فما أكاد أصل إليها إلا وأجد الوهج الذي كان يبهرني من بعيد وقد خبا منها تماماً وأراني ازاء كائنات باردة ودنيئة أيضاً.
واستأذنت بعد الطعام ودخلت إلي حجرتي، إلا أنها لم تتركني، فسرعان ما رأيتها علي سريري.
- لماذا أنت حزين؟
- لا شيء.
- أنا أفهمك.. عندما خرجت في الصباح، وقفت في شباك حجرة الجلوس ورأيت الفتاة التي تسكن في العمارة المقابلة ونظرت إليّ بغيظ.
إنها هي السبب.. يا خائن!
- أي فتاة؟
- أي فتاة.. هه.. لست أنا التي يمكن أن تُخدع بمثل هذا الكلام.
لكن....
- ماذا؟
- ولكن.. أحبك مع ذلك.
منذ أن دخلت الفتاة إلي بيتنا لم أسمع منها كلمة واحدة.. تنطقها بإخلاص مثلما نطقت هذه الجملة الأخيرة.. لقد خيل إليّ ساعتها أنها تحولت فجأة، وبمنتهي السرعة، إلي فتاة صغيرة مشرقة الوجه ذات الأربعة عشرة عاماً.. فتاة أحفظ ملامحها في قلبي بدقة بالغة.. وكانت ساعتها كأنما تنفخ في نار خامدة في داخلي.. وما انقضت دقائق إلا وكانت مرتمية عليّ تُقبِّل كل جزء من صدري وتجذب شعري وهي تشهق، ودفعتها بعيداً عني بذراع متخاذلة، وصفقت باب الحجرة ورائي ونزلت إلي الشارع لا أدري إلي أين أذهب علي التحديد.
>>>
يسعدني كثيراً، أكثر من أي شيء آخر في الحياة، أن أستغرق في منظر العالم قبل أن تطلع الشمس بقليل.. إنها لحظة ميلاد رائعة تحتفل بها السماء وتستقبلها الأرض نفسها بصمت مهيب، كأنما المولود القادم سيكون له شأن كبير في هذه الدنيا.. هناك لون لا أستطيع أن أطلق عليها اسماً محدداً، ولكنه يذوب بدرجات متناسقة جداً في الأفق.. البيوت كلها ساكنة وما من صوت بعد، غير صوت واحد طويل متصل، لا اسم أيضاً، ولا أستطيع أن أدرك من أين ينبع فهو آت من كل مكان، كأنما يشارك الضوء القادم هناك من بعيد.. ويضمحل اللون بالتدريج، شيئاً فشيئاً، بينما تصعد حزمة من خيوط الضوء الذهبية لتندمج مع زِرِقة الشفق وبياض قطع السحب المتناثرة. هناك، في شرفة من الشرفات في حي من أحياء القاهرة، كان شاب قد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، ليس في هذه اللحظة، ولكن منذ عدة شهور، يقف بملابس نومه وقد سدد نظرات إلي الأفق البعيد.. وكانت لا تصدر عنه أي حركة: شاب لم يكن لديه عمل، ولم يكن يتمتع بالحب، وكانت الصداقة بالنسبة إليه عبئاً لا يحتمل.. ولكنه ظل مع ذلك واقفاً يستقبل هواء الصبح الرطب ومازالت نظراته عالقة بالأفق الرائع الذي يولد منه النور.
القاهرة
قصة
(إلي صديقي سليمان فياض، أدين له بإيقاظ عالم هذه التجربة في نفسي).
بلغت الثامنة والعشرين من عمري، ليس اليوم، ولكن منذ عدة شهور، تري هل يشفع لي هذا التقدم المريع في السن إذا ما قمت ببعض الأعمال الهستيرية التي قد يحكم الناس عليَّ من خلالها بالجنون. أو علي الأقل قد يكتفون بالنفور من معاملتي علي مستوي الكائنات السوية الجديرة بالاحترام؟ أعمال هستيرية؟ وما هو نوع تلك الأعمال؟ مثلا: أقوم من النوم في الصباح فأعبر صالة شقتنا حتي أصل بمنتهي السرعة إلي غرفة الجلوس، ودون أن أهتم حتي بإزالة آثار النعاس من وجهي، أسرع بفتح الشباك وأقذف برأسي إلي الخارج حتي يصبح نصفي الأعلي معلقا كله في الهواء، وأرفع عيني إلي أعلي مسددا نظرتي إلي حبل الغسيل المعلق في شرفة الشقة التي ترتفع بدورين عن شقتنا في العمارة المقابلة، وأدقق النظر، فهناك شيء ما يربطني بهذه الحبال، إن نظري ضعيف، ولكن غشاوة النوم مازالت تمنعني من رؤية الأشياء بوضوح، وأحاول جهدي أن أعد مشابك الغسيل المعلقة علي الحبال: واحد اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، اذن فالموعد في الساعة الخامسة ، تمام، وأنتظر دون جدوي أن يفتح شباك الشرفة وتطل منه بوجهها المليء بالرغبة، فأتملي منه قليلا، وأحظي بابتسامة تدغدغ رأسي، ثم بعد ذلك أعاود الرجوع إلي حجرتي فارتمي علي السرير وقد غمرني احساس شديد بالقلق؛ كيف، وأنا الانسان المثقف في سبيل ارضاء رغباتي إلي مثل هذه الطرق التي طالما كرهتها نظرت منها، بل ونددت كثيرا بما فيها من تفاهة وسطحية؟ وإذا ما صادف ورآني أحد مع سناء، بعض معارفي أو أصدقائي مثلا، فماذا افعل لهم وكيف لي بمواجهتهم، وهم الذين يعرفون شغفي الشديد والدفاع الجاد المتزمت عن الصلابة والقوة والمثل العالية؟ لاشك أن هذا يتفق بحال من الاحوال مع السنوات الثمانيس والعشرين التي احملها ويحمل المسافر بطاقته الشخصية، وقد ينخدع البعض فيقولون إن الانسان عندما يبلغ الثامنة والعشرين فإنه لا يعتبر حينئذ متقدما في السن، ولكن اسارع فأقول إن الحياة لا يكفي في قياسها الزمن، الزمن المجرد، ولكنها بالنسبة لي ولبعض الأشخاص الآخرين يقاس بالزمن المليء بالأعمال، الزمن الكثيف. وعلي هذا يجدر بي أن ألقي السؤال هكذا: ماذا صنعت أنا خلال هذه المدة من الزمن، أو بالأحري، أتيح لي أن أصنع؟.. وعندما يكون الجواب: لا شيء، أكون أنا قد تقدمت في السن كثيرا جدا، دون أن يتاح لي عمل شيء، بل وأكون قد أصبحت شخصا يرثي له، آلة تدور في الفراغ.
لا أنكر أن لي أصدقاء كثيرين، كثيرين جدا، يفوق عددهم أضعاف وسط أصدقاء أي شخص عادي. وهذا من احدي الزوايا قد يعتبر من قبيل الحظ الحسن. ولكني لأمر ما، بدأت أشعر أن ذلك ما هو إلا بعض مظاهر تعاستي. هم يقدمون لي الولاء والاحترام الكافيين لجعل أي انسان يزداد شعورا بالثقة في نفسه فيما لو حظي بمثل هذا القدر من العواطف. إلا أني، وقد تجاوزت الثامنة والعشرين من عمري، بدأت أشعر بجفاف عجيب في علاقتي بهم. جفاف في داخلي يجعلني باستمرار أحس بكثافة جسدي كلما قذفت بي الظروف في موقف مع أي منهم. وأتململ، وأراهم هم الآخرين يتململون بدورهم وكأنما قد حبست واياهم في غرفة خانقة وما علينا إلا أن نسارع بالهرب منها قدر ما نستطيع قبل أن يصيبنا الاختناق. ويكون انهاء الموقف مصحوبا بالشعور بالألم من ناحيتي علي الأقل، مهما كان الأمر تافها. وأحاول قتل هذا الشعور بكلمات الوداع الجوفاء التي أحملها انفعالات زائفة تدل علي ارتباطي بهم. وأحدد معهم موعدا آخر للقاء معتذرا عن تعبي في هذه اللحظة. وأنا وإن كنت تعبا، فإنه ذاك النوع من التعب الذي لا يمنعني بأي حال من الأحوال من الجلوس مع أي صديق والتحدث معه بطلاقة فيما إذا وجدت المبررات الكافية لذلك في نفسي. إلا أنني بعد ما ارهقني هذا النوع من الانفعالات حتي صرت لا أقوي علي القيام بأي عمل، بدأت افكر في الأمر. وليس غريبا في الواقع أن ترتبط هذه الانفعالات الأخري التي تصاحب تفكيري في سناء وأنا بعيد عنها. (عندما كنت جالسا معها كان التفكير فيها مستحيلا فقد كنت ساعتها مستغرقا في نوع من الحذر الذي يحيلني دائما إلي كائن شبه سلبي). فقد حدث أنني بعد عودتي إلي سريري ذات صباح من رحلتي القصيرة إلي شباك حجرة الجلوس، كان قلقي قد بلغ قمته. وكنت في الليلة السابقة قد قابلت عشرين صديقا، علي الأقل، وسهرنا حتي تجاوزت الساعة منتصف الليل بكثير. لم أكن أذكر بالضبط ما هي الأحاديث التي تبادلتها مع هؤلاء الأصدقاء لأنها كانت من ذلك النوع من الكلام الذي ينسي بعد قوله مباشرة ولا يتخلف منه في النفس إلا بعض المشاعر التي تؤرق الوجدان طويلا مثل الريح الكريهة التي تمر علي مكان نظيف لتمكث فيها قليلا ثم تمضي، وفتحت نوافذ حجرة غرفتي كلها واضطجعت علي الفراش بتراخ وجعلت استمتع بضوء الصباح الغامر الذي دخل إلي الحجرة في قوة. وساعتها أشعلت سيجارة وأخذت أفلسف المسألة علي هذا النحو: "الحياة يا محمود من حيث اللفظ مشتقة من فعل "يحيي" أو "يعيش" فعلان يدلان علي الحركة. وما من حركة في العالم إلا وتستهلك ما يسمي في العلم "بالطاقة". واستمرار الحركة التي هي الحياة مرهون بوجود الطاقة دوما. البنزين الذي يحرك السيارة. الحرارة التي تدفعها إلي أمام. وقد علمتك ثقافتك التي تحرص عليها دائما حرصك علي شرفك أن العلاقات الإنسانية - والصداقة بوجه خاص، أو الحب - هي الحياة في إنقي لحظاتها، الحياة الطاهرة الشفافة. والحياة في أنقي لحظاتها - في الصداقة مثلا، ولندع الحب جانبا لأن لنا معه شأنا آخر - تحتاج إلي الطاقة في أقصي صورها. ومن أين لك بهذه الطاقة يا محمود وقد استنفدت، استنفدت نهائيا علي التقريب خلال ثمانية وعشرين من الأعوام الطوال؟ لقد كنت تعمل مدرسا في العراق لأنك لم تجد عملا في مصر بعد تخرجك. وكنت تحظي بكل احترام من الناس هناك، وكنت تنفق عن سعة. ولكنك عند عودتك كاد أصدقاؤك الا يعرفوك من شدة نحولك. وكان الذبول باديا عليك مما أثار دهشة الجميع وشفقة أهلك. طبيعي اذن يا محمود أن تجلس مع صديق لك لقيته بعد غيبة مدة طويلة، عن طريق المصادفة، وكنت في الماضي قد أنفقت معه أحلي اللحظات، ثم بعد أن ينتهي حديث الترحيب والسؤال عما حدث خلال مدة الفراق هذه، تري نفسك قد فرغت جعبتك تماما، لم تعد لديك كلمة واحدة جديدة لتضيفها إلي ما فرغت من قوله. ثم تري لزاما عليك أن تقوم مدعيا الانشغال - وأنت في الواقع تشكو من الفراغ - متمنيا ان تلقاه قريبا جدا لتعاودا إحياء الصداقة التي كانت مزدهرة بينكما في الماضي".
وبقيت أخاطب نفسي مدة طويلة علي هذا النحو. ثم تتوارد علي مخيلتي جميع مواقف اللقاء التي مررت بها منذ مدة إلي القاهرة فأشعر بقليل من الضيق متمنيا لو حدثت من جديد، اذن لكنت كيفتها علي النحو الذي يرضيني. والغريب أنني بدأت ألاحظ عدم تفردي بهذا الجفاف. دعاني "شوقي" ذات مساء للقاء علي المقهي الذي كنا نلتقي فيه كل مساء أثناء فترة دراستنا. وشوقي اليوم يشغل منصبا كبيرا في التدريس رغم صغر سنه. وطالما حسدته علي هذه الطاقة العجيبة من البلادة التي يتمتع بها في مواجهته أمور الحياة. وكثيرا ما كانت هذه البلادة مثار سخرية مني حتي إنني فرحت ذات يوم بإثارته فإذا به يدافع - ربما لأول مرة في حياته - عن بلادته بانفعال شديد. ولكن، ها هو الآن يفحمني بواقع حياته المطمئن. ولست أدري اينا كان علي حق، حتي الآن. وظللنا نتحدث في هذه الأمسية طويلا. وأدهشتني نبرة المرارة التي كانت تشوب حديثه، لقد كان كأنه كتلة سوداء من اليأس. تعلقت به زميلة له كنت أعرفها وأنفر منها بشدة، إذ إنها كانت فيما بدا لي، تتستر علي حقدها العارم الموجه ضد الناس، بمظهر خادع من الفكر والثقافة والحرية. لم تكن قبيحة جدا، ولكنها كانت تدفع من يراها إلي النفور منها بسرعة شديدة. ولكنه بعد مدة تعلق بها هو الآخر، بيأس. وها هو الآن يرجم كل شيء بكلماته، حتي نفسه، حتي خطيبته سامية. قال لي يومها ونحن نحتسي أكواب الشاي ونتبادل السجائر في جو غريب من صخب زبائن المقهي وأشكالهم المتنافرة، وطرقعة زهر الطاولة بسرعة، وتعليقاتهم المرتفعة.
- ماذا بقي لنا يا محمود؟ لقد كنا ندفع الثمن في بداية عهدنا بالدراسة من الكبت والمثابرة والتغاضي عما في حياتنا من تمزق. كان أبي كما تعلم أنت جيدا يرسل لي أربعة جنيهات في الشهر أنا وأخي. تصور. كنا ندفع جنيهين منها للحجرة التي كنا نسكنها فوق سطح أحد البيوت القذرة، وكان علينا بعد ذلك أن نقضي جميع مطالب الحياة من أكل وشرب وشراء للأدوات الدراسية من الجنيهين الباقيين. تصور. لقد كنا نتحمل هذا كله. ندفع هذا الثمن الباهظ عن طيب خاطر، في سبيل الأمل الذي نسعي إليه ويبرق من بعيد في ظلمات المستقبل. يبرق فقط. ومع ذلك فقد تخرجنا، واشتغلنا، ولم يحدث أي شيء، تعقدت الأمور عن ذي قبل، وستراني بعد أيام أرضي - لا حيلة لي - بالبقاء في بيت واحد طول عمري مع وجه قبيح. ولكني أحبها مع ذلك. هيه. وهي تعبدني. تعبدني.
ومط حروف كلمة تعبدني بشكل يوحي إلي السامع بعكس ما تحمله من معني علي طول الخط. أسخرية هي، أم اشفاق، أم يأس؟ جميع هذه الانفعالات تطل برؤوسها من كل حرف من حروف الكلمة يخرجها ببطء ويتوقف عند كل مقطع ليوفيه حقه من الطاقة الصوتية وأجبته دون أن اسمح له بالاسترسال في هذا الجو الكئيب من المعاني الخانقة.
- ولكنك تملك كثيرا من الأسلحة تستطيع أن تقاوم بها كل هذه الأوضاع. لديك مثلا مركزك المطمئن في التدريس، وهو مركز يحسب عليه كثيرون ممن هم في مثل سنك. ولديك القدر الكافي من الثقافة الذي يؤهلك لفهم كثير من الحقائق. ولديك زاد من الاحترام تلقاه كلما وجد في مكان ما. وأخيرا فإنك تستطيع أن تعتمد علي "سامية" طالما هي "تعبدك" كما تقول.
وحاولت بكل جهدي أن أنطق الجملة الأخيرة بصوت محايد خال من كل انفعال، ويبدو أنني لم أفلح في ذلك كثيرا، فقد بادرني بقوله علي الفور:
- سامية ! هيه. انني سأنتحر علي صدرها. إنني أتصور نفسي الآن لا أدخل عش زوجيتنا المزعوم إلا بعد منتصف الليل، وجسمي من فرط السكر اتساند علي الجدران في الشوارع المظلمة. اسمع سأحكي لك ما حدث لي ذات مرة: عدت إلي منزلي بعد ما شربت وثرثرت كثيرا مع كل من قابلتهم من المعارف. وكنت قد دعوتها لأول مرة لزيارة في بيتي ذلك الصباح. وحاولت تقبيلها ولكنها رفضت، الملعونة ترفض. تصور. انها تتمنع. ها . ها . ها تتمنع بنت اللئيمة، أثارني هذا الموقف جدا حتي انني لم استطع أن افعل شيئا غير الهرب من نفسي، وبمجرد أن عبرت مدخل البيت - وكان ذلك في الثالثة صباحا علي التقريب - حتي رأيت الشقة الأولي في الدور الأرضي في هذا الوقت المتأخر، والباب مفتوح علي مصراعيه. وهذه الشقة يسكنها شاب في مقتبل عمره يعمل سائقا في احدي شركات الاتوبيس وله زوجة جميلة جدا في ريعان شبابها وطفلان صغيران. ولم أكن أسمع عنهما شيئا قبل اليوم علي الاطلاق منذ سكنت في الدور الثاني. كنت احيانا التقي به في مدخل البيت وأنا خارج إلي العمل في الصباح فأقوم برد التحية التي يوجهها إلي في اقتضاب بالغ، وعندما كنت اعود، كنت أري وجهها هي مطلا من فرجة الباب تنادي طفليها اللذين يلعبان في الشارع. وغالبا ما كانت صورة وجهها تظل عالقة بوجداني لمدة ساعة بعد ذلك حتي تطمسها مشاغلي التي كنت أستغرق فيها ابتداء من المساء وفي هذه المرة رأيتها - بكامل جسدها وليس بوجهها فقط - جالسة علي الأرض في صالة شقتها وقد جلس قبالتها زوجها علي كرسي من الخيزران ومد ساقيه أمامها في وعاء بينما انهمكت هي في تدليك قدميه كان وجهه شاحبا وسمعته يتأوه في صوت واهن بينما كانت هي أشد شحوبا منه. وتباطأت خطواتي من تلقاء نفسها لالتقاط تفاصيل الحديث وأنا أعبر المسافة الصغيرة من الباب حتي بداية السلم دون أن يبدو الفضول. ولكنها لمحتني، فجرت نحوي بسرعة، فحرصت علي أن أكون مبتعدا عنها بمسافة كافية لمنعها من معرفة حقيقة الحالة التي كنت عليها عن طريق الشم، وبادرتني بجرأة الذي لا حيلة له:
- أنا انتظرت حضرتك كتير، طلعت فوق وخبطت علي الباب لكن محدش رد عليّ. اعمل معروف تكتب لجوزي علشان يحولوه مستشفي الشركة.
واستردت أنفاسها قبل أن تستأنف حديثها القلق:
- أصله عيان قوي، وما قدرش يروح الشغل.
الذي استوقفني يا محمود ليس الحادث في ذاته، فكثيرا ما يتكرر أمثاله أمامي عن طريق المشاهدة أو السماع، ولكن المهم هو تلك الطريقة التي كانت تدلك بها امرأة شابة قدمي زوجها المريض في قلب الليل وليس من أحد معهما سوي الظلام في الخارج والسكون المطبق والانات الخافتة. ثم، يا محمود، تلك اللهفة التي بدت عليها عندما رأتني كأنما قد عثرت علي كنز ثمين، أو قطرة ماء بعد عناء سير طويل في صحراء محرقة، ذلك هو الذي بهرني حقا. وحاولت أن أرد عليها أن أشاركها بأي طريقة في ألمها، غير أني لم أعثر علي غير هذه الكلمات - إن شاء الله - مري علي الصبح خذي الجواب.
وعندما كانت تقول لي "كتر ألف خيرك" كنت أنا أصعد الدرج متساندا علي الحاجز الحجري ببطء شديد وكأنما قد صب علي وعاء كامل من الماء البارد فأصابتني رجفة شديدة وبدأت آثار السكر تزايلني بشكل فجائي. وخيل إلي أن هذا الرجل المريض ذا الوجه الأصفر، المتهالك علي كرسي قاس، انما يستنشق، في هذه اللحظات، انسام سعادة خفية. وعبرت في خاطري تفاصيل ما حدث لي مع سامية في الصباح، فكدت أبصق علي صورتها التي بدأت تبرز في رأسي بشكل وقح. وظللت مرتميا علي فراشي بملابسي كاملة طول الليل والدموع تنهمر من عيني دون أن أقوي علي حبسها. سامية!: آه! إني سأضمها ذات يوم، قريبا جدا، إلي صدري، كما عانقت كليوبطرة الافعي بغية الانتحار، سأنتحر علي صدرها يا صديقي. ولا مفر. إنها تريد أن تتزوج المنصب فيّ، تريد أن تشركني في تمثيلية سخيفة تبرئ بها نفسها أمام المجتمع. ولكن.. لا مفر لي منها....".
وانهمرت الدموع من عينيه مما اضطررنا إلي القيام خشية أن ينتبه إلينا زبائن المقاهي وكلهم تقريبا يعرفوننا منذ زمن طويل. وإذ لم أجد ما أرد به عليه، لم يكن لي بد من تركه لأعود إلي المنزل كي أحاول النوم لأستيقظ في الصباح علي عدة مشابك للغسيل رتبتها سناء بأناقة علي الحبال المعلقة في شرفتها لتحدد لي موعدا ألقاها فيه، كما انحدر، للحظات، إلي الخدر الذي تدفع بي إليه.
>>>
منذ عدت من القاهرة أسلمت نفسي كلية للمصادفة. قد يكون هذا جميلا، ولكن في هذه الظروف القاسية التي كنت مارا بها، لم يكن من الأوفق أن أترك نفسي علي سجيتها هكذا، وأسلم زمامي إلي الحوادث تشيلني وتحطني كما شاءت. قد يكون السبب أني كنت مشتاقا جدا إلي كل ما في القاهرة، كنت اريد أن امتعها ذرة ذرة بوجداني المتعطش لاطمئن نفسي إلي انني لم افقدها إلي الابد كما كان يخيل إلي في ليالي غربتي القاسية، فأصاب بالذعر، وأعكف علي الشراب والبكاء. وقد تكشفت لي خطورة هذا الوضع. عندما انسقت وراء ابتسامة سقطت علي من شرفة سناء ذات صباح فلم أستطع أن اصمد أمامها لفرط اشتياقي إلي صحبة امرأة، أية امرأة، لقد رسمت لي موعدا بمشابك الغسيل. وكان ما يشغلني في هذا الوقت هو كيف سأستطيع أن أعاود الحياة في القاهرة من جديد، وكنت أدرس جميع الوسائل العملية التي يمكن أن توصلني إلي ذلك. وعلي خطورة هذا الموضوع بالنسبة لحياتي كلها: في الحاضر، وفي المستقبل، وكذلك في الماضي أيضا، إلا أنني نسيته تماما عندما انفرجت شفتان مكتنزتان ورسم انفراجهما علي البعد ابتسامة دعوة، وتألقت عينان سوداوان جميلتان وقالتا لي كثيرا من الكلام. ولم أفكر يومها في شيء آخر غير لقائها. وظللت قبل موعدها بساعات أدبر في رأسي كل ما سأفعله معها خلال جلوسي إليها وكل ما سأقوله لها بالتفصيل. وعندما كنا ننزل درجات السلم المؤدي إلي حديقة الكازينو المطل علي النيل، عثرت قدمها وكنت متأخرا عنها بدرجة فإذا بها تسقط علي صدري، ورأسها، بالشعر الغزير المعطر الذي يكسوه، مدسوس تحت أنفي مباشرة. ولففت ذراعي حول خصرها ودفعتها إلي الأمام بكل قوتي حتي لا تسقط وأسقط أنا معها. فإذا بها تعمدت هذه العثرة كي أفعل انا هذا الذي فعلته. وتلاقت عينانا ونحن نعاود النزول فتأكدت ساعتها تأكدا تاما من صدق هذا الخاطر الذي مر بي.
وعندما كانت جالسة قبالتي علي المائدة المغطاة بمفرش طويل ينزل مسترسلا حتي يكاد يلامس الأرض، أحسست أنها تقترب بصدرها من حافة المائدة أكثر فأكثر حتي التصقت تماما بها وثبتت كوعيها عليها بينما أسلمت رأسها إلي كفيها وهي تنظر إليّ. وبعد قليل شعرت بساقها من تحت المائدة، تلتف بساقي وتضغط عليها بشدة. لم يكن في نظراتها أي خجل. واستحوذ علي ارتباك عنيف حتي شعرت بقطرات من العرق تتجمع علي جبيني في بطء وأخرجت منديلا أجفف به وجهي بينما بدأت هي الكلام بقولها:
- أتدري ما الذي أريده أنا من هذه الحياة؟ إنني لا أبتغي سوي الرجل.. الرجل ولا غير.. لقد طلقني زوجي منذ سنة لأنه كان يغار عليّ، أبله! وهأنذا اليوم قد مضت علي سنة طويلة وأنا محبوسة في المنزل مع أمي وأخي المتزوج لا أكف طول النهار عن الشجار مع زوجته. وهم ثلاثتهم يحصون علي كل حركة أقوم بها كما لو كنت موشكة علي ارتكاب جريمة في كل لحظة. اسمع. أنا لا أريد زوجا، ولا حبيبا، ولا أي شيء آخر من هذا النوع. أريد فقط رجلا.. عشيقا!
لها حولوا نظراتهم إلينا من أجلها.. بينما كنت أنا منهمكاً بكليتي في تجفيف عرقي أحرك يدي القابضة علي المنديل بشكل آلي ابتداء من جبهتي حتي أدني ذقني، ومستسلماً للخدر اللذيذ الذي يحدثه احتكاك ساقها بساقي من تحت المائدة.
واستأنفت قولها:
- هل ستظل مع أهلك دائماً؟
واستجمعت طاقتي لأجيب عليها:
- لا.. أنني انتظر حتي أحصل علي عمل ثم أنفصل عنهم لأسكن وحدي، فأنا بحاجة إلي الوحدة لكي أواصل إتمام مشاريعي التي أعددتها للمستقبل.
- وأين ستسكن؟
- لست أدري حتي الآن.
- أرجو أن تحرص علي أن يتوفر في سكنك الجديد هذا شرطان: أن يكون بعيداً في وسط المدينة، وأن يكون كذلك في حي صاخب.
ولم أستطع أن أفهم مغزي هذا الطلب إلا بعد قليل، فقد سألتها:
- ولِمَ هذه الشروط؟
فأطلقت نفس الضحكة العالية وهي تقول:
- ألم تفهم وحدك.. إنك ساذج!
فارتبكت مرة أخري بصورة قوية، ولكني تذرعت بالهدوء وقلت لها:
- لم أفهم.. إنني أريد حياً هادئاً يصلح للعمل.. فلماذا هذه الشروط؟
- لكي أستطيع زيارتك دون أن يراني أحد!
وعندئذ أدركت ضرورة فراري من هذا الموقف بأسرع ما يمكن.. لم أكن أبتغي الجلوس إلي أنثي.. محض أنثي لا تبتغي من حياتها شيئاً سوي الرجل.. كنت أريد فتاة رقيقة سحرتني في الصباح ببسمتها وتألق عينيها لأجلس معها قليلاً فأحظي بشيء من الراحة وهدوء البال وربما.... ربما استطعت بعد تكرار لقائي معها أن آنس إليها أكثر فأحظي في النهاية بإنسانة تحبني وأحبها.. ما كان أشد خيبتي! وما شعرت بعدها إلا وأنا أدفعها أمامي إلي الخارج بقوة ونظرات الناس تلاحقنا، وسمعتها تقول، وأنا أودعها علي محطة الأتوبيس:
- ماذا جري لك؟
- لا شيء.. مجرد تعب بسيط يحدث لي أحياناً.
- مسكين!
قالتها بسخرية حتي قررت أن أحسم الأمر بأسرع ما أستطيع، فقلت لها بعصبية والمنديل مازال عالقاً بيدي:
- مع السلامة.
- ومتي سأراك ثانية؟
- قريباً.. قريباً..
قلت ذلك وأنا أسارع بالابتعاد كأنما أجري، أفر من شيء مفزع، وعدت إلي البيت، وكان أول شيء فعلته هو أن أغلقت شباك حجرة الجلوس، وأنزلت عليه ستارة لم تكن تنزل عليه أبداً مع أنها موجودة منذ زمن طويل، وجلست خلفه علي كرسي مريح أجفف عرقي ودموعي حتي الصباح.
> > >
غير أن الصباح كان يحمل لي مفاجأة جديدة، بينما كنت قد عقدت العزم نهائياً علي ألا تكون دموع المساء قد جفت إلا ويكون القلق الذي استحوذ علي نفسي قد تبخر نهائياً ورجعت إلي حالة من الصفاء تؤهلني لبداية مرحلة جديدة من حياتي.. ولكن الدموع آثرت أن تتخذ من هذه المصادفة الجديدة معيناً لا ينضب، وظللت أبكي بعد ذلك بلا انقطاع لمدة ثلاثة أيام.. ثلاثة أيام طوال.
كنت مستغرقاً في دفء الفراش استغراقاً كلياً وقد أخذني ذلك الخدر اللذيذ الذي يسيطر عليّ في تلك اللحظات علي الدوام كلما تصادف ونمت متأخراً، وسمعت طرقات علي باب الحجرة ولم يمهلني الطارق حتي أرد عليه، إذ سمعت صرير الباب وهو ينفتح برفق وصوت أختي الكبري يصافح أذني وهي علي مسافة قريبة جداً من رأسي:
- محمود! محمود!
وتقلبت في الفراش علي جانبي الآخر مولياً ظهري إليها دون أن أرد، لأنني كنت متعباً للغاية وأريد أن أستأنف النوم دون إزعاج.. غير أنها كانت فيما تبدو متلهفة علي إيقاظي بأي ثمن.
- محمود.. افتح يا محمود.. صفاء هنا.
كان صوتها خافتاً كالهمس عندما قالت لي هذه الجملة الأخيرة وهي تهزني من كتفي برفق، ولكنه كان واضحاً غاية الوضوح، ولا مفر من قبول الحقيقة دون أي محاولة للتهرب.. لقد سمعت بالذات الجملة الأخيرة بكل حرف من حروفها: "صفاء هنا".. وكأنما ذابت الحروف وتحولت إلي سائل ناري أخذ يجري في عروقي مع الدم.. وفتحت عيني علي أقصي ما تكون سمعتهما وقذفت الغطاء بعيداً بركلة من قدمي، واستويت جالساً علي السرير وجذبت أختي من يدها فأجلستها إلي جواري، بعد أن كانت هي من تلقاء نفسها قد أدركت ما أنا فيه.
وأطلقت ضحكة خُيِّل إليَّ أن جميع رواد الكازينو قد سمعوها ودهشوا.
فتحت الباب، وقلت لها مفزوعاً:
- ماذا حدث؟
ــ أقول لك صفاء هنا، ألا تسمع.. وصلت حالاً.
ــ وماذا جاء بها؟
ــ جاءت تقابل خطيبها وتمكث معنا قليلاً.. عدة أيام.
ــ وخطيبها معها الآن؟
ــ لا..
لم أرد عليها.. غير أنها قامت وخرجت في هدوء بعد أن أغلقت الباب وراءها وخلفتني وحدي، وتذكرت في الحال الخطاب الذي أرسلته لي وأنا في العراق.. فقد قالت لي فيه بكلمات ساذجة "إنني سأتزوج آخر غيرك، ولكنك ستظل أطيب إنسان عرفته في حياتي" لم تكن متاعب السهر في الليلة الماضية قد زالت آثارها من جسمي تماماً، ذلك لأنني لم أحظ بأكثر من ساعتين قضيتهما نهباً للأحلام المفزعة، لذا أحس بأن أعضائي كلها وكأنها قد انفصلت عن بعضها واستقل كل عضو بذاته استقلالاً تاماً.. كانت الأيام الأخيرة هذه قد سلبتني من وهج الحياة، ولذلك كان الشعور المسيطر عليّ بشكل واضح هو أنني أضمحل، أتبخر شيئاً فشيئاً.. وبالرغم من أن خبر وجود صفاء بالبيت قد أثارني جداً، إلا أنني بعد قليل استشعرت لها طعماً آخر للغاية في وجداني.. إنها قريبتي، وهي الإنسانة الوحيدة التي لي معها تجربة حب حقيقي لم تشأ له الظروف أن ينتهي نهاية سعيدة.. كبرت البنت دون أن أفرغ من تعليمي، وما أن فرغت منه حتي كان عليّ أن أبحث عن عمل خارج مصر.. فما كان من أهلها إلا أن قبلوا أول من ذهب إليهم يطلب يدها.. لم أكن قد رأيتها منذ خمس سنوات علي الأقرب، والصورة التي أحفظها لها في ذهني هي صورة فتاة حلوة الوجه لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها.. تُري كيف أصبحت؟ وكيف لي أن أواجهها؟ وعلي أي نحو سأتصرف معها؟ وما الذي سأقوله لها؟ وهل هي حقاً آتية لرؤية خطيبها أم أنها ترمي إلي شيء دفع بها إليه اليأس وخيبة الأمل؟ في الحياة أناس قد ركزوا سعادتهم، برغم قسوة الظروف، في شيء واحد فقط، جانب واحد من جوانب وجودهم تضخم وتضخم في نظرهم حتي صار هو الوجود نفسه، الدنيا بكاملها.. بعضهم اختار المال وبعضهم آثر النجاح أو الصحة مثلاً.. فقلما تراهم يحزنون إذا ما أصابهم مكروه خارج حدود هذا الجانب، بل إنهم قد لا يشعرون به، وهذه الفتاة الصغيرة كانت قد اختارت الحب علي أي شيء سواه فعلقت عليه كل آمالها وركزت فيه كل الأشياء المبتغاة، وكنت أنا الإنسان الذي أحبته.. وهآنذا الآن أدرك تماماً أنها جاءت لا لتري خطيبها، فأنا واثق أنها لا تود رؤيته طوال حياتها، بل جاءت لتثير فيَّ كل أحاسيسي القديمة لكي أحاول بدافع منها أن أمنع هذا الزواج.. وهذا أمر مستحيل مادام قد وصل إلي هذا الحد.. فأبوها قد أعطي كلمة لخطيبها، وليس من الشرف بالنسبة لرجل ريفي عندنا أن يرجع في كلمته.. وهي تعلم ذلك أيضاً.. ولكني تذكرت امرأة من أيام أمي مات ابنها الضابط في حادث سقطت فيه الطائرة التي كان يستقلها في البحر وهي عائدة من أوروبا بعد تخرجه بشهور.. غير أنها لم تصدق موته وظلت تؤكد لكل من تراه أن ابنها سيعود بعد فترة، وأخذت تهيئ له حجرته كل يوم وترسل ملابسه إلي المكوجي وترتب فراشه، وتفاضل بين الفتيات اللاتي قد رشحتهن من قبل للزواج به.. ظلت شهراً كاملاً بهذه الصورة ولم تنتقل من البيت إلا إلي مستشفي الأمراض العقلية.. أفكانت هذه الفتاة تطلق آخر صرخة يأس بهذه الزيارة علي حب لا تريد أن تصدق أنه مات، أو بالأحري قضي عليه بالموت؟ وصممت علي أن أكون رابط الجأش جداً خلال فترة إقامتها بالمنزل، وصممت أيضاً علي الذهاب إلي خطيبها لاستدعائه ليكون إلي جانبها معظم الوقت، وكذلك صممت علي أن أقضي أكبر فترة ممكنة من وقتي خارج البيت، ولكني كثيراً ما أصمم علي أشياء لا أستطيع تنفيذها مطلقاً، وهآنذا جالس علي سريري قبل أن أخرج إليها، وبيني وبينها فاصل رقيق للغاية، باب خشبي، ولست أدري إذا ما فتح هذا الباب وخرجت إليها فهل سأستطيع كبت عواطفي التي تبرزها الآن تمزقات هذه الأيام الماضية.. ربما ضممتها إلي صدري أمام الجميع وقبلتها قبلة أضع فيها كل متاعبي ومخاوفي وآلامي، وربما لم تخرج من شفتي سوي ثلاث كلمات رتيبة خالية من المعني هي: "ازيك يا صفاء".. لست أدري.. إلا أنها هي نقطة الطهر الوحيدة في حياتي.. غير أن الباب انفتح بصورة غير متوقعة ووجدتني وجهاً لوجه أمام إنسانة تعرفت في ملامحها بعد عناء شديد علي فتاة الرابعة عشرة الصغيرة التي كنت أحبها والتي قضيت معها فترة طويلة من عمري في طفولتي ومراهقتي.. إنني الآن أمام امرأة كاملة ناضجة ولم تمهلني حتي أسترد قواي التي امتصتها المفاجأة، إذ قالت لي وقد استلقت بكل شجاعة علي مقربة سنتيمترات مني فوق السرير:
- ازيك يا محمود.. ألازلت تذكرني؟
ووضعت يدها علي كتفي، وكنت لاأزال مستلقياً كما تركتني أختي منذ دقائق، ثم قربت جسمها مني أكثر من ذي قبل، وامتدت ذراعها إلي عنقي فطوقته ففقدت حساسيتي بالمرة، ورحت في شبه غيبوبة، وأصابني دوار، ولست أدري من الذي جعلني أتذكر سناء وما صنعته معي في الليلة الماضية.. لقد تحولت الفتاة الصغيرة الخجولة التي كانت تحمر وجنتاها لأبسط كلمة ثناء من رجل إلي امرأة متبجحة ترغب في غير خجل، ولا تطرف لها عين وهي تطوق شاباً في الثامنة والعشرين من عمره بذراعيها وتقرب وجهها من وجهه وتكاد تلتصق به بجسمها كله وهو راقد لا حيلة له علي فراشه غارق في الأحزان، وتخلصت منها بسرعة، ونظرت إليها نظرة عتاب صامتة دون أن أحرك شفتي بكلمة غير أن ذلك كان أشد إثارة لها فيما يبدو.. وخيل إليّ أنني ربما كنت بطلاً لقصة غريبة تكتبها المصادفات، وإلا فأي تبرير معقول لهذا الذي يحدث لي منذ عدت إلي مدينتي، وحاولت أن أجعل صوتي يبدو رزيناً وأنا أقول لها:
- أين خطيبك؟
فضحكت.. يا إلهي! إنها نفس الضحكة التي أطلقتها سناء بالأمس في الكازينو!
- من خطيبي؟
- خطيبك طه..
- طه!.. آه... في الوزارة.
- أي وزارة؟
- وزارة المالية.
وبعد قليل كان طه يجلس معنا علي الغداء.. ولست أدري أهي المصادفات وحدها التي جعلت مقعدها يكون ملاصقاً لمقعدي أم هو تدبير محكم منها لكي تواصل إثارتي هكذا أمام الجميع وفي وجود الرجل الذي سيصبح زوجها بعد أشهر.. ولكني مع ذلك ظللت طوال فترة الأكل صامتاً.. كانت انفعالات شتي، بل ومتناقضة تتجاذبني.. غير أن شيئاً منها لم يكن بادياً علي سحنتي.. هذه هي المرة الثانية التي أصبو فيها إلي لحظة جميلة شفافة، فما أكاد أصل إليها إلا وأجد الوهج الذي كان يبهرني من بعيد وقد خبا منها تماماً وأراني ازاء كائنات باردة ودنيئة أيضاً.
واستأذنت بعد الطعام ودخلت إلي حجرتي، إلا أنها لم تتركني، فسرعان ما رأيتها علي سريري.
- لماذا أنت حزين؟
- لا شيء.
- أنا أفهمك.. عندما خرجت في الصباح، وقفت في شباك حجرة الجلوس ورأيت الفتاة التي تسكن في العمارة المقابلة ونظرت إليّ بغيظ.
إنها هي السبب.. يا خائن!
- أي فتاة؟
- أي فتاة.. هه.. لست أنا التي يمكن أن تُخدع بمثل هذا الكلام.
لكن....
- ماذا؟
- ولكن.. أحبك مع ذلك.
منذ أن دخلت الفتاة إلي بيتنا لم أسمع منها كلمة واحدة.. تنطقها بإخلاص مثلما نطقت هذه الجملة الأخيرة.. لقد خيل إليّ ساعتها أنها تحولت فجأة، وبمنتهي السرعة، إلي فتاة صغيرة مشرقة الوجه ذات الأربعة عشرة عاماً.. فتاة أحفظ ملامحها في قلبي بدقة بالغة.. وكانت ساعتها كأنما تنفخ في نار خامدة في داخلي.. وما انقضت دقائق إلا وكانت مرتمية عليّ تُقبِّل كل جزء من صدري وتجذب شعري وهي تشهق، ودفعتها بعيداً عني بذراع متخاذلة، وصفقت باب الحجرة ورائي ونزلت إلي الشارع لا أدري إلي أين أذهب علي التحديد.
>>>
يسعدني كثيراً، أكثر من أي شيء آخر في الحياة، أن أستغرق في منظر العالم قبل أن تطلع الشمس بقليل.. إنها لحظة ميلاد رائعة تحتفل بها السماء وتستقبلها الأرض نفسها بصمت مهيب، كأنما المولود القادم سيكون له شأن كبير في هذه الدنيا.. هناك لون لا أستطيع أن أطلق عليها اسماً محدداً، ولكنه يذوب بدرجات متناسقة جداً في الأفق.. البيوت كلها ساكنة وما من صوت بعد، غير صوت واحد طويل متصل، لا اسم أيضاً، ولا أستطيع أن أدرك من أين ينبع فهو آت من كل مكان، كأنما يشارك الضوء القادم هناك من بعيد.. ويضمحل اللون بالتدريج، شيئاً فشيئاً، بينما تصعد حزمة من خيوط الضوء الذهبية لتندمج مع زِرِقة الشفق وبياض قطع السحب المتناثرة. هناك، في شرفة من الشرفات في حي من أحياء القاهرة، كان شاب قد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، ليس في هذه اللحظة، ولكن منذ عدة شهور، يقف بملابس نومه وقد سدد نظرات إلي الأفق البعيد.. وكانت لا تصدر عنه أي حركة: شاب لم يكن لديه عمل، ولم يكن يتمتع بالحب، وكانت الصداقة بالنسبة إليه عبئاً لا يحتمل.. ولكنه ظل مع ذلك واقفاً يستقبل هواء الصبح الرطب ومازالت نظراته عالقة بالأفق الرائع الذي يولد منه النور.
القاهرة