كتاب كامل جورج سلوم - الفصل الثاني من رواية عنق الزجاجة

وفي اليوم الثاني أحضر معه ساعةً رملية ووضعها على الطاولة عينها .. وبدأت حُبيبات الرّمل تخرّ رويداً .. وتكرّ تباعاً مخترقة عنق الزجاجة ..

وقالت ضاحكة :

- جلستنا اليوم موقوتة على ما يبدو ..

- لا يهمّكِ .. نصفُ ساعةٍ فقط ستمرّ .. وسأقلب الزجاحة الرملية بعدها والجلسة قابلة للتمديد .. إنما أتيتكِ بها فقط لتنظري إلى عنق الزجاجة .. نحن الآن هنا .. انظري إلى حبّات الرمل تتسابق للعبور وعنق الزجاجة يسمح بمرور واحدة فقط .. وبعده انفراجٌ وانعتاقٌ من القيد .. ولكنّهم لا يتركونها تهنأ بالرسوّ في القاع إذ يسارعون إلى قلب الزجاجة .. ومن مرّ أخيراً قد يمرّ الآن أولاً .. وهكذا يقلبون عاليها واطيها

قال ذلك .. وتركها تخضخض في الساعة الرملية كلعبةٍ في يد طفل .. وقالت :

- فلنبطحها إذن .. ونترك الزمن يتوقّف .

- لن يتوقّف إلا زمنك كطريقة أهل الكهف

- مسكينة حبّات الرمل هذه .. كأني أراها محبوسة في غرفتين اثنتين وتقضي حياتها في الجري من غرفة إلى أخرى .. ولا سبيل إلا كسر قمقمها فتربح حرّيتها



قال وكأنه اعتلى منبراً :

-كانت حبيبات الرمل هذه حرّة على شاطئ البحر فيما مضى .. تلفحها الشمس وتدعكها الموجة مدّاً وجزراً وتسترطب بها .. فحبسوها هنا وبدؤوا بتقليبها ..لتستمرَّ في كفاحٍ أبديّ للمرور من هذا البرزخ العصيب .. طالبةً الحرّية والهواء النقي ..وتقول لهم متوسّلة كفاكم تقليباً للمواجع .. لكنّ الوقت لا يرحم .. والساعة الرملية هناك موظف يقلِبها دورياً .. والحصارُ خانقٌ داخلَها إذ أنها غالباً ما تكون مُفرَغة من الهواء .

- طيّب .. ألا تنفجر تلك الزجاجة يوماً بالحراك الدائم والضغط المتولّد ضمنها .. كإحدى المعلّبات الفاسدة محصورة بالحديد ومع ذلك تنتفخ وتنفجر بضغط جراثيمها .. والحديد لن يقوى عليها

- وأنتِ قلتِ ذلك .. يجب أن تكون الحبيبات فاسدة ..ملوّثة .. وعندها ستتكاثر جراثيمها اللاهوائية وتولّد غازاً خانقاً يتفجّر كغاز الميتان الانفجاريّ ..

إنهم ينتقون الحبيبات النظيفة التي لا سوابق لها .. يغربلونها .. يطحنونها في مطاحنهم لتصبح ناعمة وأليفة .. ثم يشوونها في أفرانهم لتصبح نقية .. وطاهرة .. وهي من ستخضع للعبة الساعة الرملية ..ويقلِبونها ويقلّبونها فلا صوتَ لها .. ولا تتكدّس ولا تتجمّع ولا ترفض الانصياع للثقل ..

وتدور بها الساعات كحمارٍ ربطوه إلى دوّامة بئر .. ويدور ويدور .. ويأكل ويشرب ويتغوّط وهو يدور ناسياً نفسه .. ولا داعٍ لأنْ تضربه ليدور .. لأنه حمار .. ولن يعرف الليل من النهار وأحياناً يكفّون بصره بحجابٍ جلدي .. وما إن يربطون النّير إلى عنقه حتى يسير لوحده ..ويدور صامتاً .. حتى أنه لن ينهق والنهيقُ مؤلمٌ تحت النير الذي ينوء به .. لأنه يتطلّب رفع رأسه !

قالت :

- نعم .. أذكر أنني شاهدْتُ ذلك .. ولماذا يكفّون بصره ؟

- يخافون أن يرى أنثاه فيتذكّر أنه ذكر .. والذكر عليه واجباتٌ أخرى غير حمل الأثقال وجرّها !

قال ذلك وضحكا معاً .. ووضعت الساعة الرملية في حقيبتها كهدية ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى