جودت جالي - حدث ذات صباح في بغداد.. (قصة مبنية على وقائع حقيقية)

لم تغمض له عين طوال الليل ، ولم ينهض من الكرسي الحديدي، وكل ما كان يفعله هو التحرك في جلسته قليلا وتغيير اتجاهها، أو وضع ذراعيه على المنضدة الخشبية وإسناد رأسه عليهما. لم يفتح أحد الباب منذ أن غادر آخرهم بالأمس ليلا. خشي أن يفاجئه أحدهم وهو يتمشى في الغرفة فيكون قد أعطاهم الحجة لتوجيه الصفعات والركلات اليه من جديد خصوصا أنهم ولا شك مستفزو الأعصاب جميعا، فالقصف ليلتئذ أشد من الليالي السابقة وكان يشاهد من الشباكين المستطيلين في أعلى جدار الغرفةِ مطفأةِ المصابيحِ سوادَ الظلمة يتحول الى قرمزي وامض ثم يعقبه صوت الإنفجار الذي يخيل اليه أحيانا أن رجعه يدك الأرض تحت قدميه دكا حتى لقد أصابه الفزع مرات عندما كان يسمع بين الحين والآخر إنفجارا قويا الى درجة يظن معها أن القنبلة سقطت على بناية دائرة الأمن حيث يحتجزونه.

خيمت على حواسه رائحة كريهة كأنها تنبعث من مجمع قريب للمياه الثقيلة أو بالوعة كبيرة مكشوفة، وهو في وجومه، متصبب العرق، تتخبط عيناه على الجدران التي يخشى أن تنهار عليه في أية لحظة. صلته الوحيدة بالخارج هو ذلك النباح الذي يتحول الى عواء طويل مرعوب يطلقه كلب من مكان خلف سياج الدائرة العالي وتجاوبه كالأصداء المتباعدة كلاب مرعوبة في قيامة ليلية تتساقط حمما من سماء لازوردية. لا يسمع صوت بشر، لا غير هذا المولول العاوي.

الأصوات التي سمعها بعد أن أغلقوا الباب، تارة أقدام تروح وتجيء في الممر، وأحيانا كلمات يتبادلها شخصان، ومرة طقطقات ووشوشة جهاز، إختفت تدريجيا ولم يعد يسمع شيئا. نظر الى الباب، باب خشبي وليس حديديا كباب الغرفة الصغيرة التي حبسوه فيها أياما طويلة لم يعد يعرف عددها ولم يشاهد فيها معتقلا غيره، ينام فيها على فراش مكون من بطانيتين، بطانية عتيقة يفترشها وبطانية أخرى أفضل منها حالا يتغطى بها ويتوسد وسادة خشنة الملمس. تركوه فيها لا يرى منهم أحدا إلا حين يأتون له بطعام من بقايا ما يأكلون أو يقدمون له شطيرة فلافل، أو حين يخرجونه كل يوم صباحا ليقضي حاجته وعليه أن يضبط هذه المهمة البايولوجية وفق توقيتهم.

إستدعوه مرات لتسجيل المعلومات الشخصية دون أن يبلغوه بسبب إعتقاله. هي الأسئلة نفسها كل مرة مع تغيير بسيط أو سؤال إضافي عن إسم صديق مقرب أو نوع الكتب التي يحب قراءتها، قال للضابط أنه لا يوجد عنده صديق مقرب ولا يحب نوعا محددا من الكتب فنظر اليه الضابط وقد إحمر وجهه اليقطيني غضبا وقال:

-هل أنت غبي أم تتغابى؟ لا صديق مقرب ولا نوع محدد من الكتب! أي جواب هذا؟ حين أستدعيك مرة أخرى أريد قائمتين كاملتين بأسماء الأصدقاء وعناوين الكتب.

وأمر بإعادته الى الغرفة.

كان يراوده طوال الوقت إحساس غريب بأن تعاملهم مع قضيته ليس بالإهتمام المعروف في قضايا أمنية يفترض أن قضيته تندرج ضمنها. رجح أن الظرف، الحرب وما تفرضه من أولويات طارئة، هو السبب.. لا وقت لديهم يضيعونه على شخص مثله وقضية مثل قضيته، وهذا هو مبعث قلقه، فمن المستبعد في القضايا الأمنية أن يطلقوا سراح أحد ويخشى أن يقرروا في لحظة ما أن يتركوه لمصيره في سرداب ليهلك هلاكا بطيئا. حين وضعوه أخيرا في هذه الغرفة العارية إلا من كرسي ومنضدة وأخذوا يوجهون اليه الأسئلة أصبح أقرب الى اليقين من أن الذين كانوا يحققون معه لا تهمهم نتيجة التحقيق وحين يضربونه فإنهم يتسلون بإهانته لا أكثر، ما زاد من مخاوفه. راوده أمل في أن يهتموا باتهامه أية تهمة ويحيلوه الى المحكمة ليطمئن الى أنهم لن يسلموه الى موت مجاني لا يترك له أثر، بينما الذهاب الى السجن ينطوي على إحتمال أن يستعيد حياته.

أعتقل قبل بداية القصف بأسبوع وهو في طريق عودته من مبنى الجريدة بعد إن إستلم مكافأة القصة، ولذلك هو لا يعرف ماذا حل من خراب خارج هذا المكان وماذا حل بأهله. أحيانا يتساءل عن مصير المحرر الذي نشر له القصة والذي تردد أسابيع قبل أن يقرر نشرها في عدد الجريدة الذي يصدر يوم الجمعة مقدرا أن الجريدة لا يقرأها المسؤولون في ذلك اليوم وستمر القصة دون أن تثير إنتباها.

لكنها أثارت الإنتباه.

ظل ينظر الى الباب ساكنا فيما السماء تستعيد من السواد الحالك زرقتها، وتخف أصوات الانفجارات، شيئا فشيئا، دون أن يسمع صوت مؤذن يؤذن لصلاة الفجر أو ما يوحي بأن حياة دبت في الشوارع خارج هذا المبنى، أو داخله. هزه الشوق لسماع أي شيء يذكره بالحياة في الخارج، بالحياة العادية قبل إعتقاله وقبل القصف، ولو أنه فقط سمع مؤذنا يؤذن لصلاة الفجر لهدأت نفسه قليلا، ولكنه بعد دقائق أحس بشحطة خارج الغرفة صادرة من شخص ينهض عن كرسي أو يسحب شيئا، ثم خطوات على البلاط، وبعدها توقف ظِلٌ يعكسه مصباح الممر أمام الباب قبل أن يسمع صوت المفتاح يدور في القفل. ظهر أمامه الرجل الذي تولى أولا التحقيق معه بالأمس ووجه اليه أكثر الصفعات إيلاما. تركزت أسئلة التحقيق التي كررها عليه بالأمس، هو ومن بعده، على معنى النص الذي ترجمه من الإنكليزية ونشره في الجريدة. لم يكن يملك من دفاع عن نفسه سوى أن القصة أجنبية وكاتبها أجنبي مات منذ زمن بعيد ولا يمكن أن تنطوي على شيء له علاقة بالعراق. برغم ما لقيه من إهانات لم يفتأ في قرارة نفسه يردد «إذا بقيتْ على حد الصفع والركل نعمة» لما سمعه وقرأه عن وسائل التعذيب الوحشية التي يتعرض لها الموقوفون في مثل هذه الأماكن.

انكمش كيانه كله عندما رأى الرجل الطويل ذا القوام الرياضي أمامه، ولكنه لاحظ أنه ترك الباب مفتوحا على سعته ووقف بعد أن تجاوزه وهو يضع سيجارة في فمه ويسحب منها نفسا عميقا ناظرا اليه بتفكر. لم يستشف من وضع رجل الأمن ما ينبئ بأن تحقيقا سيبدأ، لا بل أنه، وهو يتفحصه متوجسا خائفا، أخذ يشعر أن نهاية ما على وشك.

ألقى الرجل عقب السيجارة في الزاوية القريبة من الغرفة. تأنى كمن يجد صعوبة فيما سيقول وهز رأسه هزة خفيفة:

-حظك عدل...

ثم أضاف:

-لقد نجوت من حكم بالسجن إن لم يكن بالإعدام... ليس هذا فقط بل ستخرج من هنا وتعود الى أهلك أيضا..

وجال ببصره حوله ثم رفعه الى السقف:

-قد يتعرض هذا المبنى الى القصف في أية لحظة....

بذل جهدا ليبتسم إبتسامة مستهينة ويتابع قائلا:

-.... لقد أمر الضابط قبل الإنتقال الى المكان البديل أن أتركك تذهب، إنسحب الجميع من الدائرة... لا يوجد غيرنا نحن الإثنان... أنا وأنت. أنت حر الآن.... يمكنك الذهاب....

وأشار له بيده اليمنى يدعوه للذهاب لكنه لم يتحرك من مكانه بل ظل ينقل بصره ما بين الرجل والباب المفتوح وهو يتساءل في سره إن كان يخدعه أو يهزأ به لا أكثر. رأى كيف تتسع الإبتسامة المستهينة متحولة الى تكشيرة:

-لك الحق أن تخاف... أصبح السير في الشوارع خطرا الآن، ولا توجد وسيلة نقل توصلك الى أهلك... من المحتمل أن تقتل....

شعر أن في كلامه نبرة خبث، بل نبرة سرور، لأنه عاجز عن الخروج من دائرة الأمن، ولكن تردده من الخروج لأنه في الحقيقة خائف مما قد يحدث له هنا وليس في الشارع إذا ما قام وحاول المرور من الباب ورجل الأمن واقف هناك ينتظر منه الإقتراب ليقوم بضربه وركله، وإلا لماذا لا يزال هنا ولا يذهب الى حيث ذهب زملاؤه كما يدعي؟

-حسن. ما دمت لا تشعر الآن برغبة في الإنطلاق نحو الحرية كما تعبرون...

ضحك ضحكة قصيرة مبتورة وحدجه بعينين واسعتين تبدوان رماديتين:

-.... لا يزال لدي شيء من فضول المحققين بشأن قضيتك. هلا أخبرتني الحقيقة ونحن على وشك أن نفترق وربما لن يرى أحدنا الآخر بعد الآن...

سكت لحظة وهو يفتش في باله عن أنسب الكلمات ليقول ما بدا له أنه لا مفر من قوله:

-فلنكن صريحين.... الوضع خطير جدا ولم ير السيد المدير أن قضيتك تستحق الإهتمام في هذا الظرف. ما أريد أن أقوله هو أنه لم تعد توجد حكومة تقريبا، ولم يعد يوجد من يحاكم ومن يسجن، ويمكنك أن تتحدث كما تشاء... ما هذه القصة الغريبة التي ترجمتها وفي هذا الوقت بالذات.. حاكم يلقبونه بمولانا وسيدنا يسيطر على حياة المثقفين أمثالك ويجعلهم كالآلات فاقدي الإرادة والمشاعر.... ماذا كان عنوان القصة؟

أجاب وهو يغالب الدوار وخدر السهر في رأسه:

-الكُتّاب.

- الكُتّاب.... قل الحقيقة.... هل قصدت بمولانا سيادةَ الرئيس. لم تكن توجد في الأصل كلمات من نوع مولانا وما شابه لكنك أضفتها من عندك لتقرب مغزى القصة لما تريد وتهزأ بسيادة الرئيس. صحيح؟ لا أريد منك شرحا بل جوابا بنعم أو لا.

فكر... يحاول أن يستدرجه ، بعد أن طمأنه بخدعة أنه حر في الذهاب الى بيته. إذا لم تعد توجد حكومة كما يقول فيستطيع أن يحكم عليه إذن ويعدمه بنفسه. يحصل منه على ما يحلو له أن يعدّه إعترافا ويقتله ويغادر. ما المانع؟

-أنت لا تصدق أنك مطلق السراح... ولا تصدق أن سؤالي مجرد فضول لن يكون لجوابك عليه تبعات...

وتقدم نحوه بخطوات متمهلة:

-.... لم أشأ أن أغادر وأتركك تلقى حتفك تحت أنقاض المبني.

رأى الابتسامة، وقد عكرتها مسحة من الإنزعاج، تعود لترتسم على الفم الواسع وسط وجه أسمر مدور:

-جسورون وخوافون. أنتم الذين يسمونكم مثقفين... تفعلون أشياء لا تطيقون تحمل نتائجها... والآن لماذا لا تنهض وتخرج؟ ألم يكن هذا هو أقصى ما تتمناه؟



نزلت الصفعة على خده مع كلمة " جبان" ثم أعقبتها صفعة ثانية على رقبته وثالثة بظاهر الكف على خده الآخر، وتوقف لينظر اليه النظرة التي يوجهها من يشعر بالرضا عن نفسه لأنه وضع خاتمة مناسبة لوجودهما هنا معا، وابتسم وهو يومئ برأسه إيماءة المحسن، ثم استدار بحزم وسار منصرفا.

سكون غير عادي خيم على المكان بعد أن إنقطع صوت الخطوات المبتعدة. هل توقف الرجل في الخارج فجأة يا ترى أم دخل غرفة أخرى أم تلاشى؟ هل يعقل أنهم أخلوا الدائرة حقا وتركوه ليذهب الى حيث يشاء؟ أصاخ السمع... لم يعد يسمع أصوات إنفجارات. رأى السماء، من الشباكين، وقد بسطت زرقتها على ضوء الصبح الدخاني. فكر أن البقاء جالسا هكذا لا يجدي وربما كان الرجل صادقا بشأن خطورة البقاء هنا. تحامل على نفسه لينهض فأحس بألم في ظهره وساقيه، حتى رأسه إخترقه صداع نابض مفاجئ، ووقف متشنجا الى أن إستطاع التحرك ببطء. بعد أن خطا الخطوات الخمس التي تفصله عن الباب إستند بيديه الى إطار الباب ومد رأسه خارجا. تلفت يمينا ويسارا فلم ير شيئا ولم يسمع صوتا. سار في الممر على غير هدى مارا بغرف بعضها مفتوحة الأبواب ولا يوجد في داخلها أحد، أثاثها فيها والرفوف لا زالت عامرة بالأضابير. يحس إحساسا محبطا بأنه مراقب، وأن رجل الأمن الذي تركه للتو يراه من مكان ما أينما ذهب، ولكنه يستمر في المسير، عليه أن يواصل المسير إذ لم يعد له خيار غيره. نبذ فكرة أن يستطلع الغرف أو يدخل أي مكان بل أن يلزم الممرات ويجد لنفسه وسيلة للخروج بأقصر طريق وأسرع وقت. سار من ممر الى ممر ونزل سلما الى ممر أفضى به الى سلم آخر حتى أصبح في ممر على يساره حائط لا باب فيه فيما توجد الى اليمين على طوله نوافذ تطل على ساحة وقوف السيارات حيث يوجد عدد من السيارات المتروكة، ومع أنه أمل فرحا أن هذا الممر سيؤدي به الى الخارج تريث قليلا لينظر الى الساحة ليرى إن كان يوجد أحد أو ما يستوجب الحذر... لا شيء.

لكنه في تلك اللحظة بالضبط شاهد عشرات الأشخاص كأنما خرجوا من باطن الأرض، أناس غاضبون يتصايحون ويتدافعون، وفي أيدي بعضهم هراوات وقضبان حديد، هجموا من البوابة في كتلة واحدة وتفرقوا داخل الساحة وتناهى اليه صوت تحطم زجاج. سمع أصواتا تتنادى « لا تتفرقوا... هيا الى الداخل... أقتلوا من يقف بوجوهكم منهم..» وسمع شيئا عن أضابير، وعن موقوفين.

أدرك أن ما قاله رجل الأمن صحيح ولم يكن خدعة يستدرجه بها وقد إنهار الوضع كليا الآن. تراجع غريزيا الى الخلف وهو يشاهد رجلين مسلحين ببندقيتي كلاشنكوف يتبعهما رجال آخرون اندفعوا نحو مدخل في الطابق الأرضي، تحته مباشرة. حاول أن يركز تفكيره ليعرف ماذا يفعل... أناس غاضبون ولا شك، ولكنه لا يعرف على وجه اليقين من هم وماذا يريدون وربما لن يكون التقاؤه بهم في هذا الممر في صالحه. كل ما خطر على باله، وهو في إرتباكه، أنهم حتى لو كانوا ضد الحكومة فليس مضمونا أنهم سيعرفون ، من مظهر ملابسه التي تحول لونها الفاتح الى كالح مبقع من الوساخة، ومن وجهه الذي تظهر عليه آثار الضرب، أنه موقوف جاء به حظه العاثر الى المكان المشؤوم في الوقت الخطأ بل فكر أن هؤلاء الرجال ناقمون يسوقهم إنفعال شديد وسيأتون مندفعين وقد يتوهمون أنه رجل أمن تخلف عن زملائه ولن يستطيع أن يقنعهم أنه معتقل قبل أن يؤذوه. ربما أطلق عليه أحدهم الرصاص من مسافة قبل أن يصبح قريبا بحيث يرى حالته، ومن الحكمة أن يعود من حيث أتى ويغلق الباب ويجلس في الغرفة، وعندما يصلون اليه سيرى ماذا يحصل، ومن الأفضل له أيضا أن يستغل الوقت في الدعاء لله قبل أن يصلوا، شيء منه قد ينفع. لم يسعفه عقله بغير هذا الحل في تلك اللحظات التي كان يشعر فيها بكل الآلام التي أصابته خلال الأيام الماضية تهيج... مخاوفه وهواجسه، وجع ساقيه وظهره، وصداع رأسه. تعثر حين استدار متعجلا العودة وهو يسمع أبوابا تفتح بعنف وأشياء تتكسر وصياحا مبهما. استطاع صعود السلم الذي نزل منه ولكنه عندما وصل الى أعلاه وجد نفسه في مفترق ممرين طويلين ووقف حائرا بين التوجه الى اليمين أو الى اليسار بينما خيل اليه أن الأصوات الصاخبة تأتيه من الجهتين.

آذار 2017
نشرت في مجلة الأقلام عدد حزيران 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى