هذه المدينة المتعجرفة، تمضي في تسارع لا يهدأ، ما زالت تتسع وتكبر فتشيخ، وتتكدس في أمعائها أكداس من البشر والحديد والحجارة وأكوام ضخمة من الأشياء المستهلكة.
في المساء تدب في أحشائها حيوات مختلفة ومتنوعة، تتوهج في جسدها المنهك، ألف ليلة وليلة، تتنازع الحدث في نفس اللحظة، وعلى هوامشها تشتعل ألف شمعة أمل، وتوقد ألف رغبة وأمنية، إلى أن تتلاشى كل هذه التناقضات في ظرف النسيان، حين تسري في عروقها حمى الصباح الجديد، لتلتهم ما شاب ذاكرتها من شوائب الأمس.
في مكان ما من نسيجها المتغضن، ثمة صفوف من كراس خشبية فارغة، بموازاة جدار أهمله القدر من مبنى قديم، مقهى هدمه المستثمر الجديد وأبدله بأكشاك ومتاجر، وكثير من البسطات التي يعمرها الباعة، ويمر بجانبها بعض المتبضعين ومتسكعين كثر.
وحسناً فعل (كما قال: محبو هذا المكان في أيامه الخوالي (
إذ استغله الشاطر حسن وصديقه محمد رجب، فأصبح مزاراً، لمن تبقى من مرتاديه العتيدين، بعد أن استأجرا محلاً للمقهى الجديد بجانبه، وأصبح من المعتاد ليلاً، أن تطرح الكراسي بموازاة الجدار، ليأنسو بما تبقى من مقهاهم البائد.
هذه الليلة يجلس محمد على غير العادة، واضعاً الممر تلقاء ظهره، منشغلاً بمتابعة ردود أصدقائه على بعض المنشورات، بينما أجهد حسن نفسه، في ملاحظة الشخص الذي رآه للتو، مستنداً على عمود إنارة بالشارع المقابل، بمظهر مريب، وحين فشل في الإفلات من المشهد، بادر بسؤال لصديقه على الفور:
من هذا الرجل المسكين، يا محمد؟.
وبالتفاتة سريعة رد.
ماذا؟
ألم تره من قبل؟
- لا
- أما سمعت بقصته المحزنة؟
- كلا
- ألا تتذكر ذلك الشخص الذي كان عنواناً لحديثنا لمدة في المقهى قبل الهدم، بعد أن اختفى في ظروف غامضة.
هل نسيته يا عزيزي؟.
- أها .. ربما أتذكر شيئاً عنه.
حدث هذا منذ سنوات على ما أظن.
نعم.
ثم عاد مجدداً في وضع بائس كما ترى، لم يعد كما كان قبل غيابه.
شوهد على هذه الحال، لأول وهلة مذهولاً، مشدوهاً، بثياب رثة وشعر أشعث، لا يكاد يتذكر حتى اسمه، فضلاً عن بقية التفاصيل من حياته، لقد أحزنني جداً يا حسن.
- ماذا حدث له؟
لا أعلم، ولكن لا أخفيك، يا أخي!
لقد أمضيت مدة، أتتبعه من قرنة إلى أخرى، حتى كدت أهلك من السير على خطاه.
وجدته يقضي يومه، مرتاباً من كل شيء، لائذاً بالصمت، إلا من إجابات مقتضبة، سمعته، يلقي بها دون أن يفند شيئاً يضيء به حقيقة ما حدث له، ولكنه على الأقل، يتفاعل مع فضول العابرين.
يعاني كثيراً من تساؤلاتهم وشتائم بعضهم.
الاستفزازات غالباً ما تأتيه من متطفلين يتمعرون به، دون أن يبالي بهم كثيرا، وأحياناً يتقي تحرشهم بالهروب مبتعداً عنهم.
رأيته يتنهد، قبل أن يجيب، إذا سأله أحدهم، مشترطاً بعض الطعام ليخبره بسر.
يدعي أن السر ما زال عالقاً بمكان ما، من رأسه الأشعث.
أكثرهم يود معرفة أين كان طوال المدة التي اختفى فيها، عن ربوع الحي؟ و ما لذي جعله يبارح مكاناً لازمه منذ طفولته، حتى ظنه الناس فيما مضى شيطاناً، يمكن أن يرى في أكثر من مكان بنفس اللحظة، لكثرة ما يرونه في زوايا وساحات حيهم الصغير؟
يثيرك حين تستمع إليه، وهو يتمتم بكلمات غريبة، يرددها هكذا ( إن هذه الساحرة، قد تُرى في البدء على هيئة فتاة، ثم ما تلبث أن تتكهل، وتشيب، ويشين وجهها، فيهرع خطابها ومحبيها لمفارقتها، وسرعان ما يعاقرها أناس كانوا في منأى عنها، فتبتليهم بروائحها وعجفها، وتصيبهم بأدوائها دون أن يكون لهم حظ من متاعها،
و يا للأسف! إنهم أكثر من يمكث في تلك البلوى)
وكثيراً ما يُسمع يتكلم بهذا الصوت: ( أيها الشجعان الذين أفنيتم قوتكم في مغامرات لأجلها، ترجلوا عن جيادكم، وانطلقوا نحو بنيات السلم من حولكم، فعانقوهن، وتفكهوا بثغورهن. طلقوا شمطاء الجدب والخراب).
كما شُوهد رافعاً ثوبه، ليكشف عن ساقه يقول في أسى: ( انظروا إليها إنها مثقوبة، لقد خرقتها بيدها اللعينة، ألم أقل لكم إنها غادرة، ومخادعة وبشعة).. وبعد أن يصمت برهة يعاود الحديث بهلع ..(انظروا إلى وجهي، ألم أكن قبل أن تفقدوني، أجملكم طلعة، وأحسنكم منظراً، وأزكاكم رائحة، ألا تجدونني الآن أكثر نتناً، من أجذب حيكم الفاني منذ زمن بعيد).
- لقد توجب علي أن أذهب الآن يا محمد، لنكمل فيما بعد، فلدي ما يشغلني
انظر، لقد اختفى صاحبك، بينما أنت تتحدث.
- لا غرابة يا حسن، فهذا ما يفعله دائما في هذا الوقت..
في كل مساء يسلك طريقاً، نحو الأزقة المظلمة في أقاصي الحي
وفي طريقه إلى هناك يتشاجر مع نفسه
يصرخ
يضحك بشكل هستيري
يبكي قليلاً
يلطم وجهه بعنف قبل أن يختفي في الظلمة
ليختبئ من أعين المتلصصين
ينام إلى أن يوقظه الجوع في ضحى الغد، فيعود إلى ممارسة عاداته اليومية
بالتسكع من شارع إلى آخر، بين الدكاكين، والمقاهي، والأرصفة، دون أن يكل أو يمل.
- فعلتها يا حسن وتركتني أثرثر وحدي
تباً، يبدو أنني أطلت الحديث.
سعود آل سمرة – السعودية
نادي القصة السعودي
في المساء تدب في أحشائها حيوات مختلفة ومتنوعة، تتوهج في جسدها المنهك، ألف ليلة وليلة، تتنازع الحدث في نفس اللحظة، وعلى هوامشها تشتعل ألف شمعة أمل، وتوقد ألف رغبة وأمنية، إلى أن تتلاشى كل هذه التناقضات في ظرف النسيان، حين تسري في عروقها حمى الصباح الجديد، لتلتهم ما شاب ذاكرتها من شوائب الأمس.
في مكان ما من نسيجها المتغضن، ثمة صفوف من كراس خشبية فارغة، بموازاة جدار أهمله القدر من مبنى قديم، مقهى هدمه المستثمر الجديد وأبدله بأكشاك ومتاجر، وكثير من البسطات التي يعمرها الباعة، ويمر بجانبها بعض المتبضعين ومتسكعين كثر.
وحسناً فعل (كما قال: محبو هذا المكان في أيامه الخوالي (
إذ استغله الشاطر حسن وصديقه محمد رجب، فأصبح مزاراً، لمن تبقى من مرتاديه العتيدين، بعد أن استأجرا محلاً للمقهى الجديد بجانبه، وأصبح من المعتاد ليلاً، أن تطرح الكراسي بموازاة الجدار، ليأنسو بما تبقى من مقهاهم البائد.
هذه الليلة يجلس محمد على غير العادة، واضعاً الممر تلقاء ظهره، منشغلاً بمتابعة ردود أصدقائه على بعض المنشورات، بينما أجهد حسن نفسه، في ملاحظة الشخص الذي رآه للتو، مستنداً على عمود إنارة بالشارع المقابل، بمظهر مريب، وحين فشل في الإفلات من المشهد، بادر بسؤال لصديقه على الفور:
من هذا الرجل المسكين، يا محمد؟.
وبالتفاتة سريعة رد.
ماذا؟
ألم تره من قبل؟
- لا
- أما سمعت بقصته المحزنة؟
- كلا
- ألا تتذكر ذلك الشخص الذي كان عنواناً لحديثنا لمدة في المقهى قبل الهدم، بعد أن اختفى في ظروف غامضة.
هل نسيته يا عزيزي؟.
- أها .. ربما أتذكر شيئاً عنه.
حدث هذا منذ سنوات على ما أظن.
نعم.
ثم عاد مجدداً في وضع بائس كما ترى، لم يعد كما كان قبل غيابه.
شوهد على هذه الحال، لأول وهلة مذهولاً، مشدوهاً، بثياب رثة وشعر أشعث، لا يكاد يتذكر حتى اسمه، فضلاً عن بقية التفاصيل من حياته، لقد أحزنني جداً يا حسن.
- ماذا حدث له؟
لا أعلم، ولكن لا أخفيك، يا أخي!
لقد أمضيت مدة، أتتبعه من قرنة إلى أخرى، حتى كدت أهلك من السير على خطاه.
وجدته يقضي يومه، مرتاباً من كل شيء، لائذاً بالصمت، إلا من إجابات مقتضبة، سمعته، يلقي بها دون أن يفند شيئاً يضيء به حقيقة ما حدث له، ولكنه على الأقل، يتفاعل مع فضول العابرين.
يعاني كثيراً من تساؤلاتهم وشتائم بعضهم.
الاستفزازات غالباً ما تأتيه من متطفلين يتمعرون به، دون أن يبالي بهم كثيرا، وأحياناً يتقي تحرشهم بالهروب مبتعداً عنهم.
رأيته يتنهد، قبل أن يجيب، إذا سأله أحدهم، مشترطاً بعض الطعام ليخبره بسر.
يدعي أن السر ما زال عالقاً بمكان ما، من رأسه الأشعث.
أكثرهم يود معرفة أين كان طوال المدة التي اختفى فيها، عن ربوع الحي؟ و ما لذي جعله يبارح مكاناً لازمه منذ طفولته، حتى ظنه الناس فيما مضى شيطاناً، يمكن أن يرى في أكثر من مكان بنفس اللحظة، لكثرة ما يرونه في زوايا وساحات حيهم الصغير؟
يثيرك حين تستمع إليه، وهو يتمتم بكلمات غريبة، يرددها هكذا ( إن هذه الساحرة، قد تُرى في البدء على هيئة فتاة، ثم ما تلبث أن تتكهل، وتشيب، ويشين وجهها، فيهرع خطابها ومحبيها لمفارقتها، وسرعان ما يعاقرها أناس كانوا في منأى عنها، فتبتليهم بروائحها وعجفها، وتصيبهم بأدوائها دون أن يكون لهم حظ من متاعها،
و يا للأسف! إنهم أكثر من يمكث في تلك البلوى)
وكثيراً ما يُسمع يتكلم بهذا الصوت: ( أيها الشجعان الذين أفنيتم قوتكم في مغامرات لأجلها، ترجلوا عن جيادكم، وانطلقوا نحو بنيات السلم من حولكم، فعانقوهن، وتفكهوا بثغورهن. طلقوا شمطاء الجدب والخراب).
كما شُوهد رافعاً ثوبه، ليكشف عن ساقه يقول في أسى: ( انظروا إليها إنها مثقوبة، لقد خرقتها بيدها اللعينة، ألم أقل لكم إنها غادرة، ومخادعة وبشعة).. وبعد أن يصمت برهة يعاود الحديث بهلع ..(انظروا إلى وجهي، ألم أكن قبل أن تفقدوني، أجملكم طلعة، وأحسنكم منظراً، وأزكاكم رائحة، ألا تجدونني الآن أكثر نتناً، من أجذب حيكم الفاني منذ زمن بعيد).
- لقد توجب علي أن أذهب الآن يا محمد، لنكمل فيما بعد، فلدي ما يشغلني
انظر، لقد اختفى صاحبك، بينما أنت تتحدث.
- لا غرابة يا حسن، فهذا ما يفعله دائما في هذا الوقت..
في كل مساء يسلك طريقاً، نحو الأزقة المظلمة في أقاصي الحي
وفي طريقه إلى هناك يتشاجر مع نفسه
يصرخ
يضحك بشكل هستيري
يبكي قليلاً
يلطم وجهه بعنف قبل أن يختفي في الظلمة
ليختبئ من أعين المتلصصين
ينام إلى أن يوقظه الجوع في ضحى الغد، فيعود إلى ممارسة عاداته اليومية
بالتسكع من شارع إلى آخر، بين الدكاكين، والمقاهي، والأرصفة، دون أن يكل أو يمل.
- فعلتها يا حسن وتركتني أثرثر وحدي
تباً، يبدو أنني أطلت الحديث.
سعود آل سمرة – السعودية
نادي القصة السعودي