أحكم قبضة يده على عنقه حتى جحظت عيناه . أزاح كفه مدة، ثم عاود الضغط . دمعت عيناه وصار وجهه قانيا . ارخى القبضة من جديد . وضع رأسه على المنضدة و سكن مبحرا بين لجات دواخله الدفينة .
في استرجاعه للمنعطفات الكثيرة داخل رحلة عمره ، يجد أنه كان دوما يركب تحديات خاسرة انتهت به الى الانحصار في زوايا ضيقة حادة ، في وقت كات يمكن ان ينتهي الى آفاق واسعة غير محدودة .
هو لا يستطيع ان يزعم أن ذلك كان ترجمة لقناعة متجذرة . بل يقر ان الورطات التي كان دوما على موعد معها ، هي نتيجة توجيهات مستشار تمظهر بمظهر الحاذق العارف ، لكنه كان يختفي كليا ساعة دفعه لثمن الفواتير الضخمة المترتبة عن فتاويه الخائبة . ورغم حقده الدفين عليه ،و رأيه المعروف فيه ، فكل شئ كان يتغير فجأة .
لا يعرف من اين ينبعث في تلك اللحظات اللعينة . و لا كيف يوت القدرة و الاستطاعة ، فيمسح بنتهى اليسر كل ما ترسب لديه بصدده . فيعطل تفكيره ، ولا يسمع و لا يستحسن الا ما يشير به عليه .
ذلك المستشار الخائب المحبط لتطلعاته ، ليس بانسان غريب عنه . بل ليس له من وجود خارج تفكيره . يتغذى بما يتغذى به هو . و ينشغل بالافكار تفسها التي تعبر ذهنه .
قرر في الاخير التخلص منه عبر خنق صوته الآخر الذي يحمله كامل المسؤولية في كل النكسات التي عصفت به .
في البدء تصور ان الأمر في غاية البساطة ما دام انه يعرف الصوت الذي يجب ان يخرسه . انطلق من افتراض أن صوت الرزانة هو ما يجب الانتصار له ، اذ ارتأى أنه القادر على حل كل المعضلات، و بناء جسور التواصل مع الآخر . غير ان افكارا لم يشك في انها كانت بايعاز من صوته الآخر داهمته ، منبهة إياه الى ان التواصل الحقيقي المطلوب ، يجب ان يكون منفتحا على الحياة ، و ليس على طرف من أطرافها . ولذا فالشريعة الوحيدة الممكن الاحتكام اليها ، هي تلك التي لها القدرة على معانقة الصيرورة . و أنه ما من سبيل للموضوعية لباحث يعتقد أن للأزمنة جد يظل جدا ، و أن الحقب التي تليه مهما تطورت ، فهي مجرد احفاد طائشه تفتقر دوما لحكمة الكهل .
مؤاخذات الصوت الثاني جعلته في حيرة . ما الصوت المستهدف ؟ ... ما الرزانة ؟... ما الطيش ؟.. ما التعقل ؟... من المذنب ؟ ... كيف يعرف أنه كذلك ؟ من قاده الى المستنقع الجاثم عليه ؟ الصوت الذي يجنح الى اخفاء معالمه الخاصة أم ذلك الذي يعشق التحليق فوق الفضاءات المحظورة ؟
وجد نفسه في حاجة الى وسيلة لم يسبق ان جربها انسان على نفسه . صار مفتقرا الى وسيلة هي أشبه بميزان أو قياس تمكن موضوعيته ان تمدد و تتمركز على المدى الفاصل بين الصوتين
ومن ثم يتمكن من نصب كمائن يتعرف من خلالها على طوية كل صوت . لكن هل يمكن ان يجعل الأشلاء التي تكونه في غفلة عن ما يخطط له ؟
اقتنع باستحالة الأمر . و تأكد من ان لا الحاضر و لا المستقبل يمكن ان تكون مجالا للاختبار . و أنه في حل كهذا لا يمكن أن يعتمد على شئ آخر سوى قدرته على استرجاع كل الجدالات الني دارت بين الأصوات المتحدثة بأبجديته الخاصة حول القضايا التي عاشها من قبل .
بدأ بأكبر انعطاف له في حياته . مسألة زواجه . هي قضية كان فيها سجال طويل امتد لسنوات . الأصوات الداخلية فيه كانت واضحة جدا . و بالرغم من مرور كل هذه السنين فلا يزال صداها مسموعا بقوة داخله .
لم تكن لديه فكرة محددة حين تعرف عليها . اعتبرها رقما داخل سلسلته مثلما اعتقد انه مجرد رقم داخل سلسلتها .
في علاقته بها صنع واحات كثيرة داخل مجاله الشاحب . و لأن حياته كانت تجعل كل الأماكن مجرد بساط متحرك لانسان يسكن الرحيل ، فقد حاول معها أن يصل الى آخر مشاوير المتعة . الا أنه اكتشف في نهاية الرحلة أنه لم يكن يعش نهاية مشوار ، بل نهاية مسار بأكمله . و أنه ينعطف بدرجة كبيرة الى مرحلة جديدة ستقضم الفيافي فيها قسطا كبيرا من عمره . وفي لحظة من لحظات شروده فاتحها بالزواج .
لم تمانع ... بل صرحت انها كادت تيأس منه لطول انتظارها سماعها العرض . تزحزح شئ ما داخله . نواة رفض غامض فجرت كيانها وانطلقت منتشرة في كل الاتجاهات مستقطبة كل الخلايا لوأد مشروعه الذي لن يكون غير أسوار يحول بينها و بين التجدد.
صوته الوليد كان يرى ان زواجه ليس سوى زج بالنفس في عالم لن تعثر فيه سوى على حطامها . وحجته ان مكونات شخصه لها ميل فطري للفوضى أكثر مما لديها من استعداد للانضباط و التنميط .
و بالتالي فالجنوح الى المغامرة و ارتياد الآفاق و المساحات الحرة ونسج العلاقات و البحث عن اللذة و الحكايات هو الفضاء الوحيد الذي تجد فيه النفس أنشودتها .
الصوت الوليد لم يستصغ أن تحكم العين بان تنظر و الى الأبد الى وجه وحيد ، و ان تتحول الى ما يشبه مجهر محكوم بان يرصد ميلاد القسمات و الشيب و كل ما يبشر بميلاد الموت في وقت يمتلئ المحيط بالحياة والحكايات و القدرة اللامحدودة على التجدد المستمر .
الصوت الثاني كان ضعيفا . بل لم يكن مسموعا بالمرة . ربما كان يعد للأمر عدته مدركا أنه لا يمكن أن يجاري الصوت الوليد في عدوه . و ان عليه ان يدخر قواه لخوض جدال قد يمتد لآخر العمر .
ناور طويلا . و انتظر هفوات الصوت الآخر كي يضخم ترسانة الحجج لديه من أجل ان يجهز عليه في الوقت المناسب .
الصوت الذي يسميه رزينا من باب التميز لا غير كان يتحفظ على نسج علاقات بناء على وعود كاذبة. وهو مخلص لعذرية استقاها من لحظات تنشئته و الاعمال الفنية التي اطلع عليها ومن وقائع يعتقد ان لا علاقة لها بالخيال . في غرامياته التي عاشها من قبل قبل تمرد الصوت الآخر كان يعتقد أن معشوقاته اللواتي عبرن قلبه كن من صنف آخر غير البشر . و انه لم يكن لديهن أعضاء تناسلية . كما انه لم يجرؤ على لقاء من أحبهن . و اللحظات القليلة التي فعل فيها ذلك ، أكتشف أنه كان يحاول زرع ارواح في تماثيل .
حين قرر الصوت الوليد انهاء علاقته بها لم يتحرك الصوت الرزين . و حين كان يقرا رسائلها و يعيد اغلاقها بعناية ثم يشطب على العنوان ويعيد ارسالها لم يتحرك ايضا . لكنه في وقت ارتآه مناسبا حاول ان يجهز عليه . مد قبضته . ضغط بقوة . لكنه اكتشف أنه يمسك بالفراغ .
الصوت الاخر كان قد صار له الف جسد . خطاباته صارت على كل الألسن و الشفاه . صداه يتردد في كل مكان . وتجلياته ترصدها عينه في كل صورة .
انهار . صار يصرخ: أخرجوني من زمن الغرائز . أعيدوني الى عصور الأرواح .
في استرجاعه للمنعطفات الكثيرة داخل رحلة عمره ، يجد أنه كان دوما يركب تحديات خاسرة انتهت به الى الانحصار في زوايا ضيقة حادة ، في وقت كات يمكن ان ينتهي الى آفاق واسعة غير محدودة .
هو لا يستطيع ان يزعم أن ذلك كان ترجمة لقناعة متجذرة . بل يقر ان الورطات التي كان دوما على موعد معها ، هي نتيجة توجيهات مستشار تمظهر بمظهر الحاذق العارف ، لكنه كان يختفي كليا ساعة دفعه لثمن الفواتير الضخمة المترتبة عن فتاويه الخائبة . ورغم حقده الدفين عليه ،و رأيه المعروف فيه ، فكل شئ كان يتغير فجأة .
لا يعرف من اين ينبعث في تلك اللحظات اللعينة . و لا كيف يوت القدرة و الاستطاعة ، فيمسح بنتهى اليسر كل ما ترسب لديه بصدده . فيعطل تفكيره ، ولا يسمع و لا يستحسن الا ما يشير به عليه .
ذلك المستشار الخائب المحبط لتطلعاته ، ليس بانسان غريب عنه . بل ليس له من وجود خارج تفكيره . يتغذى بما يتغذى به هو . و ينشغل بالافكار تفسها التي تعبر ذهنه .
قرر في الاخير التخلص منه عبر خنق صوته الآخر الذي يحمله كامل المسؤولية في كل النكسات التي عصفت به .
في البدء تصور ان الأمر في غاية البساطة ما دام انه يعرف الصوت الذي يجب ان يخرسه . انطلق من افتراض أن صوت الرزانة هو ما يجب الانتصار له ، اذ ارتأى أنه القادر على حل كل المعضلات، و بناء جسور التواصل مع الآخر . غير ان افكارا لم يشك في انها كانت بايعاز من صوته الآخر داهمته ، منبهة إياه الى ان التواصل الحقيقي المطلوب ، يجب ان يكون منفتحا على الحياة ، و ليس على طرف من أطرافها . ولذا فالشريعة الوحيدة الممكن الاحتكام اليها ، هي تلك التي لها القدرة على معانقة الصيرورة . و أنه ما من سبيل للموضوعية لباحث يعتقد أن للأزمنة جد يظل جدا ، و أن الحقب التي تليه مهما تطورت ، فهي مجرد احفاد طائشه تفتقر دوما لحكمة الكهل .
مؤاخذات الصوت الثاني جعلته في حيرة . ما الصوت المستهدف ؟ ... ما الرزانة ؟... ما الطيش ؟.. ما التعقل ؟... من المذنب ؟ ... كيف يعرف أنه كذلك ؟ من قاده الى المستنقع الجاثم عليه ؟ الصوت الذي يجنح الى اخفاء معالمه الخاصة أم ذلك الذي يعشق التحليق فوق الفضاءات المحظورة ؟
وجد نفسه في حاجة الى وسيلة لم يسبق ان جربها انسان على نفسه . صار مفتقرا الى وسيلة هي أشبه بميزان أو قياس تمكن موضوعيته ان تمدد و تتمركز على المدى الفاصل بين الصوتين
ومن ثم يتمكن من نصب كمائن يتعرف من خلالها على طوية كل صوت . لكن هل يمكن ان يجعل الأشلاء التي تكونه في غفلة عن ما يخطط له ؟
اقتنع باستحالة الأمر . و تأكد من ان لا الحاضر و لا المستقبل يمكن ان تكون مجالا للاختبار . و أنه في حل كهذا لا يمكن أن يعتمد على شئ آخر سوى قدرته على استرجاع كل الجدالات الني دارت بين الأصوات المتحدثة بأبجديته الخاصة حول القضايا التي عاشها من قبل .
بدأ بأكبر انعطاف له في حياته . مسألة زواجه . هي قضية كان فيها سجال طويل امتد لسنوات . الأصوات الداخلية فيه كانت واضحة جدا . و بالرغم من مرور كل هذه السنين فلا يزال صداها مسموعا بقوة داخله .
لم تكن لديه فكرة محددة حين تعرف عليها . اعتبرها رقما داخل سلسلته مثلما اعتقد انه مجرد رقم داخل سلسلتها .
في علاقته بها صنع واحات كثيرة داخل مجاله الشاحب . و لأن حياته كانت تجعل كل الأماكن مجرد بساط متحرك لانسان يسكن الرحيل ، فقد حاول معها أن يصل الى آخر مشاوير المتعة . الا أنه اكتشف في نهاية الرحلة أنه لم يكن يعش نهاية مشوار ، بل نهاية مسار بأكمله . و أنه ينعطف بدرجة كبيرة الى مرحلة جديدة ستقضم الفيافي فيها قسطا كبيرا من عمره . وفي لحظة من لحظات شروده فاتحها بالزواج .
لم تمانع ... بل صرحت انها كادت تيأس منه لطول انتظارها سماعها العرض . تزحزح شئ ما داخله . نواة رفض غامض فجرت كيانها وانطلقت منتشرة في كل الاتجاهات مستقطبة كل الخلايا لوأد مشروعه الذي لن يكون غير أسوار يحول بينها و بين التجدد.
صوته الوليد كان يرى ان زواجه ليس سوى زج بالنفس في عالم لن تعثر فيه سوى على حطامها . وحجته ان مكونات شخصه لها ميل فطري للفوضى أكثر مما لديها من استعداد للانضباط و التنميط .
و بالتالي فالجنوح الى المغامرة و ارتياد الآفاق و المساحات الحرة ونسج العلاقات و البحث عن اللذة و الحكايات هو الفضاء الوحيد الذي تجد فيه النفس أنشودتها .
الصوت الوليد لم يستصغ أن تحكم العين بان تنظر و الى الأبد الى وجه وحيد ، و ان تتحول الى ما يشبه مجهر محكوم بان يرصد ميلاد القسمات و الشيب و كل ما يبشر بميلاد الموت في وقت يمتلئ المحيط بالحياة والحكايات و القدرة اللامحدودة على التجدد المستمر .
الصوت الثاني كان ضعيفا . بل لم يكن مسموعا بالمرة . ربما كان يعد للأمر عدته مدركا أنه لا يمكن أن يجاري الصوت الوليد في عدوه . و ان عليه ان يدخر قواه لخوض جدال قد يمتد لآخر العمر .
ناور طويلا . و انتظر هفوات الصوت الآخر كي يضخم ترسانة الحجج لديه من أجل ان يجهز عليه في الوقت المناسب .
الصوت الذي يسميه رزينا من باب التميز لا غير كان يتحفظ على نسج علاقات بناء على وعود كاذبة. وهو مخلص لعذرية استقاها من لحظات تنشئته و الاعمال الفنية التي اطلع عليها ومن وقائع يعتقد ان لا علاقة لها بالخيال . في غرامياته التي عاشها من قبل قبل تمرد الصوت الآخر كان يعتقد أن معشوقاته اللواتي عبرن قلبه كن من صنف آخر غير البشر . و انه لم يكن لديهن أعضاء تناسلية . كما انه لم يجرؤ على لقاء من أحبهن . و اللحظات القليلة التي فعل فيها ذلك ، أكتشف أنه كان يحاول زرع ارواح في تماثيل .
حين قرر الصوت الوليد انهاء علاقته بها لم يتحرك الصوت الرزين . و حين كان يقرا رسائلها و يعيد اغلاقها بعناية ثم يشطب على العنوان ويعيد ارسالها لم يتحرك ايضا . لكنه في وقت ارتآه مناسبا حاول ان يجهز عليه . مد قبضته . ضغط بقوة . لكنه اكتشف أنه يمسك بالفراغ .
الصوت الاخر كان قد صار له الف جسد . خطاباته صارت على كل الألسن و الشفاه . صداه يتردد في كل مكان . وتجلياته ترصدها عينه في كل صورة .
انهار . صار يصرخ: أخرجوني من زمن الغرائز . أعيدوني الى عصور الأرواح .