أمرّ على جسرِ نهرِ جغجغ في الليل وحدي، أحترق بالذكريات والفراق، أنام في ضفّته مع الريح الخجولة، ثم أحلم بيد الأرمنية التي أخرجتني من غابة الأحشاء عارياً؛ يد الأرمنية التي شدّتني من عنقي ورمتني في شوارع المدينة وعاصفة الحياة؛ يدها التي تركت في دمي عطرها، لوّحت لي من فوق الجسر ومضت.
حين كان الفجر يحلق ذقنه في حقول الندى، كنتُ أغطّ في نومي وأحلم؛ أحلم بوجه الكردية التي أطعمتني نهدها الممهور بأحجار الحرية حين هربنا من مهرجان القمح؛ الكردية التي تعثرتُ بابتسامتها مصادفةً في طريقي إلى النهر؛ تلك التي يُشرقُ وجهها مثل شمس الصباح في أقصى المدينة، شبّاكها موصد بوجه العابرين.
آهٍ يا دود قلبي... كنتُ أحلم!
آهٍ يا قلبي المهروس كحبة مشمش، ليتني ما صحوتُ من الحلم قط، لأرى نوافذ الحلم مكسورة ودروب العشاق خالية وجسر نهر جغجغ وحيداً حدّ التوحش.
* * *
في مساءٍ ليس لأحد، لا بدّ من ذكر الشمس حين كانت تلملم خصلات شَعرها المتناثرة فوق سطح بيتنا الطيني وتمدّ أصابع قلبها الطويلة، خلف البنايات العالية لتخرج نظارة سوداء لعينيها. كان النهر يشتل قلبه في بساتين قلبي، يتمدّد فوق العشب، ويغنّي موالاً ريفياً. كانت ساعة الأحلام قد تأخرت عن نوم الطيور، وكان قطار العمر يهدر فوق سكة الروح، عائداً بالطلاب والعشاق أو ذاهباً بجثث الحقول.
كانت الأرض الصائمة عن أكل أبنائها، تطردني إلى الشوارع، لتستحم بندى الحقول وتلبس ثوبها المطرز بخرز حياتي. كانت السماء تغسل يديها من زفر القصائد في نهر دجلة وتعلّق مناديل النجوم في خزانتها. كان القمر المتسكّع في مطعم القصر يشرب ديونه المخمورة ومؤخرة الراقصة قرب النافذة ويصرخ "أبيعُ بيتي لأشتري حياتي". كانت حديقة الكندي لا تميز وجوه أهل المدينة. أوه ما أصعب وصف ضحكاتها وهي تغرق في اللعب مع أحلامِ أطفالنا! كانت المدينة واسعة القلب ولا تعرف الحقد والعتب. وكانت الشوارع عائلة لا تفرقها النقاط والفواصل والرايات؛ شوارع من حبّ وحدائق وأرواح. آهٍ يا شوارع قلبي والمدينة؛ شارعٌ للأفراح والأقمشة المزركشة وأمنيات العروس؛ شارعٌ للسهر والحب والسير حتى الصباح؛ شارع لمقاهي الندم والفنادق الباردة؛ شارع لثلاّجات الأحزان والسجائر وبطاقات الحظ؛ شارع للأحذية والتسكّع وأحلامنا المثقوبة؛ شارع للحمام والصبيان والبلابل؛ شارع للشعراء والمكتبات وطالبات قلبي؛ شارع لبائعة اللبن والقيمر والصباحات اللذيذة؛ شارع لقطع رأس السنة الجديدة والأغنام؛ شارع لباعة الخضر وفواكه الأيام؛ شارعٌ من ذهب وبهارات ولذة؛ شارع لعجلات الزمن والحقائب وأحزان المسافرين؛ شارع للأشجار والمرأة الهاربة من المطر والوظيفة؛ شارعٌ غاية في الهرم نعلق الزهور وأخطاءنا على نوافذه؛ شارع يشدّني لأدخن السجائر وسيقان النساء سراً في زحمة المكان؛ شارع يواعد شارعاً ويلتقيان في قلبي؛ شوارع من أغانٍ وعشاق وغيوم؛ شوارع من أفران ومدارس ومكتبات؛ شوارع لا تسألني من أي قوميةٍ أنا.
كنتُ وحدي في زحام المدينة، أحمل كيس القصائد والذكريات وأرافق الشارع إلى الحديقة التي غرستُ فيها قلقي. كنتُ وحدي بلا وجه أمشي خلف آثامي المتبرجات وأستقرُ عند نهدِ ريفيةٍ يثرثر في الطريق عن عاشقٍ فاشل فوق سطح البيت.
أنا الخطأ المتكرر في الشوارع، ما زلت وحدي، أحفظ أحاديث أرملة المدينة، وأكتب الغائبين والملل!
حين كان الفجر يحلق ذقنه في حقول الندى، كنتُ أغطّ في نومي وأحلم؛ أحلم بوجه الكردية التي أطعمتني نهدها الممهور بأحجار الحرية حين هربنا من مهرجان القمح؛ الكردية التي تعثرتُ بابتسامتها مصادفةً في طريقي إلى النهر؛ تلك التي يُشرقُ وجهها مثل شمس الصباح في أقصى المدينة، شبّاكها موصد بوجه العابرين.
آهٍ يا دود قلبي... كنتُ أحلم!
آهٍ يا قلبي المهروس كحبة مشمش، ليتني ما صحوتُ من الحلم قط، لأرى نوافذ الحلم مكسورة ودروب العشاق خالية وجسر نهر جغجغ وحيداً حدّ التوحش.
* * *
في مساءٍ ليس لأحد، لا بدّ من ذكر الشمس حين كانت تلملم خصلات شَعرها المتناثرة فوق سطح بيتنا الطيني وتمدّ أصابع قلبها الطويلة، خلف البنايات العالية لتخرج نظارة سوداء لعينيها. كان النهر يشتل قلبه في بساتين قلبي، يتمدّد فوق العشب، ويغنّي موالاً ريفياً. كانت ساعة الأحلام قد تأخرت عن نوم الطيور، وكان قطار العمر يهدر فوق سكة الروح، عائداً بالطلاب والعشاق أو ذاهباً بجثث الحقول.
كانت الأرض الصائمة عن أكل أبنائها، تطردني إلى الشوارع، لتستحم بندى الحقول وتلبس ثوبها المطرز بخرز حياتي. كانت السماء تغسل يديها من زفر القصائد في نهر دجلة وتعلّق مناديل النجوم في خزانتها. كان القمر المتسكّع في مطعم القصر يشرب ديونه المخمورة ومؤخرة الراقصة قرب النافذة ويصرخ "أبيعُ بيتي لأشتري حياتي". كانت حديقة الكندي لا تميز وجوه أهل المدينة. أوه ما أصعب وصف ضحكاتها وهي تغرق في اللعب مع أحلامِ أطفالنا! كانت المدينة واسعة القلب ولا تعرف الحقد والعتب. وكانت الشوارع عائلة لا تفرقها النقاط والفواصل والرايات؛ شوارع من حبّ وحدائق وأرواح. آهٍ يا شوارع قلبي والمدينة؛ شارعٌ للأفراح والأقمشة المزركشة وأمنيات العروس؛ شارعٌ للسهر والحب والسير حتى الصباح؛ شارع لمقاهي الندم والفنادق الباردة؛ شارع لثلاّجات الأحزان والسجائر وبطاقات الحظ؛ شارع للأحذية والتسكّع وأحلامنا المثقوبة؛ شارع للحمام والصبيان والبلابل؛ شارع للشعراء والمكتبات وطالبات قلبي؛ شارع لبائعة اللبن والقيمر والصباحات اللذيذة؛ شارع لقطع رأس السنة الجديدة والأغنام؛ شارع لباعة الخضر وفواكه الأيام؛ شارعٌ من ذهب وبهارات ولذة؛ شارع لعجلات الزمن والحقائب وأحزان المسافرين؛ شارع للأشجار والمرأة الهاربة من المطر والوظيفة؛ شارعٌ غاية في الهرم نعلق الزهور وأخطاءنا على نوافذه؛ شارع يشدّني لأدخن السجائر وسيقان النساء سراً في زحمة المكان؛ شارع يواعد شارعاً ويلتقيان في قلبي؛ شوارع من أغانٍ وعشاق وغيوم؛ شوارع من أفران ومدارس ومكتبات؛ شوارع لا تسألني من أي قوميةٍ أنا.
كنتُ وحدي في زحام المدينة، أحمل كيس القصائد والذكريات وأرافق الشارع إلى الحديقة التي غرستُ فيها قلقي. كنتُ وحدي بلا وجه أمشي خلف آثامي المتبرجات وأستقرُ عند نهدِ ريفيةٍ يثرثر في الطريق عن عاشقٍ فاشل فوق سطح البيت.
أنا الخطأ المتكرر في الشوارع، ما زلت وحدي، أحفظ أحاديث أرملة المدينة، وأكتب الغائبين والملل!