تقدمتْ نحوي وقالت بصوت ناعم :
- سيدي، من فضلك خذ لي صورة...
ناولتني هاتفها المحمول، ثم أضافت:
- خذ لي صورة لو سمحْت...
كانت في مطلع شبابها. في العشرين أو الواحدة والعشرين. تقف في الشارع، كأنما تنتظرني أنا بالذات لألتقط لها صورة بهاتفها المحمول. منذ متى وهي واقفة هناك، أمام محطة القطار، وسط ذلك العدد الكبير من المارة ؟
كانت ترتدي قميصا أصفر، بورود صغيرة بيضاء، وسروالا أسود، وتحمل حقيبة نسوية صفراء.
أنيقة، قلت مع نفسي، لكنّ أناقتها غير مكلفة.
لماذا كانت تقف هناك بالتحديد؟ ولماذا اختارتني أنا بالذات، كي ألتقط لها الصورة؟ ربما لفارق السن بيننا. من الواضح أنها لا ترغب في مشاكل مع الشباب. لكنْ ما الذي منعها، في هذه الحالة، من التوجه إلى فتاة في سنها؟.
ناولتني هاتفها المحمول، دون أن تنتظر موافقتي، وشرعتْ تشرح لي كيف آخذ الصورة.
- تُمسك الهاتف هكذا، قالت لي، ثم تنتظر حتى يتضح لك المشهد على الشاشة الصغيرة، وعندئذ تضغط على هذا الزر.
كنتُ على عجلة من أمري والقطار الذي سأستقله ينطلق بعد لحظات قليلة. لكنني لم أقل لها شيئا عن ذلك. وضعتُ حقيبتي أرضا وركزتُ على الصورة التي ينبغي عليّ أن ألتقطها. صورة تلك الفتاة الجميلة، ذات الابتسامة العذبة والأناقة غير المكلِّفة.
أشارت لي بيدها كي لا أتسرع. لم أكن في المكان المناسب، بالنسبة للشمس الجانحة للغروب. غيرتُ مكاني وفق تعليماتها. كان أشخاص كثيرون يمرون بيننا، كلما أردتُ الضغط على الزر. منهم من كان يمُر ثم يلتفت إلينا بنوع من الفضول. لكنني نجحتُ أخيرا في التقاط الصورة. كانت عندئذ تبتسم ابتسامتها العذبة، والحقيبة الصفراء متدلية على كتفها، وخصلة من شعرها الناعم منسدلة على الجزء الأعلى من جبينها. مباشرة بعد ذلك، تقدمتْ نحوي وهي تنطق بكلمات شكر، ثم أخذت مني الهاتف وشرعت تتأمل صورتها على الشاشة. لاحظتُ عندئذ أنها قلصت ما بين حاجبيها، ثم وضعت يدها على فمها وقالت :" يا إلهي". نطقتها بالعربية ثم بالفرنسية.
لونها أيضا صار شاحبا. ناولتني الهاتف المحمول ثم سألتْني مستنكرة :
- ما هذا يا سيدي؟
كانت الصورة صورتها فعلا، بالقميص الأصفر، ذي الورود الصغيرة البيضاء، والحقيبة الصفراء والسروال الأسود وخصلة الشعر الناعمة المنسدلة على الجبين. لكنها كانت تحمل بين ذراعيها طفلا رضيعا!
من أين جاء هذا الرضيع؟ ما هذه المصيبة؟ قالت لي وهي تحاول أن تكتم غيظها، رغم كل شيء. لم أكن أملك جواباً عن ذلك اللغز. اكتفيتُ بالقول:
- الحق أني لا أدري كيف حدث هذا. إنه أمر لا يصدقه العقل !
بقينا صامتَين وواجمَين بضع لحظات. كان الرضيع يشبهها غاية الشبه. قلتُ لها دون تفكير:
- ربما هو طفلك.
أجابتني دون أن ترفع عينيها عن الصورة:
- لستُ متزوجة، أنا ما زلتُ طالبة في كلية الطب.
قلتُ وأنا أحاول أن أبتسم:
- إذن فهو الطفل الذي ستلدينه إن شاء الله بعد سنوات، حينما تصيرين طبيبة وزوجة.
انتزعتْ مني هاتفها المحمول وقالت لي بشيء من الحدة:
- يمكنك الانصراف الآن يا سيدي.
كنتُ أتمنى لو أعطتني فرصة أخرى، لألتقط لها صورة جديدة. ينبغي أن لا يقتصر الأمر أبداً على فرصة واحدة في هذه الحياة. لكن من يدري؟ ربما تبدو في الصورة الثانية عروسا في ليلة زفافها،أو طبيبة في عيادتها، أو حتى عجوزا في أرذل العمر!
نعم، من يدري؟ هذا ما بقيتُ أردده في نفسي، عند دخولي إلى محطة القطار. كان لدي ما يكفي من الوقت للتفكير في مختلف الاحتمالات. فقطار التاسعة قد انطلق قبل ربع ساعة. وعلي أن أنتظر ساعتين أو أزيد قبل وصول القطار الذي يليه.
* أديب وطبيب نفسي من المغرب.