» اِقْرأ يا » حمّة « بصوت خافت. لا تغنّي يا ولدي ! ورتّل القرآن ترتيلا ! «
ظلّ المؤدّب يردّد هذه اللاّزمة كلّما علا صوتي في الجامع الكبير. يردّدها لنفسه وللعالَمين. ويستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم همْسا وجهْرا وَيُهمهم :
- في صوت هذا الولد غواية ! والعاقبة للمتّقين !
وما كنت أعرف الفرق بين الغناء والتّرتيل. الكلّ عندي سواء !
المهمّ أن تخرج الحروف والكلمات من حلقي حُلوة منغّمة، أطرب لها ويطرب لها أصحابي تلاميذ مجالس حفظ القرآن في مساجد الجريد.
أنطلقُ في القراءة فيكفّ الجميع عن الكلام، ويصمت المؤدّب أيضا ويكفّ عن الضّرب بعصاه على الألواح والجدران.
وينطلق صوتي رخيما، عذبا، يعبر الأزمان والأمكنة، فتخرج النّساء من منازلهنّ ويقفن أمام باب »الخُلوة« التّي كنّا نحفظ فيها القرآن. يقفن تحت لهب الشّمس وصهد » الشّهيلي « وكأنّهنّ خارج الوعي بالموجدات الحسيّة. وتعتريهنّ حالات من الوجْد فيبكين، ويتوجّعن أو يطوّحن بالشّعر في كلّ الاتجاهات أو ينحْن أو يغنّين ورائي. يردّدن الآيات بأصواتهنّ الرّخيمة إلى أن ينادي المنادي لصلاة العصر، فيعدْن لمنازلهنّ، ويقفن أمام الأبواب وَجِلات كطيور الحجل، يَرْقُبن بشغف خبط عصاي على حجارة الحيطان فيعطينني هدايا صغيرة : قطع نقديّة مثقوبة من الوسط، وحبّات حمّص مُملّح، وكسرة خبز، وقطعة من جبن الماعز اليابس وشربة ماء باردة من سِماط يتدلّى على كتف عجوز أقسمت برحمة العزيز أن تسقي كلّ يوم سِرْب طيور الجنّة الحافظين في صدورهم كلام الربّ .
ظللت أقرأ القرآن . أرتّله للمؤدّب وأغنّيه للنّساء إلى أن حفظت الستّين ولم أبلغ الخامسة عشرة من عمري فقال لي المُقرئ يوم « الِختمة »* :
- الآن أتمّ عليك الربّ نعمته فغادرْ هذا المكان يا ولدي وابحثْ لك عن طريق أخرى توصلك إلى وجه الله !
وعرفت طريقي .
هِمت في دروب الصّحراء . أخرج كلّ صباح بعد صلاة الصّبح أطرق أبوب المجدبة الكبرى . دليلي قلب تسْطع منه أضواء تقود خطاي إلى ظِلّ أشجار الطّلح والنّخيل . أتدبّر طعامي وشرابي من رُعيان الماعز والبُعران . أكرّر السّور صبْحا ومساء حتّى لا أنساها فينطفئ في قلبي النّور الذّي يهديني سواء السّبيل. وأغنّي ليلا في أعراس البادية. أغنّي للمخمورين والمجانين فتنفتح في وجهي أبواب السّماء.
في الخريف أوصلني أبي إلى جامع الفرْكوس(1). أجلسني جانب سارية وذهب. لم أتألّم كثيرا لضياع خطاه وراء الباب. ولم أتألّم لأنّ أمّي لم تدسّ في زوّادتي جبن الماعز. ولكنّني تألّمت لأنّني سأفقد همس المجانين في أذني، وصرير الجنادب، وثغاء الجديان، ونكت الهميان .
وجاء رجل بعد صلاة العشاء إلى ساريتي، طلبني، فقمت أسعى وراءه . قاد عصاي إلى بيت وقال :
- هذا سكنك يا ابن شيخ بني عامر. ستجد أكلك في ركن البيت الأيمن، وكُوز الماء في الرّكن الأيسر، وفراشك فوق الدِكّة. ووضع يدي على دكّة، قستها، فوجدتها ترتفع على سطح الأرض شبْران وبضعة أصابع فاطمأنّ قلبي .
قال وهو يتلطّف :
- هل أعجبك المكان ؟
قلت وأنا أجلس على الدّكة
- المكان بناسه يا سيّدي !
فعاد إلى التلطّف :
- سأصل بعد صلاة الصّبح لأصحبك إلى الجامع . أرجو أن تكون جاهزا بعد الصّلاة .
وأغلق الباب وراءه. وذهب .
وحفظت «سيدي خالد»(2) ثمّ «القطر»(2) فـ «الأشموني الأوّل»(2) و «الأشموني الثّاني»(2). ومرّت أربع سنوات كمرّ السّحاب. ونجحت في اختبار اللّغة. وتفوّقت في حفظ القرآن. وأبدعت في التّجويد. ولكن شيخ جامع «الفرْكوس» عاد إلى اللاّزمة القديمة :
- في صوتك غواية يا ولدي والعاقبة للمتّقين .
وأضاف بعد مدّة :
- الآن أتمّ عليك الربّ نعمته فغادر هذا المكان يا ولدي وابحث لك عن طريق أخرى توصلك إلى وجه الله !
وعرفت طريقي .
صرت نجم أعراس البادية .
أغنّي للنّساء، فيرقصن حتّى يسيل العرق بين النّهود والأرداف.وأقرأ الشّعر للرّجال، فيتهتّك أكثرهم حكمة ووقارا.
وأدخل المجالس بدون استئذان، فليس على المغنّي الأعمى حرج في الدّخول إلى خدور الغواني، والهمس في آذان البنات بكلام الغزل الرّقيق، وقراءة أشعار عمر بن أبي ربيعة على مسامع النّاهدات في غدوّهن ورواحهنّ.
ولم يكن الرّجال يعبأون بوجودي في منازلهم فقد هوّنت عليهم النّساء صحبتي وادّعين أمامهم بأنّني
أكثر براءة مـن طفل في المهد. ولم أدر إلى الآن كيف انطلى هذا الكذب على رجال عشائر الصحراء.
وكبرت وكبر حبّي لهذا العالم المليء بالسّذاجة والفجور. نمت ليال عديدة على أسرّة كبار ملاّكي قطعان الإبل والماعز صحبة نسائهم المتروكات للحرّ والقرّ. نساء صغيرات، لذيذات يطربن عند سماع همسة، ويذبن عندما أعضّهن في شحمة الأذن. واكتشفت بيسر مخابئ أسرار الضّرائر: المرأة الثانية المخذولة من زوج خلبت لبّه حناء الزّوجة الجديدة. والمرأة الثالثة المقهورة بالكحل في عيون الفتيات الصّغيرات والسّواك الطافح حمرة قانية في ثغور الكهلات.
وعيل صبر أبي فباع جنة نخيل ورثها عن أمه ودسّ ثمنها في جيبي وهو يقول:
- لعبتَ ما فيه الكفاية وجاءت الآن ساعة الجدّ. معك في جيبك عرق الأجداد وفي قلبك كلام الله فلا تفرط فيهما إلاّ في ما يرضيه.
ووضع يده على رأسي وقرأ سورتي
وأركبني القطار الذّاهب إلى «تونس».
بعد سنتين مات أبي وكنت قبل موته قد فرّطت في جيبي وفي قلبي. فرّطت فيهما في ما لا يرضي الله.
أذكر إلى الآن ساحة المحطة. كانت ملأى بضجيج لم أعتده من قبل: أبواق سيّارات، ونداءات باعة، وصهيل أحصنة، وقرقعة عجلات.
ظللت ضائعا في هذا المكان. وخفت أن يكون أبناء العم قد نسوا موعد وصول القطار.
واقتربت منّي أصوات تسأل عن وجهتي فافتعلت الصّمم. وحطّ أحدهم يده على كتفي. لمس برنسي الجريدي الجديد فدفعته برفق وبقيت يقضا أحرس أدباشي إلى أن هجم عليّ الجميع دفعة واحدة بالسّلامات الحارة والشدّ على اليدين والقبل على الخدين.
جاء الأصحاب وأبناء العم الذين غادروا الجريد منذ أزمان للدّراسة وتحصيل العلم في جامع الزيتونة. فأكلت عقولهم الأغوال الحارسة لبوّبات هذه المدينة العجيبة. فضاعوا ونسوا الدّروب المؤدية للصحراء. قادوا عصاي إلى مساكنهم في أحياء المدينة القديمة وهم يسألون عن الرّمال المتحوّلة، ورياح الشهيلي، وهدير الجمال، وعصير الجمار المخمّر.
جربت الجلوس في حلقات دروس الجامع الأعظم سنة كاملة، تعلّمت خلالها كيف أجوّد القرآن. وحفظت في داري كثيرا من الشّعر. وعشقت حكايات المجانين .
وثقلت على قلبي دروس النحو والصّرف والبلاغة. وركبنى الهمّ وأنا استمع إلى تقعّر الأساتذة الشيوخ أولاد العاصمة والحرير. فجنّ جنونى. فعدت إلى قراءة القرآن بصوت أغنّ أربك شيوخ الجامع والمصلّين. ظلوا يستمتعون بقراءتى أيّاما ثم دعانى ذات ظهيرة «القائم بأمرالله البيرمى» إلى مجلسه. امتحنني نصف ساعة ثم قال :
- في صوتك غواية يا ولدي ! أنت مسكون بالشّياطين فغادر هذا المكان يا يرحمك الله !
امثلت لأمر الشيخ وبيّت في نفسي شيئا .
ظهيرة اليوم الموالي سبقت المصلّين إلى الجامع. وعندما رفع المؤذّن صوته مناديا لصلاة العصر كنت قد توسّطت المحراب. وضعت يدي وراء أذني ولعلع صوتي بموّال من الشّعر الملحون، شعر البادية المتاخمة لسباخ شطّ الجريد. ارتفع الصّوت صافيا كالنّقر على النّحاس ، لذيذا كنسائم الرّبيع المضمّخة بالعطر.
ارتبك كلّ من في المسجد فبقوا واقفين . وتردّد صوتي من جديد في أركان المسجد الجامع. ظلّ يتردّد إلى أن أنهى المؤذن نداءه. وكنت نشوان أطير بألف جناح وجناح. ثمّ فجأة هبطت عليّ السكينة ووقعت على الأرض. فتكأكأ عليّ الخلق، وجرّوني من رجلي خارج المسجد كما تجرّ الجيفة وألقوا بي خارج الأسوار المقدّسة.
كنت أتدحرج على الدّرجات حين بلغ سمعي صياح الشيخ البيرمي :
- ألم أقل لكم إنّ هذا الأعمى مسكون بالشّياطين !اضربوه بالسّياط إذا عاد مرّة أخرى أمام باب الله !
وانصرفوا إلى صلاتهم فانصرفت إلى مجالس أولاد العمّ. حدّثتهم بحديث «القائم بأمر الله» وما لقيته من مِحن وشدائد فهنّأوني بالسّلامة وأفسحوا لي في مجلسهم مكان الصّدر .
ودارت الكؤوس، فأنّ العود وطَنّ الطّار وارتفعت المواويل . ودار رأسي فقال قائلهم :
- « سارة » اليهوديّة تسأل عنك يا ابن شيخ بني عامر. ماذا لو زرت مجلس طربها معنا يا رجل!
وأخبروني أنّهم حدّثوها كثيرا عنّي وأنّها في شوق كبير لرؤيتي. وقالوا إنّها ستُجنّ إذا سمعت صوتي.
فوعدتهم خيرا ولكنّني تماديت في الذّهاب إلى الجامع الأعظم. وتمادى حرّاس الأبواب في ضربي بالسّياط ودحرجتي على الدّرج إلى أن يئست من رحمة ربّي فذهبت إلى دار «سارّة» في حيّ «الحفصيّة».
ليلتها احتفى بي الجماعة. نصبوا لي سُرادقا عظيما وأجلسوني في صدره. وغنّت لي اليهوديّة. وضربت قيانها على العود. ورقصن. وجلسن في حضني. وأذقْنني فنونا من الدّلال لم تكن تخطر لي على بال.
وعندما همّ أولاد العم بالرّواح، طلبت منهم «سارة» أن تستبقيني في ضيافتها أيّاما ، فوافقوا .
وعلّمتني اليهوديّة الغناء كلّه في ستّة أيّام، وتوّجتني بتاجها في اليوم السّابع. فاستويت سلطانا على قلبها. أأمر فتطيع. وأطلب فتلبّي. والنّاس حيارى لا يدرون بأيّ سحر سحرتها إلى أن قالت لهم :
- لو تدرون بماذا يُدلّلني لابْتَلَعْتُمْ ألسنتكم ولمتّم كمدا !
وواصل جماعة من عليّة القوم لومها. وكانت تباشير الرّبيع قد هلّت. فحوّلت مجلس غنائها من وسط قاعة الأنس إلى ساحة الدّار. وتهيّأت وهيّأتني وعند منتصف اللّيل احتضنت عودها ولامست أوتاره بريشة السّحر وطلبت منّي أن أغنّي :
« يلومني فيك أقوام أجالسهم
فما أبالي أطار اللّوم أم وقعا »
فغنّيت ! فأجدتُ
فقالت :
- أعد! فداك بايات تونس !
فأعدت، فطربتْ وصاحتْ :
- أعد! فداك سلاطين مصر والقسطنطينيّة !
وظلّت تضرب على العود وأنا أعيد الغناء إلى أن امتلأت السّطوح المجاورة لدارها بالوجوه:
نساء صبوحات كالأهلّة، ورجال كهول رموْنا بقطع ذهبيّة، وصبيان، وفتيات، وعجائز تابعوا الغناء همسا في الأوّل ثمّ جهر كهل بالبيت ورائي وتبعه آخر، وغنّت امرأة فجاوبتها أخرى.
وتحوّلت السّطوح إلى جوْقة تردّد هذا البيت الشّعري، و«سارة» اليهوديّة تضرب على العود إلى أن وقعت مغشيّا عليها فرشّتها جارية بماء الورد. وتعاون عليها الخدم والحشم فحملوها إلى بيت نومها وظلّوا في خدمتها إلى أن أفاقت. فسألت عنّي بلهفة. فقيل لها إنّني عدت مع صحبي إلى داري. فحلفت أن لا أنام أبدا في دار غير دارها ما دامت على قيْد الحياة. وبعثت خدمها في اثري فسبقوا وصولنا إلى البيت.
وحثّني أبناء العمّ على تلبية رغبة « السّلطانة » فامتثلت لأمرهم وعدت إلى دار المغنيّة اليهوديّة .
كانت «سارة» قد رتّبت الأمور. أوقفت صفّين من البنات على جانبيْ السّقيفة وأعطت لكلّ واحدة سكّينا وتفّاحة وطلبت منهنّ أن يقطّعن التّفاح حين أمرّ من أمامهنّ .
ومررتُ. فقطّعت البنات أصابعهنّ ونجا التّفاح .
فأقسمتْ « سارّة » بمُوسى وشمُوئيل، وسُليمان وحزْقئيل أن أَطَأَ هذه البنات حتّى تكفّ بقيّة نسـاء « تونس » عن لوْمها فِيَّ، وتخْرس ألسنة السّـوء. فصرت كلّ ليلة أشتـري الحرَام بالحلال. أدفع لواحدة أغنية وللأخرى موّالا. والبنات لا يجرأْن على صكّ الباب في وجهي .
يقلن لبعضهنّ :
- من يمكنها أن تمنع «يوسف» صاحب اليهوديّة عن فراشها ؟ فتمتلئ القلوب باللّوعة والصّدور بالشّهقات .
* * *
سمعت هذه الحكاية من مطرب غنّى في مهرجان «البُرْج» الصّائفة الفارطة. دعونا فرقة «النّجوم الزّاهرة» لإقامة حفل في «قفصة» فجاء أفرادها خفافا، مطربين شبّانا ومطربات فاتنات وراقصين وراقصات، وصاحبهم ساعة الوصول إلى مسرح الهواء الطّلق كهل يحمل في يده عودا ويضع في عنقه ربطة على شكل فراشة ويرتدي بذلة خفيفة من طراز أربعينات القرن الماضي .
هيّأ الجماعة الرّكح. وضعوا المصادح ومكبّرات الصّوت في أماكنها. وفرشوا الزّرابي. ونصبوا الكراسي. وجرّبوا الآلات الموسيقيّة، والرّجل، صاحب العود يدبّر معهم الأمور، كبيرها وصغيرها إلى أن امتلأ المسرح بالمريدين وابتدأ الحفل .
غنّت المطربات الشّابات. وغنّى مطربو الجيل الجديد. فرقص الحاضرون وصفّقوا . وهاج السّكارى وماجوا. وانتهى الحفل بوصلة للمطربـة « عائشة » عند منتصف اللّيل .
في فترات الاستراحة، كان الرّجل، صاحب العود يتوسّط الرّكح ويحتضن عوده ويغنّي. كان يُغنّي أغاني قديمة من التّراث، مرّة مصحوبا بدَنْدنات عوده، ومرّات بدون موسيقى.
يرتفع صوته جهوريّا يملأ الفضاء الواسع فتتردّد أصداءه في أجواء الواحة القريبة . ويلذّ للجمهور سماع آهاته ومووايله . فيكفّ الرّاقصون عن الرّقص وتخفّ الحركة في المدرّجات. وينشدّ الجميع إلى هذا الصّوت الطّالع من غياهب الزّمن .
وتعود المطربات الصّاعدات إلى الرّكح فيعود الهرج ويصمت المغنّي. عند انتهاء الحفل، ذهبت لمقابلة قائد فرقة «النّجوم الزّاهرة» لأشكره ولأسأله عن هذا المطرب الكهل الذّي لم يحصل لي شرف التعرّف عليه قبل هذه اللّيلة، فبان الاستغراب في وجهه وكست الحيرة محيّاه وهو يقول :
- لقد أخبرني حين إلتقيته على الرّكح أنّه قائد فرقة دار الثّقافة للموسيقى الشّعبيّة !
فزاد استغرابي وبعثت العملة للبحث عنه فلم يجدوا له أثرا.
فسكتّ. وسكت قائد «النّجوم الزّاهرة» وكلّ منّا يظن أنّه مَقْلبٌ من مقالب الآخر. ثمّ نقدت الجماعة أجرتهم وودّعتهم على أمل اللّقاء بهم في مناسبة أخرى. وشغّلت محرّك سيّارتي، فقد وعدت الوالد بزيارة إلى البلد بعد الانتهاء من مراسيم حفل افتتاح المهرجان .
قريبا من القنطرة الرّاقدة فوق وادي « القويفلة»* رأيت صاحبي. كان واقفا على حاشية الطّريق. يحمل عوده بيد ويشير بالأخرى أن قفْ.
أوقفت السّيارة فجاء يركض. وأنزلت زجاج النّافذة فقال بصوت مشحون بالرّجاء :
- هل تسمح بأن أصاحبك إلى « توزر» يا سيّدي ؟
قلت :
- أولست المطرب الذّي كان يُغنّي على مسرح البُرجْ ؟
قال :
- أيْ نعم ! سمعت في الإذاعة أنّ «عائشة» ستغنّي في الحفل فحملت عودي وجئت إلى «قفصة».
استثارني ردّه ففتحت له الباب .
رئيس فرقة «النّجوم الزّاهرة» لا يكذب إذن ! وغناء هذا الرّجل لم يكن كما ظننت مقلبا من مقالبه!
فمن يكون هذا المغنّي ؟
وكأنّه حدس ما يجول في خاطري فعاد إلى الحديث عن عائشة وعن صليحة وعلي الرّياحي وحبيبة مسيكة ولوُرْداكاش واحتضن عوده وبدأ يُغنّي :
« بخنوق بنت المحاميد عيشهْ،
ريشهْ بريشه،ْ
وعامين ما يكمّلوشْ نقيشة.
يا كذّابهْ .
قُلْتْ نهار السّوق يا كذّابهْ
تعدّيتْ على حوشكْ امسَكّرْ بابهْ .
قلت نهار السّوق »
وتنهّد .
فقلت له :
- لماذا لمْ تعد إلى تونس مع فرقة «النّجوم الزّاهرة »؟
ولمّا لم يجب عن سؤالي أضفت بعد دقائق :
- أنا مدير المهرجان، وقد نقدتهم أجرتهم، فلماذا غادرت المسرح قبل انتهاء الحفل ؟
ظلّ مدّة ساكتا ثمّ قال :
- أنا « حمّة » ! « حمّة » ابن شيخ « بني عامر» .
كان المؤدّب يقول لي كلّما علا صوتي في الجامع الكبير :
- اِقْرأْ يا « حمّة » بصوت خافت. لا تغنّي يا ولدي ! ورتّل القرآن ترتيلا ...
ويستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم ويهمهم :
- في صوت هذه الولد غواية والعاقبة للمتّقين .
* * *
قبل الوصول لباب « توزر » ببضعة كيلومترات طلب منّي أن أوقف السّيارة، وعندما امتثلت لأمره، احتضن عوده وفتح الباب وغاب في الظّلام .
وواصلت طريقي، فوجدت أبي واقفا أمام باب دارنا تنهشه الحيرة.
سألني:
- لِمَ كلّ هذا التّأخّر ؟
فأخبرته بقصّة « حمّة » ابن سيخ بني عامر .
ولمّا استغرب سألته : فيم العجب ؟
فقال :
- هو ابن عمّك يا ولدي ! مات قبل أن تولد بثلاث سنوات . ذهب إلى تونس للدّراسة فتولّه بمغنّية يهوديّة علّمته الضّرب على العود والغناء في دور الأكابر. فنسي القرآن وحفظ الشّعر والطّقاطيق.
ولمّا سمع أبوه الخبر طرده من رحمته وظلّ حزينا مجروح القلب إلى أن عَيَّرَهُ به خصيم فمات كمدا.
ومات « حمّة » منذ ثلاثين سنة. شنق نفسه في عمود كهرباء «عام النّكسة» بعد أن هربت «سارة» اليهوديّة إلى «إسرائيل» بأيّام قليلة .
ابراهيم درغوثي / تونس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرع جامعة الزيتونة في الجريد .
(2) شروح لمتون في النّحو والصّرف تؤهّل حافظها للحصول على شهادة الأهليّة والدّراسة في جامع الزّيتونة .
وادي*« القويفلة»: مجرى واد يفصل بين ولايتي توزر وقفصة في الجنوب الغربي لتونس
ظلّ المؤدّب يردّد هذه اللاّزمة كلّما علا صوتي في الجامع الكبير. يردّدها لنفسه وللعالَمين. ويستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم همْسا وجهْرا وَيُهمهم :
- في صوت هذا الولد غواية ! والعاقبة للمتّقين !
وما كنت أعرف الفرق بين الغناء والتّرتيل. الكلّ عندي سواء !
المهمّ أن تخرج الحروف والكلمات من حلقي حُلوة منغّمة، أطرب لها ويطرب لها أصحابي تلاميذ مجالس حفظ القرآن في مساجد الجريد.
أنطلقُ في القراءة فيكفّ الجميع عن الكلام، ويصمت المؤدّب أيضا ويكفّ عن الضّرب بعصاه على الألواح والجدران.
وينطلق صوتي رخيما، عذبا، يعبر الأزمان والأمكنة، فتخرج النّساء من منازلهنّ ويقفن أمام باب »الخُلوة« التّي كنّا نحفظ فيها القرآن. يقفن تحت لهب الشّمس وصهد » الشّهيلي « وكأنّهنّ خارج الوعي بالموجدات الحسيّة. وتعتريهنّ حالات من الوجْد فيبكين، ويتوجّعن أو يطوّحن بالشّعر في كلّ الاتجاهات أو ينحْن أو يغنّين ورائي. يردّدن الآيات بأصواتهنّ الرّخيمة إلى أن ينادي المنادي لصلاة العصر، فيعدْن لمنازلهنّ، ويقفن أمام الأبواب وَجِلات كطيور الحجل، يَرْقُبن بشغف خبط عصاي على حجارة الحيطان فيعطينني هدايا صغيرة : قطع نقديّة مثقوبة من الوسط، وحبّات حمّص مُملّح، وكسرة خبز، وقطعة من جبن الماعز اليابس وشربة ماء باردة من سِماط يتدلّى على كتف عجوز أقسمت برحمة العزيز أن تسقي كلّ يوم سِرْب طيور الجنّة الحافظين في صدورهم كلام الربّ .
ظللت أقرأ القرآن . أرتّله للمؤدّب وأغنّيه للنّساء إلى أن حفظت الستّين ولم أبلغ الخامسة عشرة من عمري فقال لي المُقرئ يوم « الِختمة »* :
- الآن أتمّ عليك الربّ نعمته فغادرْ هذا المكان يا ولدي وابحثْ لك عن طريق أخرى توصلك إلى وجه الله !
وعرفت طريقي .
هِمت في دروب الصّحراء . أخرج كلّ صباح بعد صلاة الصّبح أطرق أبوب المجدبة الكبرى . دليلي قلب تسْطع منه أضواء تقود خطاي إلى ظِلّ أشجار الطّلح والنّخيل . أتدبّر طعامي وشرابي من رُعيان الماعز والبُعران . أكرّر السّور صبْحا ومساء حتّى لا أنساها فينطفئ في قلبي النّور الذّي يهديني سواء السّبيل. وأغنّي ليلا في أعراس البادية. أغنّي للمخمورين والمجانين فتنفتح في وجهي أبواب السّماء.
في الخريف أوصلني أبي إلى جامع الفرْكوس(1). أجلسني جانب سارية وذهب. لم أتألّم كثيرا لضياع خطاه وراء الباب. ولم أتألّم لأنّ أمّي لم تدسّ في زوّادتي جبن الماعز. ولكنّني تألّمت لأنّني سأفقد همس المجانين في أذني، وصرير الجنادب، وثغاء الجديان، ونكت الهميان .
وجاء رجل بعد صلاة العشاء إلى ساريتي، طلبني، فقمت أسعى وراءه . قاد عصاي إلى بيت وقال :
- هذا سكنك يا ابن شيخ بني عامر. ستجد أكلك في ركن البيت الأيمن، وكُوز الماء في الرّكن الأيسر، وفراشك فوق الدِكّة. ووضع يدي على دكّة، قستها، فوجدتها ترتفع على سطح الأرض شبْران وبضعة أصابع فاطمأنّ قلبي .
قال وهو يتلطّف :
- هل أعجبك المكان ؟
قلت وأنا أجلس على الدّكة
- المكان بناسه يا سيّدي !
فعاد إلى التلطّف :
- سأصل بعد صلاة الصّبح لأصحبك إلى الجامع . أرجو أن تكون جاهزا بعد الصّلاة .
وأغلق الباب وراءه. وذهب .
وحفظت «سيدي خالد»(2) ثمّ «القطر»(2) فـ «الأشموني الأوّل»(2) و «الأشموني الثّاني»(2). ومرّت أربع سنوات كمرّ السّحاب. ونجحت في اختبار اللّغة. وتفوّقت في حفظ القرآن. وأبدعت في التّجويد. ولكن شيخ جامع «الفرْكوس» عاد إلى اللاّزمة القديمة :
- في صوتك غواية يا ولدي والعاقبة للمتّقين .
وأضاف بعد مدّة :
- الآن أتمّ عليك الربّ نعمته فغادر هذا المكان يا ولدي وابحث لك عن طريق أخرى توصلك إلى وجه الله !
وعرفت طريقي .
صرت نجم أعراس البادية .
أغنّي للنّساء، فيرقصن حتّى يسيل العرق بين النّهود والأرداف.وأقرأ الشّعر للرّجال، فيتهتّك أكثرهم حكمة ووقارا.
وأدخل المجالس بدون استئذان، فليس على المغنّي الأعمى حرج في الدّخول إلى خدور الغواني، والهمس في آذان البنات بكلام الغزل الرّقيق، وقراءة أشعار عمر بن أبي ربيعة على مسامع النّاهدات في غدوّهن ورواحهنّ.
ولم يكن الرّجال يعبأون بوجودي في منازلهم فقد هوّنت عليهم النّساء صحبتي وادّعين أمامهم بأنّني
أكثر براءة مـن طفل في المهد. ولم أدر إلى الآن كيف انطلى هذا الكذب على رجال عشائر الصحراء.
وكبرت وكبر حبّي لهذا العالم المليء بالسّذاجة والفجور. نمت ليال عديدة على أسرّة كبار ملاّكي قطعان الإبل والماعز صحبة نسائهم المتروكات للحرّ والقرّ. نساء صغيرات، لذيذات يطربن عند سماع همسة، ويذبن عندما أعضّهن في شحمة الأذن. واكتشفت بيسر مخابئ أسرار الضّرائر: المرأة الثانية المخذولة من زوج خلبت لبّه حناء الزّوجة الجديدة. والمرأة الثالثة المقهورة بالكحل في عيون الفتيات الصّغيرات والسّواك الطافح حمرة قانية في ثغور الكهلات.
وعيل صبر أبي فباع جنة نخيل ورثها عن أمه ودسّ ثمنها في جيبي وهو يقول:
- لعبتَ ما فيه الكفاية وجاءت الآن ساعة الجدّ. معك في جيبك عرق الأجداد وفي قلبك كلام الله فلا تفرط فيهما إلاّ في ما يرضيه.
ووضع يده على رأسي وقرأ سورتي
وأركبني القطار الذّاهب إلى «تونس».
بعد سنتين مات أبي وكنت قبل موته قد فرّطت في جيبي وفي قلبي. فرّطت فيهما في ما لا يرضي الله.
أذكر إلى الآن ساحة المحطة. كانت ملأى بضجيج لم أعتده من قبل: أبواق سيّارات، ونداءات باعة، وصهيل أحصنة، وقرقعة عجلات.
ظللت ضائعا في هذا المكان. وخفت أن يكون أبناء العم قد نسوا موعد وصول القطار.
واقتربت منّي أصوات تسأل عن وجهتي فافتعلت الصّمم. وحطّ أحدهم يده على كتفي. لمس برنسي الجريدي الجديد فدفعته برفق وبقيت يقضا أحرس أدباشي إلى أن هجم عليّ الجميع دفعة واحدة بالسّلامات الحارة والشدّ على اليدين والقبل على الخدين.
جاء الأصحاب وأبناء العم الذين غادروا الجريد منذ أزمان للدّراسة وتحصيل العلم في جامع الزيتونة. فأكلت عقولهم الأغوال الحارسة لبوّبات هذه المدينة العجيبة. فضاعوا ونسوا الدّروب المؤدية للصحراء. قادوا عصاي إلى مساكنهم في أحياء المدينة القديمة وهم يسألون عن الرّمال المتحوّلة، ورياح الشهيلي، وهدير الجمال، وعصير الجمار المخمّر.
جربت الجلوس في حلقات دروس الجامع الأعظم سنة كاملة، تعلّمت خلالها كيف أجوّد القرآن. وحفظت في داري كثيرا من الشّعر. وعشقت حكايات المجانين .
وثقلت على قلبي دروس النحو والصّرف والبلاغة. وركبنى الهمّ وأنا استمع إلى تقعّر الأساتذة الشيوخ أولاد العاصمة والحرير. فجنّ جنونى. فعدت إلى قراءة القرآن بصوت أغنّ أربك شيوخ الجامع والمصلّين. ظلوا يستمتعون بقراءتى أيّاما ثم دعانى ذات ظهيرة «القائم بأمرالله البيرمى» إلى مجلسه. امتحنني نصف ساعة ثم قال :
- في صوتك غواية يا ولدي ! أنت مسكون بالشّياطين فغادر هذا المكان يا يرحمك الله !
امثلت لأمر الشيخ وبيّت في نفسي شيئا .
ظهيرة اليوم الموالي سبقت المصلّين إلى الجامع. وعندما رفع المؤذّن صوته مناديا لصلاة العصر كنت قد توسّطت المحراب. وضعت يدي وراء أذني ولعلع صوتي بموّال من الشّعر الملحون، شعر البادية المتاخمة لسباخ شطّ الجريد. ارتفع الصّوت صافيا كالنّقر على النّحاس ، لذيذا كنسائم الرّبيع المضمّخة بالعطر.
ارتبك كلّ من في المسجد فبقوا واقفين . وتردّد صوتي من جديد في أركان المسجد الجامع. ظلّ يتردّد إلى أن أنهى المؤذن نداءه. وكنت نشوان أطير بألف جناح وجناح. ثمّ فجأة هبطت عليّ السكينة ووقعت على الأرض. فتكأكأ عليّ الخلق، وجرّوني من رجلي خارج المسجد كما تجرّ الجيفة وألقوا بي خارج الأسوار المقدّسة.
كنت أتدحرج على الدّرجات حين بلغ سمعي صياح الشيخ البيرمي :
- ألم أقل لكم إنّ هذا الأعمى مسكون بالشّياطين !اضربوه بالسّياط إذا عاد مرّة أخرى أمام باب الله !
وانصرفوا إلى صلاتهم فانصرفت إلى مجالس أولاد العمّ. حدّثتهم بحديث «القائم بأمر الله» وما لقيته من مِحن وشدائد فهنّأوني بالسّلامة وأفسحوا لي في مجلسهم مكان الصّدر .
ودارت الكؤوس، فأنّ العود وطَنّ الطّار وارتفعت المواويل . ودار رأسي فقال قائلهم :
- « سارة » اليهوديّة تسأل عنك يا ابن شيخ بني عامر. ماذا لو زرت مجلس طربها معنا يا رجل!
وأخبروني أنّهم حدّثوها كثيرا عنّي وأنّها في شوق كبير لرؤيتي. وقالوا إنّها ستُجنّ إذا سمعت صوتي.
فوعدتهم خيرا ولكنّني تماديت في الذّهاب إلى الجامع الأعظم. وتمادى حرّاس الأبواب في ضربي بالسّياط ودحرجتي على الدّرج إلى أن يئست من رحمة ربّي فذهبت إلى دار «سارّة» في حيّ «الحفصيّة».
ليلتها احتفى بي الجماعة. نصبوا لي سُرادقا عظيما وأجلسوني في صدره. وغنّت لي اليهوديّة. وضربت قيانها على العود. ورقصن. وجلسن في حضني. وأذقْنني فنونا من الدّلال لم تكن تخطر لي على بال.
وعندما همّ أولاد العم بالرّواح، طلبت منهم «سارة» أن تستبقيني في ضيافتها أيّاما ، فوافقوا .
وعلّمتني اليهوديّة الغناء كلّه في ستّة أيّام، وتوّجتني بتاجها في اليوم السّابع. فاستويت سلطانا على قلبها. أأمر فتطيع. وأطلب فتلبّي. والنّاس حيارى لا يدرون بأيّ سحر سحرتها إلى أن قالت لهم :
- لو تدرون بماذا يُدلّلني لابْتَلَعْتُمْ ألسنتكم ولمتّم كمدا !
وواصل جماعة من عليّة القوم لومها. وكانت تباشير الرّبيع قد هلّت. فحوّلت مجلس غنائها من وسط قاعة الأنس إلى ساحة الدّار. وتهيّأت وهيّأتني وعند منتصف اللّيل احتضنت عودها ولامست أوتاره بريشة السّحر وطلبت منّي أن أغنّي :
« يلومني فيك أقوام أجالسهم
فما أبالي أطار اللّوم أم وقعا »
فغنّيت ! فأجدتُ
فقالت :
- أعد! فداك بايات تونس !
فأعدت، فطربتْ وصاحتْ :
- أعد! فداك سلاطين مصر والقسطنطينيّة !
وظلّت تضرب على العود وأنا أعيد الغناء إلى أن امتلأت السّطوح المجاورة لدارها بالوجوه:
نساء صبوحات كالأهلّة، ورجال كهول رموْنا بقطع ذهبيّة، وصبيان، وفتيات، وعجائز تابعوا الغناء همسا في الأوّل ثمّ جهر كهل بالبيت ورائي وتبعه آخر، وغنّت امرأة فجاوبتها أخرى.
وتحوّلت السّطوح إلى جوْقة تردّد هذا البيت الشّعري، و«سارة» اليهوديّة تضرب على العود إلى أن وقعت مغشيّا عليها فرشّتها جارية بماء الورد. وتعاون عليها الخدم والحشم فحملوها إلى بيت نومها وظلّوا في خدمتها إلى أن أفاقت. فسألت عنّي بلهفة. فقيل لها إنّني عدت مع صحبي إلى داري. فحلفت أن لا أنام أبدا في دار غير دارها ما دامت على قيْد الحياة. وبعثت خدمها في اثري فسبقوا وصولنا إلى البيت.
وحثّني أبناء العمّ على تلبية رغبة « السّلطانة » فامتثلت لأمرهم وعدت إلى دار المغنيّة اليهوديّة .
كانت «سارة» قد رتّبت الأمور. أوقفت صفّين من البنات على جانبيْ السّقيفة وأعطت لكلّ واحدة سكّينا وتفّاحة وطلبت منهنّ أن يقطّعن التّفاح حين أمرّ من أمامهنّ .
ومررتُ. فقطّعت البنات أصابعهنّ ونجا التّفاح .
فأقسمتْ « سارّة » بمُوسى وشمُوئيل، وسُليمان وحزْقئيل أن أَطَأَ هذه البنات حتّى تكفّ بقيّة نسـاء « تونس » عن لوْمها فِيَّ، وتخْرس ألسنة السّـوء. فصرت كلّ ليلة أشتـري الحرَام بالحلال. أدفع لواحدة أغنية وللأخرى موّالا. والبنات لا يجرأْن على صكّ الباب في وجهي .
يقلن لبعضهنّ :
- من يمكنها أن تمنع «يوسف» صاحب اليهوديّة عن فراشها ؟ فتمتلئ القلوب باللّوعة والصّدور بالشّهقات .
* * *
سمعت هذه الحكاية من مطرب غنّى في مهرجان «البُرْج» الصّائفة الفارطة. دعونا فرقة «النّجوم الزّاهرة» لإقامة حفل في «قفصة» فجاء أفرادها خفافا، مطربين شبّانا ومطربات فاتنات وراقصين وراقصات، وصاحبهم ساعة الوصول إلى مسرح الهواء الطّلق كهل يحمل في يده عودا ويضع في عنقه ربطة على شكل فراشة ويرتدي بذلة خفيفة من طراز أربعينات القرن الماضي .
هيّأ الجماعة الرّكح. وضعوا المصادح ومكبّرات الصّوت في أماكنها. وفرشوا الزّرابي. ونصبوا الكراسي. وجرّبوا الآلات الموسيقيّة، والرّجل، صاحب العود يدبّر معهم الأمور، كبيرها وصغيرها إلى أن امتلأ المسرح بالمريدين وابتدأ الحفل .
غنّت المطربات الشّابات. وغنّى مطربو الجيل الجديد. فرقص الحاضرون وصفّقوا . وهاج السّكارى وماجوا. وانتهى الحفل بوصلة للمطربـة « عائشة » عند منتصف اللّيل .
في فترات الاستراحة، كان الرّجل، صاحب العود يتوسّط الرّكح ويحتضن عوده ويغنّي. كان يُغنّي أغاني قديمة من التّراث، مرّة مصحوبا بدَنْدنات عوده، ومرّات بدون موسيقى.
يرتفع صوته جهوريّا يملأ الفضاء الواسع فتتردّد أصداءه في أجواء الواحة القريبة . ويلذّ للجمهور سماع آهاته ومووايله . فيكفّ الرّاقصون عن الرّقص وتخفّ الحركة في المدرّجات. وينشدّ الجميع إلى هذا الصّوت الطّالع من غياهب الزّمن .
وتعود المطربات الصّاعدات إلى الرّكح فيعود الهرج ويصمت المغنّي. عند انتهاء الحفل، ذهبت لمقابلة قائد فرقة «النّجوم الزّاهرة» لأشكره ولأسأله عن هذا المطرب الكهل الذّي لم يحصل لي شرف التعرّف عليه قبل هذه اللّيلة، فبان الاستغراب في وجهه وكست الحيرة محيّاه وهو يقول :
- لقد أخبرني حين إلتقيته على الرّكح أنّه قائد فرقة دار الثّقافة للموسيقى الشّعبيّة !
فزاد استغرابي وبعثت العملة للبحث عنه فلم يجدوا له أثرا.
فسكتّ. وسكت قائد «النّجوم الزّاهرة» وكلّ منّا يظن أنّه مَقْلبٌ من مقالب الآخر. ثمّ نقدت الجماعة أجرتهم وودّعتهم على أمل اللّقاء بهم في مناسبة أخرى. وشغّلت محرّك سيّارتي، فقد وعدت الوالد بزيارة إلى البلد بعد الانتهاء من مراسيم حفل افتتاح المهرجان .
قريبا من القنطرة الرّاقدة فوق وادي « القويفلة»* رأيت صاحبي. كان واقفا على حاشية الطّريق. يحمل عوده بيد ويشير بالأخرى أن قفْ.
أوقفت السّيارة فجاء يركض. وأنزلت زجاج النّافذة فقال بصوت مشحون بالرّجاء :
- هل تسمح بأن أصاحبك إلى « توزر» يا سيّدي ؟
قلت :
- أولست المطرب الذّي كان يُغنّي على مسرح البُرجْ ؟
قال :
- أيْ نعم ! سمعت في الإذاعة أنّ «عائشة» ستغنّي في الحفل فحملت عودي وجئت إلى «قفصة».
استثارني ردّه ففتحت له الباب .
رئيس فرقة «النّجوم الزّاهرة» لا يكذب إذن ! وغناء هذا الرّجل لم يكن كما ظننت مقلبا من مقالبه!
فمن يكون هذا المغنّي ؟
وكأنّه حدس ما يجول في خاطري فعاد إلى الحديث عن عائشة وعن صليحة وعلي الرّياحي وحبيبة مسيكة ولوُرْداكاش واحتضن عوده وبدأ يُغنّي :
« بخنوق بنت المحاميد عيشهْ،
ريشهْ بريشه،ْ
وعامين ما يكمّلوشْ نقيشة.
يا كذّابهْ .
قُلْتْ نهار السّوق يا كذّابهْ
تعدّيتْ على حوشكْ امسَكّرْ بابهْ .
قلت نهار السّوق »
وتنهّد .
فقلت له :
- لماذا لمْ تعد إلى تونس مع فرقة «النّجوم الزّاهرة »؟
ولمّا لم يجب عن سؤالي أضفت بعد دقائق :
- أنا مدير المهرجان، وقد نقدتهم أجرتهم، فلماذا غادرت المسرح قبل انتهاء الحفل ؟
ظلّ مدّة ساكتا ثمّ قال :
- أنا « حمّة » ! « حمّة » ابن شيخ « بني عامر» .
كان المؤدّب يقول لي كلّما علا صوتي في الجامع الكبير :
- اِقْرأْ يا « حمّة » بصوت خافت. لا تغنّي يا ولدي ! ورتّل القرآن ترتيلا ...
ويستعيذ بالله من الشّيطان الرّجيم ويهمهم :
- في صوت هذه الولد غواية والعاقبة للمتّقين .
* * *
قبل الوصول لباب « توزر » ببضعة كيلومترات طلب منّي أن أوقف السّيارة، وعندما امتثلت لأمره، احتضن عوده وفتح الباب وغاب في الظّلام .
وواصلت طريقي، فوجدت أبي واقفا أمام باب دارنا تنهشه الحيرة.
سألني:
- لِمَ كلّ هذا التّأخّر ؟
فأخبرته بقصّة « حمّة » ابن سيخ بني عامر .
ولمّا استغرب سألته : فيم العجب ؟
فقال :
- هو ابن عمّك يا ولدي ! مات قبل أن تولد بثلاث سنوات . ذهب إلى تونس للدّراسة فتولّه بمغنّية يهوديّة علّمته الضّرب على العود والغناء في دور الأكابر. فنسي القرآن وحفظ الشّعر والطّقاطيق.
ولمّا سمع أبوه الخبر طرده من رحمته وظلّ حزينا مجروح القلب إلى أن عَيَّرَهُ به خصيم فمات كمدا.
ومات « حمّة » منذ ثلاثين سنة. شنق نفسه في عمود كهرباء «عام النّكسة» بعد أن هربت «سارة» اليهوديّة إلى «إسرائيل» بأيّام قليلة .
ابراهيم درغوثي / تونس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فرع جامعة الزيتونة في الجريد .
(2) شروح لمتون في النّحو والصّرف تؤهّل حافظها للحصول على شهادة الأهليّة والدّراسة في جامع الزّيتونة .
وادي*« القويفلة»: مجرى واد يفصل بين ولايتي توزر وقفصة في الجنوب الغربي لتونس