محمد علي شمس الدين - مجابهات بين الشعر والفلسفة حراثة في أرض بور..

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله = إذا القول قبل القائلينَ مقولُ أبو الطيب المتنبي

في قصيدة «لأبي الطيب المتنبي» (915م 965م) يمدح فيها سيف الدول الحمداني، ومطلعها: «ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل» ينتقل إلى مدح نفسه فيقول البيت التالي: «أنا السابق الهادي إلى ما أقوله إذا القولُ قبل القائلينَ مقولُ» ولقد اتفق شراح المتنبي على القول: إنه بيت يدافع به الشاعر عن أصالة قوله وإنه غير مأخوذ من أحد قبله، كما اتهم في بلاط سيف الدولة. لكنني أريد أن أشير في هذا البيت إلى مسألة لم يشر إليها أي من الشراح، وهي انطواؤه على فكرة فلسفية أبعد من ظاهر الدفاع عن أصالة شعر. وهي فكرة أن قوله قديم في تماهٍ مع القائلين بقِدَم قول القرآن. وأن مآربه أبعد من ظواهرها.

إن قرينة كل من مفردي «السابق» و«الهادي» في البيت، وهما متعلقتان بالقدم والهداية، يشيران إلى طموح أبعد من الشعر لدى أبي الطيب. وهو بكل حال قد ادعى النبوة في سن الصبا. وعلى الرغم من أن المستشرق كراتشوفسكي يشك في واقعة ادعائه للنبوة، فإن، «أندريه ميكيل» في مقاله «المتنبي شاعر عربي» يأخذ برأي أستاذه بلاشير الذي اتخذ موقفًا وسطًا معتبرًا ادعاءه للنبوة «مجالًا لطموحاتٍ شخصية استفادت من الحركة القرمطية لكنها لا تنتمي إليها». (المقال في كتاب وقائع مهرجان المتنبي في بغداد 1977م صادر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية 1979م).

***

لا يمكن المرور بمجمل ما يرشح من أشعار أبي الطيب المتنبي من فلسفة كتبها في القرن الرابع للهجرة العاشر للميلاد بكل أُبَّهَتِها وعنفوانها، من دون العروج على فيلسوف القوة الألماني فردريك نيتشه الذي تعدّ فلسفته التي بثها في كتبه في القرن التاسع عشر، مع فلسفة كل من كارل ماركس في رأس المال وسيغموند فرويد في الكشف عن اللاوعي والتحليل النفسي مطلع العصور الحديثة في الغرب. ويكاد يكون هناك تطابق شبه تام بين فقرات عديدة من كتاب نيتشه الأشهر «هكذا تكلم زرادشت» الذي تكلم فيه بلغة شعرية عن فلسفته في الإنسان المتفوق والهدم، والقوة، وبين أشعار أبي الطيب. وقد نكون في حاجة إلى شيء من الاستقصاء التاريخي والمعرفي، لمعرفة ما إذا كان نيتشه قد وصلت إليه مضامين شعر أبي الطيب، إلا أن ذلك لا يمنع من ملاحظة تشابه قوي وجوهري في بعض جمل لنيتشه وأبيات للمتنبي.

يصف نيتشه كيف هبط عليه زرادشت في طبيعة خلابة عجيبة، فقد كان في شروط العافية الكبرى كما يسمّيها، وهي عافية تُرَبَّى باستمرار؛ لأنها تُستهلَك باستمرار. ويصف عنف الإلهام الذي انتابه، فيقول: إن الأشياء تسعى إليه لتمنح نفسها وتتحول إلى رموز. وقد كان يشعر بعظمة ما يكتب، ثم يتكلم عن ضغينة العظمة- تعامل الناس معه وكرههم له- وزرادشت من هو؟ إنه يصف نفسه بأنه النفس التي تملك السلم الأطول والتي بإمكانها النزول إلى أعمق الأعماق. النفس السابقة لنفسها باستمرار، النفس التي تستطيع أن تركض داخل ذاتها (نتذكر قول المتنبي أنا السابق الهادي إلى ما أقوله…) الإنسان إرادة وهدم. كما المطرقة تدفعه دائمًا باتجاه الحجر. إن لي صورة في الحجر. إن علي أن أنهي التمثال. إن نداء كونوا قُساة هو نداء ديونيزيس (ينظر هكذا تكلم زرادشت/ كتاب للجميع ولغير أحد ترجمة علي المصباحي، منشورات دار الجمل ألمانيا).

المعري 937 – 1057م


صاحب «غير مجد في ملتي واعتقادي» شاعر عقل شكاك وملغز. ولد بعد موت المتنبي بثماني سنوات، في المسرح الذي جال فيه أبو الطيب «في معرة النعمان» بجوار حلب، واهتم به فجمع مختارات من شعره سمَّاها «مُعجِز أحمد» هو شاعر عدمية سوداء، يفضل قطع النسل، ووضع نقطة على آخر سطر الخليقة. وهو سُفُسطائيّ على العموم، يمارس «جدلية الشيء في صميم الشيء» بعبارة الشيخ عبدالله العلايلي فيه في كتابه «المعري ذلك المجهول» (1944م)، الذي كشف فيه الستار عن فلسفة المعري الرامزة، المستندة إلى الحرف والعدد متأثرًا بفلسفة إخوان الصفا، الذين كان ينتمي إليهم. إن معرفته فلسفية حروفية كقوله «تواصل حبل النسل ما بين آدم وبيني ولم يوصل بلامي باءُ».

ما معناه؟


يرى العلايلي أن حرف اللام (بعرف المعري) حرف ترابي وحرف الباء حرف هوائي وبالتالي لم يوصل بوجوده الترابي الفاني نسمة هوائية لاستمرار الحياة. أي عنده انقطع النسل. أبو العلاء المعري عقل فلسفي شكاك توسل الشعر وغموضه لمآرب فلسفية. وإن رهين المحبسين وصاحب اللزوميات شك في كل شيء… وكان ينتابه ألم في عقله، شك في الدِّين
«أفيقوا أفيقوا يا غواة، فإنما ديانتكم مكر من القدماء»،

«فلا تحسب مقال الرسل حقًّا = ولكن قول زور سطروه».
وكان الناس في يمن رغيد = فجاؤوا بالمحال فكدروه».

وقد انتقد الحج والوحي وآمن بالعقل، ورأى أن هذه المسألة قديمة:

«في كل جيل أباطيل يدان بها = فهل تفرد يومًا بالهدى جيل».

هذا هو الشعر الفلسفي الشكاك لأعمى المعرة الذي قاله في القرن الرابع للهجرة العاشر للميلاد، قبل شوبنهاور ونيتشه ومالارميه في الغرب.

الحقيقة الفلسفية، الحقيقة الشعرية، الحقيقة العلمية… إلخ


في القرآن حديث عن «الغيب» جاء في ابن منظور «الغيب كل ما غاب عنك…» أبو إسحاق في قوله: «يؤمنون بالغيب» أي يؤمنون بما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الأعرابي: يؤمنون بالله» انتهى .

واضح أن أدنى الغيب هو المستور عن الرؤية، وأقصاه المخبَّأ في ضمير الزمان، وأقصى الأقصى هو الله. إنها الحقيقية الدينية.

تبقى الحقيقة الشعرية والحقيقة الفلسفية والحقيقة العلمية وبخاصة في اللحظة الراهنة حيث تسود اللاحتمية والاحتمالية والمنطق الضبابي والتوهيم والخلل في النظام والتشظي.

هي تجليات لمستور واحد هو مستور ميتافيزيقي (الغيب) وربما جزء منها ما سماه هايدغر «العودة إلى المسافات المقفرة عبر التاريخ». هذا من ناحية إيقاع خط الغيب الناحية الثانية تتعلق بالطريقة، أي الأسلوب في السعي إلى المستور. هل الطريقة تغير الحقيقة؟ نعم ولا. الطريقة هي الحقيقة. الناحية الثالثة تتعلق بالمصطلح. فنحن في هذا الموضوع، أي العلاقة بين الفلسفة والشعر والدين والعلم، وبخاصة العلاقة بين الشعر والفلسفة، نكاد عربيًّا نحرث في أرض بكر، فهذه المجابهات بين الفلسفة والشعر لم تعرفها العربية بخلاف ما هو الحال في اليونان القديمة وأوربا في العصور الحديثة… ولذلك أسباب فإذا كانت الفلسفة على كثرة مذاهبها وتعدد اهتماماتها من البحث عن الله والمجرد والشيء في ذاته تعود إلى متابعات بنيوية وألسنية في اللغة وإلى فلسفات علمية وكوسمولوجية وصولًا إلى فلسفة التشظي والخلل والكاوس فيما يسمى فيزياء المستحيل، تعدّ الشعر من ضمن أملاكها المعرفية، أو من محميات الفلسفة، فإن ثمة تجارب شعرية كثيرة بلغات متنوعة، رأت الفلسفة جزءًا من كشوفها الحدسية الكبيرة… جزءًا سابقًا على جميع حقول الفلسفة من منطق وطبيعة وميتافيزيقا وأخلاق وعلم نفس. من خلال بروق الشعر وشذرات القصائد. الشعر حيوية فطرية حدسية قبل عقلية بل سابق على اللغة في اتجاه الغيب والمجهول…

«إن الشعر قد ولد من السحر البدائي» ( مالينوفسكي في دراسة لقبائل الماوري البدائية – جورج طومسون البدائية والشعر. ترجمة د. مسشال سليمان دار العلم بيروت 1974م ص 18).

القرآن: الشاعر والنبي


من البداية كان ثمة دقة في التسمية والمصطلح والتفريق بين (شاعر ونبي) و(شعر وقرآن) و(بيت وآية)… إلخ. وردت كلمة الشعر ومشتقاتها في القرآن في 40 موضعًا. ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ (ياسين 69) ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ (الأنبياء 5). ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ (الصافات 36). وهناك سورة الأنبياء وهناك سورة الشعراء (مكية في 227 آية): ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ {226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ إشكالية الشعر والشاعر في القرآن هي إشكالية مصدر الكلام.

في حال النبي المتكلم في النبي هو الله ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (الآية)، في الشعر المتكلم الشياطين.

تاريخيًّا كان حسان بن ثابت الأنصاري شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم شعراء جاهليون من بينهم كعب بن زهير الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدحه بلامية مشهورة فعفا عنه، ومن بينهم لبيد العامري وهو من الفحول في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات عمّر 157 سنة، أسلم في السنة السابعة للهجرة ومات في السنة 40. وقد جبّ الإسلام شاعريته. قيل: لم يقل سوى بيت واحد في الإسلام واختلف فيه أهو: «الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى كساني من الإسلام سربالًا» وقيل: هو «ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح» وقيل: طلب منه عمر بن الخطاب أن ينشده شعرًا فأسمعه سورة البقرة فزاد عطاءه 500 درهم وكان ألفين. «ابن قتيبة – الشعر والشعراء» لم يطل الزمن حتى استعاد الشعر العربي موقعه بقوة (مثلّث النقائض الأموي الأخطل، وجرير والفرزدق) وكانوا على صلة بالبلاط الأموي. استعيدت العصبيات الجاهلية واجتيح المحرَّم الديني في ظل السلطة. كما ورد في خمريات الأخطل، وكان شاعر البلاط كما أن الشعر الحضري ازدهر على يد عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي فتى الحجاز، وهو وجه مبكر لما سيكون عليه الشعر فيما بعد في العصر العباسي من وصف لكل محظور، ومن تجاوز لأي حرج ديني.

إشكالية الفيلسوف في القرآن


الفلسفة أو الحكمة يونانية، والفلاسفة المسلمون شُرّاح أقصى همهم التوفيق بين الحكمة والشريعة. بين العقل والنقل (يعتمد ابن رشد في «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» على منهج التأويل في هذا التوفيق). «والتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يُخِلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز». ويرى ابن رشد أن النظر العقلي (الحكمة) جزء من التكليف الشرعي. النظرية الشعرّية عند الفلاسفة العرب والمسلمين منسوخة عن فلاسفة اليونان، وبخاصة عند أفلاطون ومعلمه سقراط.

أفلاطون في ظل سقراط شبح هوميروس


أفلاطون المختبئ في ظل معلمه سقراط في الجمهوريّة هو فيلسوف مُغرِض ومريض ويعاني مزاجًا فاسدًا في نظرته للشاعر والرسام. فإذا كان حاكم الجمهورية في نظره هو الفيلسوف (محب الحكمة) الحائز على اليقين (معرفة الحقيقة) عن طريق العقل، فإن معرفة كل من الرسام والشاعر تنتسب إلى التصوّر. مرتبة أقلّ وضوحًا من المعرفة وأقل خفاءً من الجهل. في المحاورة بين سقراط المرموز إليه بـ(س) وغلوكن المرموز إليه بـ(غ) في الجمهورية، يشير غلوكن إلى فئة الديونيزيسيين أو الباخوسيين (نسبة لإله الخمر والفرح باخوس) الذين لا يشهدون محاورة فلسفية بل هم سامعون مواظبون على الحفلات الديونيزيسيّة. إنهم فلاسفة زائفون.

يصل الحوار بين سقراط والصدى الببغائي المسمّى غلوكن إلى أن الفنّ مضحك وأداة للتسلية المضللة. يورد غلوكن الحكاية التالية: «إنك تذكرني بأحجية التضاد التي تتلى على موائد الطعام للتسلية. تقول الأحجية: قيل إن رجلًا ليس برجل رمى وما رمى طائرًا وليس بطائر جاثمًا وليس جاثمًا على غصن وليس بغصن بحجر وليس بحجر…» وهكذا للدلالة على الموجود والمعدوم في وقت واحد.

س: نحن أبرياء في وضعنا الشاعر مع الرسام فإنه يشبهه في إيراده التفاهات إذا قيست بمقياس الحقيقة… فنحن أبرياء إذا حظرنا دخوله الدولة الراغبة في أن تتمتّع بنظام حسن؛ لأنه يثير قسم النفس الحقير ويقيه ويشدّده. تبعًا لسقراط: هناك الله، الفرّاش (المنجد) الرسام. الله موجد، الفراش مقلّد (ونافع) الرسامُ مقلد المقلد (وغير نافع).. على هذا المنوال تجري محاورات أفلاطون في الجمهورية.

لقد أهمل فلاسفة اليونان أثينا القدماء أصل الحياة والرغبات والغرائز ونظروا فقط للعقل… فأسقطوا من حسابهم نصف الإنسان وأسقطوا معه الشعر. وكان لا بد من أن يمضي وقت ما، لكي ينقذ هايدغر ونيتشه في الغرب الشعر من براثن الفلسفة اليونانية.. من خلال الانتباه إلى دور اللغة في قول الوجود، وأنّ الفنّ خلق فني وليس تقليدًا أو محاكاة.لكن الذي أعاد الشعر إلى حمى القرآن هم الصوفية في الإسلام وفي طليعتهم الرحالة الأندلسي الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي ولد في مرسية 1165م وتوفي في دمشق 1240م، ودفن في سفح قاسيون… في مجمل كتبه ورسائله وبخاصة الفتوحات المكية وترجمان الأشواق؛ إذ ألحق الشعر بالسماع وعدّه ابن الخيال الذي يوجد الشاعر به ما لم يكن موجودًا، وبذلك يكون على صورة الخالق.

اللحظة المتحوّلة للشعر: بروق وشواظ الحداثة


ماذا عن علامات التحوّل الشعري في العربيّة؟ وكيف سار الشعر من الانتظام إلى الأسطرة، فالخلل، فالفوضى الشعرية، إلى هباء الإشارة الإلكترونية؟ وما الفلسفات التي اعترته مع عصور الحداثة وما بعدها؟

من جديد، تكاد تكون الحراثة الفلسفية في الشعر العربي الحديث والمعاصر حراثة في أرض بور. لا ننفي أن شعرنا من أواسط القرن التاسع عشر خضع لتأثيرات غربيّة اشتدت وطأتها في أواسط القرن العشرين مع شعراء الحداثة الأولى ومن جاء بعدهم حتى اليوم. لذلك فأي قول نقدي فيه سيكون ملزمًا بحضور الشعر الغربي وبالنظرات الفلسفية التي تجلّت في مدارس كالوجودية والبنيويّة والتفكيكية وفي موجات كالدادائية والسريالية والضبابية… إلخ.

مسألة «موت الشعر» في الغرب انطلقت مع هيغل برِدَّةٍ أفلاطونية في كتابه علم الجمال (1832م).. وتوالت قداديس جنائزيّة لكل الفنون.. جاء ذلك بعد حيويّة فلسفيّة تجاه الشعر من كاسيوس لونجينوسم 273م ومذهبه في «الجليل والممتع» وانتباهه لإثارة الحماسة الداخلية في الشعر إلى روسّو متوفّى عام 1778م ونظريته في «المتوحش النبيل» إلى الرومانتيكيّة الفلسفيّة والشعريّة في ألمانيا في مزجهم بين العقل والخيال والحدس في عمل كلي يلامس الإشراق. استضاءة بما قام به كانط (1804م) في عده الشعر مواءمة بين الضرورة والحريّة، وشيلنغ (1854م) في اعتقاده أن الشعر يكمّل الفلسفة ويتخطاها لا ننسى بودلير في سويداء باريس spleeing de Paris وأزهار الشر les fleurs du mal أو المرض… «كانط» ركّز على المتعة الجمالية وشيلر (1805م) عدّها مجانيّة كاللعب ومالارميه (1898م) قرّب الكلمات من المطلق، ودفع به الشطط إلى التعالي على الخلق الإلهي. كل ذلك سبق اللحظة الأخيرة المشوّهة والمتعتعة للشعر والفن (ينظر: كتاب خليل حاوي فلسفة الشعر والحضارة، تحرير وترجمة وتقديم ريتا عوض، دار النهار للنشر 2002م). إنها ثمار ما بعد الحداثة في التفكيك والتعفّن في اللوحة والقصيدة والمسرح والموسيقا، كأنّ الحضارة بعد أن تبلغ الذروة تنكفئ إلى نفاياتها. فإذا كان شعر، فلماذا لا يكون لا شعر؟ وإذا كان فنّ، فلماذا لا يكون لا فن؟

في التشكيل والرسم رسم الشاعر والرسام بول بيلهود صورة سوداء سماها «زنوج يتقاتلون في غرفة الليل». وهي مربّع أسود. ألفونس أليه طوَّر فكرة بيلو الفكاهية في عام 1883م، فوضع رسمة سمّاها «تجمّع لنساء في الثلج» وهي «مربع أبيض» وفي العام الذي بعده وضع المربّع الأحمر.

المستقبلي الروسي كان كازيمير ماليفتش عرض في عام 1915م في بتروغراد رسمة «مربع أبيض على لوح أبيض» مع بيان يقطع من خلاله مع الحركات الجمالية. سمّى نفسه «رئيس الفراغ» وصرّح بأنه يريد قتل فنّ الصورة. توالت بعد ذلك مفاهيم تطبيقية وتنظريّة على التخلّص من الفنّ». وتواطأ على ذلك شعراء ورسامون وفلاسفة (ليبنز يقول: لماذا يوجد شيء ولا يوجد لا شيء) ومسرحيون ومخرجون سينمائيون وموسيقيون. هذه هي اللحظة الراهنة للشعر والفنّ في العالم. (ينظر: برنارد ماركاديه هذه النهاية التي لا تتوقف عن الانتهاء، مجلة الآخر صيف 2011م)، فماذا عن علامات التحوّل الشعري في العربية؟

من جديد علينا أن نؤسس. ثمة في الشعر العربي الحديث والمعاصر بروق فلسفية لا بد من كشف الستار عنها، ثمة أعماق بعضها يتصل بالغيب الديني، وبعضها بالأساطير والأقنعة، وبعضها بالأحلام والرؤيا وباللامعقول… إلخ وهي حقول شديدة الخصوبة ومليئة بوعود للحصادين.

يقول صلاح عبدالصبور في قصيدة مذكرات رجل مجهول من ديوان تأملات في زمن جريح: «إن كنت حكيمًا نبئني كيف أُجَنّ كي ألمس نبض الكون المجنون». هل يمكن أن تنطوي هذه الشذرة الشعرية لعبدالصبور على ما يُسمَّى فيما بعد الفلسفة القديمة بالتشظّي والشواش الكوني؟ (ينظر كتاب د. سامي أدهم «ما بعد الفلسفة، الكاوس، التشظّي الشيطان الأعظم»).. الفوضى والنظام والكاوس كما يصوره دافيد ريول في كتابه: «DAVID ruelle، hazard et chaos. Points، Odile، Jacob 1991»

الأمر الخطير فيما بعد آينشتاين، هو الانتباه للمصادفات في المنطق الضبابي، للاحتمالات.. تلك التي رفضها آينشتاين؛ لأنه «لا يريد أن يجعل الله يلعب النرد في خلق العالم». كما يقول: (مثال الموجات البحرية الناعمة التي يمكن أن تتحول إلى عواصف، ومثال جناح الفراشة المتحول في آخر القطب إلى عاصفة)… إنّ جملة عبدالصبور الشعريّة جملة موحية على ضوء ما ذكرنا وهو القائل في القصيدة نفسها: «الحمد لنعمته من أعطانا هذا الليل/ والظلمة فوق مناكبنا ستر وغطاء» «الحمد لنعمته من أعطانا ألّا نختار رسم الأقدار».

في قصيدة صغيرة بعنوان «بكائية» من ديوان «الذي يأتي ولا يأتي» لعبدالوهاب البياتي، يستبطن فيها البياتي حب الشاعر الفارسي عمر الخيام لعائشة التي ماتت ودفنت في سرداب من سراديب نيسابور. يعود الشاعر ليسأل عنها لظنه أنها قد تكون عادت للحياة، وحين يؤرّق حارس العالم السفلي بأسئلته، يقول له الحارس:

«عائشة ليست هنا/ ليس هنا أحد/ فزورقُ الأبد/ مضى غدًا/ مضى ولم يعد».

المسألة تمسّ الغيب والموت والحياة. لكنّ العبقريّة الشعرية للبياتي هي في افتراضات السفر في الزمن من خلال الصيغة اللغوية.

ومن خلال «زورق الأبد/ مضى غدًا» استعمال صيغة الماضي للمستقبل في الحركة. في النسبية ثمة 3 افتراضات للسفر بين نقطتين:

الأولى: سافِر الآن تصل غدًا.

الثانية : سافِر الآن تصل الآن.

الثالثة: سافِر الآن تصل البارحة.

والعنصر المحدد لهذه الأسفار والأزمنة هو عنصر السرعة. سرعة الصوت وسرعة الضوء. وهو ما يجعل مثلًا غد المسافر (أ) بارحةَ المسافر (ب). رحلة البياتي الشعريّة جزء من رحلة السنوات الضوئيّة.

وهو برق من بروق الشعر التي سبق بها الشعراءُ العلمَ والفلسفةَ.



* نقلا عن
مجابهات بين الشعر والفلسفة حراثة في أرض بور | مجلة الفيصل
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى