وحدي أنمو، بلا جذور، بلا أغصان، في الهواء، في الشمس، في البحر، في الفراغ.
أنمو كالفلسفة، في الأفكار.أنمو كالشعر، في الأعماق. أنمو كالماء،في الأحشاء...
- إميلي لوروا- شاعرة مجهولة
عندما يأتي الليل فعلا وأشرع في نزع الأوراق من الكراس الصغير حيث تدويناتي وملاحظاتي، لا شيء مما أريده يتحقق، بل أزداد اضطرابا وانفعالا وتعرقا. وتظهر أمامي صديقتي أغوتا كريستوف، تردد ساخرة: عموما، أكتفي بالكتابة في رأسي. فمثل هذا أيسر بكثير. في الرأس كل الأمور تجري دون مشقات. ولكن ما أن تسرع في الكتابة حتى تتحول، الأفكار وتتشوه، ويصبح كل شيء زائفا. بسبب الكلمات. أكتب أنى وجدت. أكتب وأنا أسير، باتجاه الباص، أكتب وأنا جالسة في الباص، في غرفة الملابس المخصصة للرجال، أمام آلتي. المشكلة أنني لا أكتب ما ينبغي أن أكتب، أكتب أي شيء، أشياء لا يستطيع أحد أن يفهمها كما لا أفهمها أنا أيضا. عند المساء، حين أعاود تدوين ما كنت كتبته في رأسي طيلة النهار، أسأل في سري لم كتبت كل هذا. لمن ولأي سبب؟[1]
ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. تلقيت على الايميل رسالة غريبة، عندما رأيت أن المرسل شخص مجهول، صددتها ونقرت على خانة البريد غير المرغوب فيه، من يدري قد يكون فيروسا آخر، كالذي هاجمني السنة الفارطة وخرب جميع ملفاتي الخاصة ومعها الكثير من المشاريع السردية. وبعد دقائق عادت الرسالة لتظهر من جديد. حذفتها دون تردد، ثم جاءت مرة أخرى تحت عنوان: أرجوك افتح الرسالة. غريب هذا الإلحاح. قبل فتحها قررت تفعيل المضاد للفيروسات وتقسيم قرصي الصلب إلى حيزين، فأدخلت مفتاح الذاكرة الذي حولت إليه جميع ملفاتي، في الحقيقة أفادتني كثيرا هذه الرسالة لأنها دفعتني إلى التعجيل بتنفيذ هذه الإجراءات الوقائية التي كنت أتماطل في تنفيذها منذ مدة طويلة.
عدت إلى علبتي البريدية، وبتردد كبير نقرت على عنوان الرسالة، فبدأ التحميل وارتفع نبض قلبي. انفتحت صفحة الرسالة، لكن محتواها لم يظهر، فقط إشارة باللون الأزرق إلى ضرورة نقر خانة السماح، ثم خانة الفتح، ليظهر مضمون الرسالة. فعلت ما طلب مني، فوجدت الرسالة تقول:
سيدي المحترم
أرجو أن تقرأ الرسالة باهتمام، ولا تهملها، إذا كنت تعرف إميلي لوروا
فأعتقد أنك أبي.
فقد اعترفت لي أمي قبل وفاتها، أنك والدي، ولدي أدلة على ذلك.
أرجو فقط أن نتواصل
طبعا، إذا سمحت بذلك
مودتي
كلارا ....
بعد نصف شهر من الرسائل والقلق والترقب أخيرا انطلقت إلى المطار لاستقبال، فتاة تدعي أني والدها، وأني كنت على علاقة بأمها.
في قاعة المطار، كنت أتطلع إلى ما وراء الزجاج السميك والبوابة الصغيرة التي تفصل ما بين قاعة الوصول وقاعة الانتظار. لفرط ترقبي لما سيحدث، لم أنم الليلة الفارطة،قضيتها أهلوس وأتخيل، وربما كنت أحدث نفسي بين إغماضة وأخرى. وكأنني غير هذا الشخص الذي يقف الآن في المطار.
شهر غشت يقترب من نهايته، والمطار يعرف حركة زائدة إثر عودة المهاجرين والسياح، لحسن الحظ القاعات التي أضيفت خلال هذا العام خففت من حدة الازدحام. كنت أمسك جريدة بين يدي ولاحظت بانفعال انتقال حبرها المغشوش إلى أصابعي المبللة بعرق التوتر. دوائر بصماتي بدت كزوبعة من دوائر غير مكتملة. أهذا ما يميزنا عن بعضنا البعض ؟ هي نفسها دوائر حياتنا المحيطة بنا تهب أحيانا من لا مكان محملة برياح السكينة و أحيانا أخرى برياح الفاجعة.
لا يبدو أن هذه الطائرة ستصل!
وأثناء تأملي لفتاة رائعة الجمال، بدت لي كبرازيلية من اللواتي يرقصن في كرنفال ريو دي جانيرو انحصرت رؤيتي حول هذا الجسد البرونزي دون سواه، وعندما تفحصت وجهها هتف قلبي وانتفض داخل صدري: هي، هي، إنها إميلي أقصد كلارا.
وما كدت أتقدم خطوة إلى الأمام حتى رأيت كفها تلوح في اتجاهي.
***
كانت كثيرة الكلام، تتحدث عن كل شيء دفعة واحدة، تسأل و تجيب عن أسئلتها، كأنها عاصفة من الكلام. كأنها تعرف كل شيء ولا تعرف شيئا. منتهى الخفة، ومنتهى الجرأة. طوال الطريق التي سقت فيه السيارة كنت مقتحما، بل مخترقا، وكأني أصبحت اسفنجة بحرية تمتص وتمتص بلا توقف وبلا هدف. لم تترك لي فرصة واحدة لأسألها أسئلة شخصية، بل ما كان يهمني في الأمر هي الأدلة التي وعدت أن تقدمها لي. لكنها لم تتحدث عنها طوال الطريق. ربما ارتأت، بعدما رأتني عن قرب، وعانقتني بحرارة، وقبلتني بحرارة أيضا، أنها أصبحت بلا جدوى.
عندما وصلنا إلى البيت، سألت عن أبنائي وزوجتي وأجبتها أني أعيش وحيدا وفضلت هكذا حياة على حياة أخرى. اختفت ابتسامتها المشرقة، وغيرت الموضوع في اتجاه الكتب الموضوعة في كل مكان، أعجبتها فكرة أن تتحول الكتب إلى ديكورات منزلية، نزلت تحت طاولة الصالون الزجاجية لتتأكد أن الكتب هي من يرفعها عن الأرض. شرحت لها أنها مجلدات لتعلم اللغات، ولأني لم أتمكن من تعلم هذه اللغات فقد ألصقت بعضها ببعض مخترعا منها دعامات. أعجبتها الفكرة وقالت أنها ستطبقها مع كتب الطب الضخمة والغالية الثمن التي لم تستطع إكمال قراءة واحد منها. قالت أنها تخلت عن دراسة الطب لصالح مهنة عرض الأزياء. قالت أن ناقص طبيبة لن يغير شيئا في عالم الأمراض والأوبئة المتناسلة، أما عارضات الأزياء المحترفات فنادرات جدا في عالم الموضة.
في الشرفة شربنا معا عصير برتقال معلب. وضعت في الكأسين قطع ثلج لتخفيف مذاقه الكيميائي. كان البحر في الجوار، رائحته تنتشر في الهواء. هنا قالت بجدية:" لم تسأل مرة واحدة عن أمي، أليس كذلك؟"
ندمت أشد الندم لأني اعتبرت خفتها عيبا وثرثرتها عبئا، فقد كانت بكل ذلك تخفي توترها وانفعالها وكتيبة أسئلة مدمرة رافقتها وراكمتها منذ اكتشافها وبحثها إلى لحظة وصولها وجلوسها أمامي.
سكتت قليلا وقلت: " بل سألت عنها، لكني لم أكن أعرف عنها شيئا، التقينا ذات صباح في محطة المترو، دخلنا معا المقصورة تحدثنا مدة المسافة. كنت طالبا بوهيميا فاشلا لم أستطع إتمام دراستي، وامتنع أبي عن تزويدي بالمال كي أعود إلى المغرب. لكنني بقيت أتسكع بين المطاعم أعد بعض الوجبات المغربية. كنت أجيد إعداد الكسكس والفضل يعود لوالدتي التي علمتني بعض الأكلات المغربية الأصيلة. لكن ذلك لم يضمن لي الاستقرار، وعلاقتي بإميلي لم تكن في منأى عن هذه الأجواء النفسية الصعبة، ثم جاءت انتفاضة ماي 68 التي هدمت كل شيء."
نسينا العصير،فبدأ بعض النحل يحوم حوله. لاحظت أنها تدنو قليلا، ربما لترفع الكأس، لكنها تناولت كفي وكأنها تتناول شيئا تخشى أن تكسره، كانت رعشة أصابعها ترسل إلى مسامي دبدبة كهرومغناطيسية غريبة. ثم قالت: "هذه الأشياء أعرفها، أريد أن أعرف الأشياء التي أخذتها معك؟"
" أخذت معي التعاسة، بعدما اعتقلوني أسبوعا وضربوني، عاملتنا الشرطة كمجرمين، كان رفاقنا يواصلون المظاهرات في سانت جيرمان وعموم جامعات فرنسا يرفضون التفاوض إلى أن يطلق سراحنا، بعدها بأيام طردت من فرنسا ككلب، وفي المغرب، دخلت جامعة محمد الخامس نزولا عند رغبة والدي الذي أفجعته بلامبالاتي. كنت أرغب أن أجد هنا نضالا حقيقيا غير منحرف ولا يسير في اتجاه الغطرسة والبحث عن السلطة والتقوقع في العتمة والأبراج. وجدت رفاقا متناقضين مع أنفسهم يدرسون النظريات ويطبقون أشياء أخرى. يتحدثون عن الثورة، ويسعون نحو الثروة، باختصار، يفكرون في أشياء ويطبقون أشياء أخرى. كيف يمكنك أن تثق فيمن يخون أفكارك. صحيح أن الكثيرين منهم قد دفعوا الثمن باهظا وأنا منهم لكن السجن لم يعلمنا شيئا، خرجنا منه تائبين طائعين ومستسلمين. تخيلي البعض منا استلم تعويضات عن سنوات الاعتقال وبعضهم ذهب إلى الحج وآخرون تحولوا إلى مستثمرين وآخرون إلى مدمنين في الحانات. وآخرون توفوا قبل أن يحصلوا على درهم واحد.
- وأنت ماذا فعلت؟
- سؤالك فيه نوع من اللوم.
- لا أبدا أريد فقط أن أعرف ماذا فعلت بعد السجن.
- اشتغلت بالصحافة وكتبت روايات عن تجربتي. للأسف لن تتمكني من قراءتها، لأنها لم تترجم إلى الفرنسية.
- هل كتبت عن أمي؟
- لا لم أكتب بعد عن تجربتي في فرنسا، عندما اتصلت بي في الشهر الماضي، بدأت أفكر في تلك الحياة.
- وأنا سأتكفل بمسألة الترجمة، أعرف صديقة مترجمة تعمل لدى دار نشر مرموقة.
- إذا اتفقنا أنا أكتب الرواية وأنت تترجمينها، حتى تتمكن أيضا إميلي من قراءتها.
- سكتت، ووقفت فجأة، استندت إلى حافة الشرفة الحديدية، وقالت دون أن تلتفت:
- أمي ماتت الشهر الماضي، لم يرحمها سرطان الثدي.
كان نصف ظهرها المكشوف يزفر بقوة:
- وأوصت أن تدفن في عين أسردون.
في الواقع لم أعد أتحكم في إدراكاتي وكأن ارتجاجا قويا بلبل دماغي. كنت أسمع المعلومات وكانت حلقاتها الشاغرة هوات سحيقة أتمادى في السقوط في عتمتها.
أحست كلارا بارتجاجي، فأضافت:
- عندما توفيت أمي أوصت بأعضائها السليمة للمرضى المحتاجين وما تبقى يحرق ويوضع في وعاء،كما أوصتني أن تتكفل أنت بنثره فوق عين أسردون.
- أنا الوغد أنا من حدثها عن عين سردون ، أنا من حدثها عن جمال بني ملال وعينه الرائعة.
C’et moi qu’elle a tué
كانت هذه الجملة مسموعة كفاية لكي تقرفص كلارا أمامي محاولة نفي الأمر جملة وتفصيلا:
- لا تحمل نفسك مسؤولية شيء لا دخل لك فيه. أمي تحدثت عنك كذكرى رائعة، توقفت عن الحديث وأخذت تضحك، ربما لو عشتما معا لما استمرت كذلك.
أخرجت من حقيبة كتفها قنينتين واحدة لكونياك رفيع وأخرى لقنينة خزفية زرقاء محكمة الاغلاق.
- احضرت لك هدية إذا كنت تشرب.
- شكرا، سأحتفظ بها للأصدقاء.
- أما القنينة الثانية فسأذروا رمادها فوق مياه عين أسردون. هذا وعد مني.
عادت كلارا بعد أيام. قالت أنها تفتح لي بيتها في باريس، وما علي إلا أن أكسر الحواجز لأزورها.
وذات صباح وجدت نفسي صاعدا هضبة العين، أشم رائحة الماء الجوفي. وكأنني لم أوجد في هذه الحياة التي خربتني إلا لكي أقوم بما يجب علي أن أقوم به الآن.
فوق الشلال المنهمر وبين رذاذه البارد أرسلت الرماد الأسود في اتجاه مجرى النهر. وأنا أرى العرق البلوري ينساب فوق بطنها الأبيض، ووجهها المشرق تجلله دمعتان ساخنتان. وأنا أهمس في أذنها: بين مياه وأشجار جبال الأطلس، سأحبك، سأحبك أكثر.
وهي ترتل بصوتها البوهيمي في قلبي:
وحدي أنمو
بلا جذور
بلا أغصان
في الهواء
في الشمس
في البحر
في الفراغ
أنمو كالفلسفة
في الأفكار
أنمو كالشعر
في الأعماق
أنمو كالماء
في الأحشاء...
الدارالبيضاء 2007
أغوتا كريستوف: أمس. ترجمة بسام حجار. المركز الثقافي العربي. ص 13[1]
أنمو كالفلسفة، في الأفكار.أنمو كالشعر، في الأعماق. أنمو كالماء،في الأحشاء...
- إميلي لوروا- شاعرة مجهولة
عندما يأتي الليل فعلا وأشرع في نزع الأوراق من الكراس الصغير حيث تدويناتي وملاحظاتي، لا شيء مما أريده يتحقق، بل أزداد اضطرابا وانفعالا وتعرقا. وتظهر أمامي صديقتي أغوتا كريستوف، تردد ساخرة: عموما، أكتفي بالكتابة في رأسي. فمثل هذا أيسر بكثير. في الرأس كل الأمور تجري دون مشقات. ولكن ما أن تسرع في الكتابة حتى تتحول، الأفكار وتتشوه، ويصبح كل شيء زائفا. بسبب الكلمات. أكتب أنى وجدت. أكتب وأنا أسير، باتجاه الباص، أكتب وأنا جالسة في الباص، في غرفة الملابس المخصصة للرجال، أمام آلتي. المشكلة أنني لا أكتب ما ينبغي أن أكتب، أكتب أي شيء، أشياء لا يستطيع أحد أن يفهمها كما لا أفهمها أنا أيضا. عند المساء، حين أعاود تدوين ما كنت كتبته في رأسي طيلة النهار، أسأل في سري لم كتبت كل هذا. لمن ولأي سبب؟[1]
ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. تلقيت على الايميل رسالة غريبة، عندما رأيت أن المرسل شخص مجهول، صددتها ونقرت على خانة البريد غير المرغوب فيه، من يدري قد يكون فيروسا آخر، كالذي هاجمني السنة الفارطة وخرب جميع ملفاتي الخاصة ومعها الكثير من المشاريع السردية. وبعد دقائق عادت الرسالة لتظهر من جديد. حذفتها دون تردد، ثم جاءت مرة أخرى تحت عنوان: أرجوك افتح الرسالة. غريب هذا الإلحاح. قبل فتحها قررت تفعيل المضاد للفيروسات وتقسيم قرصي الصلب إلى حيزين، فأدخلت مفتاح الذاكرة الذي حولت إليه جميع ملفاتي، في الحقيقة أفادتني كثيرا هذه الرسالة لأنها دفعتني إلى التعجيل بتنفيذ هذه الإجراءات الوقائية التي كنت أتماطل في تنفيذها منذ مدة طويلة.
عدت إلى علبتي البريدية، وبتردد كبير نقرت على عنوان الرسالة، فبدأ التحميل وارتفع نبض قلبي. انفتحت صفحة الرسالة، لكن محتواها لم يظهر، فقط إشارة باللون الأزرق إلى ضرورة نقر خانة السماح، ثم خانة الفتح، ليظهر مضمون الرسالة. فعلت ما طلب مني، فوجدت الرسالة تقول:
سيدي المحترم
أرجو أن تقرأ الرسالة باهتمام، ولا تهملها، إذا كنت تعرف إميلي لوروا
فأعتقد أنك أبي.
فقد اعترفت لي أمي قبل وفاتها، أنك والدي، ولدي أدلة على ذلك.
أرجو فقط أن نتواصل
طبعا، إذا سمحت بذلك
مودتي
كلارا ....
بعد نصف شهر من الرسائل والقلق والترقب أخيرا انطلقت إلى المطار لاستقبال، فتاة تدعي أني والدها، وأني كنت على علاقة بأمها.
في قاعة المطار، كنت أتطلع إلى ما وراء الزجاج السميك والبوابة الصغيرة التي تفصل ما بين قاعة الوصول وقاعة الانتظار. لفرط ترقبي لما سيحدث، لم أنم الليلة الفارطة،قضيتها أهلوس وأتخيل، وربما كنت أحدث نفسي بين إغماضة وأخرى. وكأنني غير هذا الشخص الذي يقف الآن في المطار.
شهر غشت يقترب من نهايته، والمطار يعرف حركة زائدة إثر عودة المهاجرين والسياح، لحسن الحظ القاعات التي أضيفت خلال هذا العام خففت من حدة الازدحام. كنت أمسك جريدة بين يدي ولاحظت بانفعال انتقال حبرها المغشوش إلى أصابعي المبللة بعرق التوتر. دوائر بصماتي بدت كزوبعة من دوائر غير مكتملة. أهذا ما يميزنا عن بعضنا البعض ؟ هي نفسها دوائر حياتنا المحيطة بنا تهب أحيانا من لا مكان محملة برياح السكينة و أحيانا أخرى برياح الفاجعة.
لا يبدو أن هذه الطائرة ستصل!
وأثناء تأملي لفتاة رائعة الجمال، بدت لي كبرازيلية من اللواتي يرقصن في كرنفال ريو دي جانيرو انحصرت رؤيتي حول هذا الجسد البرونزي دون سواه، وعندما تفحصت وجهها هتف قلبي وانتفض داخل صدري: هي، هي، إنها إميلي أقصد كلارا.
وما كدت أتقدم خطوة إلى الأمام حتى رأيت كفها تلوح في اتجاهي.
***
كانت كثيرة الكلام، تتحدث عن كل شيء دفعة واحدة، تسأل و تجيب عن أسئلتها، كأنها عاصفة من الكلام. كأنها تعرف كل شيء ولا تعرف شيئا. منتهى الخفة، ومنتهى الجرأة. طوال الطريق التي سقت فيه السيارة كنت مقتحما، بل مخترقا، وكأني أصبحت اسفنجة بحرية تمتص وتمتص بلا توقف وبلا هدف. لم تترك لي فرصة واحدة لأسألها أسئلة شخصية، بل ما كان يهمني في الأمر هي الأدلة التي وعدت أن تقدمها لي. لكنها لم تتحدث عنها طوال الطريق. ربما ارتأت، بعدما رأتني عن قرب، وعانقتني بحرارة، وقبلتني بحرارة أيضا، أنها أصبحت بلا جدوى.
عندما وصلنا إلى البيت، سألت عن أبنائي وزوجتي وأجبتها أني أعيش وحيدا وفضلت هكذا حياة على حياة أخرى. اختفت ابتسامتها المشرقة، وغيرت الموضوع في اتجاه الكتب الموضوعة في كل مكان، أعجبتها فكرة أن تتحول الكتب إلى ديكورات منزلية، نزلت تحت طاولة الصالون الزجاجية لتتأكد أن الكتب هي من يرفعها عن الأرض. شرحت لها أنها مجلدات لتعلم اللغات، ولأني لم أتمكن من تعلم هذه اللغات فقد ألصقت بعضها ببعض مخترعا منها دعامات. أعجبتها الفكرة وقالت أنها ستطبقها مع كتب الطب الضخمة والغالية الثمن التي لم تستطع إكمال قراءة واحد منها. قالت أنها تخلت عن دراسة الطب لصالح مهنة عرض الأزياء. قالت أن ناقص طبيبة لن يغير شيئا في عالم الأمراض والأوبئة المتناسلة، أما عارضات الأزياء المحترفات فنادرات جدا في عالم الموضة.
في الشرفة شربنا معا عصير برتقال معلب. وضعت في الكأسين قطع ثلج لتخفيف مذاقه الكيميائي. كان البحر في الجوار، رائحته تنتشر في الهواء. هنا قالت بجدية:" لم تسأل مرة واحدة عن أمي، أليس كذلك؟"
ندمت أشد الندم لأني اعتبرت خفتها عيبا وثرثرتها عبئا، فقد كانت بكل ذلك تخفي توترها وانفعالها وكتيبة أسئلة مدمرة رافقتها وراكمتها منذ اكتشافها وبحثها إلى لحظة وصولها وجلوسها أمامي.
سكتت قليلا وقلت: " بل سألت عنها، لكني لم أكن أعرف عنها شيئا، التقينا ذات صباح في محطة المترو، دخلنا معا المقصورة تحدثنا مدة المسافة. كنت طالبا بوهيميا فاشلا لم أستطع إتمام دراستي، وامتنع أبي عن تزويدي بالمال كي أعود إلى المغرب. لكنني بقيت أتسكع بين المطاعم أعد بعض الوجبات المغربية. كنت أجيد إعداد الكسكس والفضل يعود لوالدتي التي علمتني بعض الأكلات المغربية الأصيلة. لكن ذلك لم يضمن لي الاستقرار، وعلاقتي بإميلي لم تكن في منأى عن هذه الأجواء النفسية الصعبة، ثم جاءت انتفاضة ماي 68 التي هدمت كل شيء."
نسينا العصير،فبدأ بعض النحل يحوم حوله. لاحظت أنها تدنو قليلا، ربما لترفع الكأس، لكنها تناولت كفي وكأنها تتناول شيئا تخشى أن تكسره، كانت رعشة أصابعها ترسل إلى مسامي دبدبة كهرومغناطيسية غريبة. ثم قالت: "هذه الأشياء أعرفها، أريد أن أعرف الأشياء التي أخذتها معك؟"
" أخذت معي التعاسة، بعدما اعتقلوني أسبوعا وضربوني، عاملتنا الشرطة كمجرمين، كان رفاقنا يواصلون المظاهرات في سانت جيرمان وعموم جامعات فرنسا يرفضون التفاوض إلى أن يطلق سراحنا، بعدها بأيام طردت من فرنسا ككلب، وفي المغرب، دخلت جامعة محمد الخامس نزولا عند رغبة والدي الذي أفجعته بلامبالاتي. كنت أرغب أن أجد هنا نضالا حقيقيا غير منحرف ولا يسير في اتجاه الغطرسة والبحث عن السلطة والتقوقع في العتمة والأبراج. وجدت رفاقا متناقضين مع أنفسهم يدرسون النظريات ويطبقون أشياء أخرى. يتحدثون عن الثورة، ويسعون نحو الثروة، باختصار، يفكرون في أشياء ويطبقون أشياء أخرى. كيف يمكنك أن تثق فيمن يخون أفكارك. صحيح أن الكثيرين منهم قد دفعوا الثمن باهظا وأنا منهم لكن السجن لم يعلمنا شيئا، خرجنا منه تائبين طائعين ومستسلمين. تخيلي البعض منا استلم تعويضات عن سنوات الاعتقال وبعضهم ذهب إلى الحج وآخرون تحولوا إلى مستثمرين وآخرون إلى مدمنين في الحانات. وآخرون توفوا قبل أن يحصلوا على درهم واحد.
- وأنت ماذا فعلت؟
- سؤالك فيه نوع من اللوم.
- لا أبدا أريد فقط أن أعرف ماذا فعلت بعد السجن.
- اشتغلت بالصحافة وكتبت روايات عن تجربتي. للأسف لن تتمكني من قراءتها، لأنها لم تترجم إلى الفرنسية.
- هل كتبت عن أمي؟
- لا لم أكتب بعد عن تجربتي في فرنسا، عندما اتصلت بي في الشهر الماضي، بدأت أفكر في تلك الحياة.
- وأنا سأتكفل بمسألة الترجمة، أعرف صديقة مترجمة تعمل لدى دار نشر مرموقة.
- إذا اتفقنا أنا أكتب الرواية وأنت تترجمينها، حتى تتمكن أيضا إميلي من قراءتها.
- سكتت، ووقفت فجأة، استندت إلى حافة الشرفة الحديدية، وقالت دون أن تلتفت:
- أمي ماتت الشهر الماضي، لم يرحمها سرطان الثدي.
كان نصف ظهرها المكشوف يزفر بقوة:
- وأوصت أن تدفن في عين أسردون.
في الواقع لم أعد أتحكم في إدراكاتي وكأن ارتجاجا قويا بلبل دماغي. كنت أسمع المعلومات وكانت حلقاتها الشاغرة هوات سحيقة أتمادى في السقوط في عتمتها.
أحست كلارا بارتجاجي، فأضافت:
- عندما توفيت أمي أوصت بأعضائها السليمة للمرضى المحتاجين وما تبقى يحرق ويوضع في وعاء،كما أوصتني أن تتكفل أنت بنثره فوق عين أسردون.
- أنا الوغد أنا من حدثها عن عين سردون ، أنا من حدثها عن جمال بني ملال وعينه الرائعة.
C’et moi qu’elle a tué
كانت هذه الجملة مسموعة كفاية لكي تقرفص كلارا أمامي محاولة نفي الأمر جملة وتفصيلا:
- لا تحمل نفسك مسؤولية شيء لا دخل لك فيه. أمي تحدثت عنك كذكرى رائعة، توقفت عن الحديث وأخذت تضحك، ربما لو عشتما معا لما استمرت كذلك.
أخرجت من حقيبة كتفها قنينتين واحدة لكونياك رفيع وأخرى لقنينة خزفية زرقاء محكمة الاغلاق.
- احضرت لك هدية إذا كنت تشرب.
- شكرا، سأحتفظ بها للأصدقاء.
- أما القنينة الثانية فسأذروا رمادها فوق مياه عين أسردون. هذا وعد مني.
عادت كلارا بعد أيام. قالت أنها تفتح لي بيتها في باريس، وما علي إلا أن أكسر الحواجز لأزورها.
وذات صباح وجدت نفسي صاعدا هضبة العين، أشم رائحة الماء الجوفي. وكأنني لم أوجد في هذه الحياة التي خربتني إلا لكي أقوم بما يجب علي أن أقوم به الآن.
فوق الشلال المنهمر وبين رذاذه البارد أرسلت الرماد الأسود في اتجاه مجرى النهر. وأنا أرى العرق البلوري ينساب فوق بطنها الأبيض، ووجهها المشرق تجلله دمعتان ساخنتان. وأنا أهمس في أذنها: بين مياه وأشجار جبال الأطلس، سأحبك، سأحبك أكثر.
وهي ترتل بصوتها البوهيمي في قلبي:
وحدي أنمو
بلا جذور
بلا أغصان
في الهواء
في الشمس
في البحر
في الفراغ
أنمو كالفلسفة
في الأفكار
أنمو كالشعر
في الأعماق
أنمو كالماء
في الأحشاء...
الدارالبيضاء 2007
أغوتا كريستوف: أمس. ترجمة بسام حجار. المركز الثقافي العربي. ص 13[1]