قمري البشير - المحارب والأسلحـة

الإهداء إلى ش.ع. و.ب.م.


صديقاي اللذان يدرسان بكلية(...) ويقضيان سحابة يومهما في البحث عن الحقيقة، وفي صدرهما أشياء لا يعرفها أحد من سكان المدن السفلى.

في الحديقة سقطت حمم بركانية على رأس المواطن أحمد فاهتدى إلى الحقيقة بلا مساعدة أحد أو توضيح من شخص ما..

الحقيقة شيء صلب ينتصب في كل حركة تحدث في كل زمان ومكان، ويكفي أن يقدح الزناد في أية علبة مطاطية تحملها الهياكل البشرية لينقشع السديم وتزول الغشاوة.

الحقيقة لا وطن لها ولا أرض ولا سماء، ترحل بلا تحديد وتجيء في كل لحظة فاشية تجلس فيها رهابنة القتل الطبقي لتخطيط جغرافية الدم.

الحقيقة جدار أصم. لكنه منخور من الداخل، تعيش في مسامه الحيوانات الأليفة والغيلان والشياطين والأعشاب السامة، ويكفي أن ينفخ فيها لتبيد وتباد وتنهار ركاما من الأشياء البسيطة العادية الحسية.

كانوا يأتون إليها في غبش الفجر ويجلسون فوق الكراسي الخشبية المنتشرة تحت الأشجار والأغصان. بعضهم يحمل كتابا أو دفترا. وبعضهم يحمل قفة من القش أو حقيبة. وبعضهم يحمل طفلا أو طفلين على كتفيه أو بين أحضانه. بعضهم لا يعمل شيئا ماديا ذا هيئة أو شكل أو بنية.ولكنه يحس بالثقل والضغط. أشياء لا تراها العين ولا تلمسها اليد المجردة. لا يراها أحد ولا تعلمها زخات المطر أو الهواء البارد، ولا تسجلها الشفرة السرية.

يجلسون للتدخين أو يتهامسون في برودة ميتة. للجدران آذان وبداخلها آلات التسجيل. للجدران عيون مفتوحة عن آخرها تتفرس فيهم، فيسكتون عن الكلام المباح إلى أن يحين الصباح تنشق الجدران وتخرج منها الرهابنة الزرق. تنشق الجدران فيرقص الجن الأسود رقصته المجوسية.

هناك من يأتي للنوم. ويتمدد فوق العشب الذي بالت عليه كلاب النصرانيات طيلة عطلة الأسبوع، النصرانيات المتخمات المترهلات الشبقة المدللة. قد يفتحون عيونهم حين يحسون بأقدام الآتين أو الرهابنة والجن الأسود. لكن النوم ثقيل وكل الرؤوس ثقيلة.

كان أحمد ينظر إليهم وهو يزيل عن البيضة المسلوقة قشرتها النحيلة، ويمد يده بين الحين والآخر إلى علبة ( الحليب سنترال)- (أنهم مثلي). النائمون على الخصوص يشبهونه، لامأوى لهم، بالأمس نام عند أصدقائه بحي المحيط.

لا مأوى لهم وحتى أن كان فهو علبة واطئة مكتظة اللحظة بالأطفال والأخوة الصغار في مكان ما من أماكن المدينة، فيضطرون إلى النوم في الخارج أو قد يأتون إلى الحديقة لإتمامه في غبش الفجر ويتمددون فوق الكراسي والأعشاب التي بالت فوقها الكلاب المدللة.

الحديقة جنات تجري من تحتها الأحزان خالدين فيها أبدا، ويعبرها نهر خفى يسبح فيه الكل سواء، لا فرق بين أسود وأبيض ولا بين الذكر والأنثى. كلهم سواسية كأسنان المشط.

جاء أحمد إلى الرباط منذ أسبوعين. يوم اثنين انصرم كان يضع حقيبة أمه فوق سطح الكارو وجه أبيه خلف الزجاج قرص يطفح بشرا: " ابني أحمد نجح في الباكلوريا. ابني أحمد يدرس الحقوق وينال الشهادة. ابني يصبح محاميا وله مكتب بأكبر شارع بالصويرة. يخطب في قاعات المحكمة ويفصل في القضايا. يتكلم فيرتجفون لكلامه وينكمشون كالغنم في جلودهم الصنوبرية. يخرج ممسكا حقيبته الجلدية كما يخرج الوزراء في التليفزيون. ويفتح باب سيارة " لا أيردوز"، فيزمجر محركها وتنفث دخانا داكنا ثم تنطلق مولولة) إنه أصغر أبناء السي إبراهيم. كلهم خرجوا فارقي الشغل. وحده أحمد بقي صامدا.لا يدخن. لا يشرب.لا يلعب الكارطة.لا يسهر في الخارج.يدخل باكرا ويغوص في دفاتره.أحيانا كان يذهب إلى الثانوية جائعا وأحيانا بلا معطف يقيه البرد. سروال من الدجين يشتريه كل سنة ولا يغيره إلا يوم الآحاد.

مد أحمد يده إلى علبة الحليب (أنهم مثلي أو أنا مثلهم أو كلنا كيف كيف) لا: أبوك يقول لك في رسالته الأولى(ولدى المحامي).أنت إذن لست مثلهم. لكن بطنك اللحظة فارغة كبطونهم وبطون الأطفال الذين تعودوا على مد أيديهم للمارة. أنت مثلهم. لكنهم يسكنون العاصمة. العاصمة فيها الوزارات، فيها البارات. فيها المساجد وفيها السجون والحدائق والكليات. وفيها الفقراء والطوبيس والكعبة وما أدراك ما الكعبة، الكعبة نعمة من عند الله ليبقى الكل سواسية رشيقي القوام والقامة والوسامة. لكن وحدهم الفقراء يعرفون الكعبة. الآخرون يتوجهون إلى سوماكا ولا ميزون فيات الفقراء يوجدون في كل مكان، حقيقة تمشي على اثنين. سقطت حمم بركانية على رأس المواطن أحمد. الساعة الثامنة صباحا، طيور البجع تنهض من نومها بسم الله تبدأ الحياة الصعبة. بسم الله يدخل حراس الحديقة بهراواتهم ومضخاتهم وتقف الجيب أمام البوابة الخشبية. ويسألونك عن ورقة التعريف، قل أنا خليفة الله في أرضه، وهبني العقل واليدين وجعل المياه جنات وأنهارا(أنهم مثلي) قال له أبوه (أنت يا ولدي في مدينة غريبة لا أهل لك فيها ولا أقارب ولا أصحاب. دير الخبر فراسك واحضي رأسك منهم.

لمسلمين درباط كلهم خداعة).(أنهم مثلي) يتفرق حراس الحديقة في كل ركن، وتشتعل رقابهم نارا وعيونهم تتواقد كالحمم، وينتشر الفقراء في الحديقة. أرانب صغيرة وثعالب(أنت مخطئ يا بني. أفعل ما تؤمر ولكنهم مثلي. منذ الجد الخامس بعد الألف) لكنك أنت ستمتلك نقودا وفيلا وامرأة جميلة وسيارة فارهة.


هم كذلك سيمتلكون يوم تزلزل الأرض زلزالها وتحرق الحدائق أثقالها، وتفتح الناس أفكارها، وتخرج الأرانب أحزانها وتقول الزبانية مالها. أن ربك أوحى لها بأن الحقيقة أسهل من جرعة ماء. وأن الحياة الدنيا سواء بسواء، لا فرق بين أسود وأبيض، ولا بين الذكر والأنثى..
في الكلية سقطت حمم بركانية أخرى فأصابت سويداء القلب واهتدى المواطن أحمد مرة أخرى...

الحقيقة أضعف بكثير مما نتصور، لأنها تسير بيننا سافرة في كل حين، ويكفي أن نركز الانتباه فنواجهها لنحب الإنسان ونعشق الأرض.

الحقيقة نحن الذين ننفخ فيها من روحنا ونطعمها ونسقيها من روحنا، فتنتفخ بطنها وتلد الأجنة والخيرات .قل الحقيقة وحي من عند الفقراء..

كانوا يأتون إليها منذ الصباح ويجلسون في الردهات والممرات وأمام البوابة الكبرى وفوق الأعشاب إلى جانب الدراجات النارية من كل صنف وماركة مسجلة أو يتشتتون في القاعات. بعضهم يحمل كتابا وبعضهم محفظة جلدية كالوزراء، وبعضهم لا يحمل شيئا ماديا ذا هيئة أو شكل أو بنية. ولكنه يشعر بالثقل والضغط. أشياء لا تراها العين المجردة ولاسيما اليد المجردة ولا تلتقطها الشفرة السرية. يدخنون أو يتهامسون أو يتناقشون في أشياء مختلفة.كثيرا من المرات يسكتون عن الكلام المباح ولا يفعلون شيئا. هناك من يأتي لينام كما ينامون في الحديقة، إلى أن يحين وقت المحاضرة. قالوا لهم في الكلية أن الدراسة ستبدأ ذلك اليوم.

قرأ ذلك فوق السبورة الخضراء:Avis aux étudiants

وهو لا يمتلك قرشا أبيض لشراء الكتب والدفاتر اللازمة ونفقات الحافلة. هذه السنة زادت التكاليف بلة أبعدوا فرع الكلية إلى " السويسي". ضاع ما أعطاه إياه أبوه. تبخرت الوريقات الخضراء المتسخة التي دسها في يده وهو يرافقه إلى الكار. عليه أن ينهض باكرا إذا أراد أن يحضر الحصص ويتلقى" العلم". أطلبوا العلم ولو في " السويسي".

الطوبيس رقم 11 يحملهم كقطيع الغنم والأضاحي. أحيانا يبقى ساعة أو أكثر وهو ينتظر مع غيره من الطلبة. يمر الطوبيس الأول. يمر الطوبيس الثاني. يمر الطوبيس الثالث. يمر الرابع والخامس. يجيء السادس ممتلئا كالديناصور ولا يقف. لا يفتح فوهته ليبتلعهم. يغضب بعضهم ويلعن الحظ السيئ الذي ألقاه في الرباط ويلعن التعليم والدراسة والملة والدين ثم يهدؤون. تمتد أيديهم إلى جيوبهم. يخرجون" كازا سبور" ويحرقون رئاتهم في مازوشية( أنهم مثلي. أبناء الدواوير والمداشر في سهول دكالة وعبدة والشياظمة وبني ملال وسطات. أبناء الأحياء الشعبية في سباتة ودوار الرجاء في الله. كل المدن فيها سباتات ورجاءات في الله.

جاءوا ليحققوا أحلامهم الصغيرة وأحلام أخوتهم أفراخا بذى مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر).

كانوا محامين ومهندسين وخبراء إلا 95%. إنهم Pâte à modeler "بات آمودلى " في يد الأساتذة والكلية والطوبيس.ر حلوا إلى الرباط صفحات بيضاء من بواديهم التي أهملتها نشرات الأخبار والتصاميم الخماسية. الرباط تأكلهم كما تأكل القطة أبناءها. وكانت وجوه أبائهم قرصا يطفح بالبشر.

مد أحمد يده إلى الكراسة. كانوا يتدافعون إلى المدرج الضيق كقبر. الأستاذ الفرنسي يتقدم إلى المنصة يكاد يتفجر صحة وعنفوانا. ماذا يأكل هذا الحلوف؟ هم كالديدان الملتوية، غابت ملامحهم تحت الجلد. الأكل في مطعم الحي لا يغني ولا يسمن من جوع. ماذا يأكل هذا الحلوف؟ هم دجاج والأستاذ ديك. أطلبوا العلم ولو في " السويسي". فرنسا هي التي تفرق العلم والمعرفة. قال الأستاذ: Introduction à l’étude de droit فرنسا هي التي تصنع منا المحامي والمهندس والأستاذ والخبراء نحن عجينة في يد فرنسا. سكنت القاعة كما تسكن الحديقة في غبش الفجر. الأستاذ كحارس الحديقة .الهراوات هي الدروس. الأستاذ ثعلب أزرق والطلبة أرانب ودجاج مستكين. الأستاذ يصرخ في مكبر الصوت.. الشرطة كذالك تستعمل مكبر الصوت. الأستاذ الفرنسي شرطي خفي ( إنهم مثلي. يمثلون مغربا قادما. لكن شمس الضباع لا زالت مختبئة تحت عباءات الرهابنة) الذين يركبون الطوبيس على الأقل مثله،" أما الذين يأتون في الميرسيديس و"البي إيم" فلا شأن لي بهم. إنهم كالدمى المزركشة. لآ يأتون إلا بعد أن يتناولوا فطورهم. عصير البرتقال واللوز والكونفتور. لا يأتون إلا بعد أن يصففوا شعورهم بالسيشوار، وتفوح منهم رائحة العطور كالقوادات ويتكلمون بفرنسية أكثر فرنسية من الفرنسيين أنفسهم في فرنسا بالذات) .الكلية عالم غريب تجري من تحتها الأحزان، ويعبرها نهر من العادات. لا تعرفL’égalité لا تعرف La fraternité ولكنهم تعرفLa liberté حرية هزيلة كالشكولاطة يمارسها هؤلاء الحنطون، أبناء الثعالب الزرقاء.( ميرسى فرنسا. مريسى مسيو لوكران. ميرسى مدام لا ليبيرتي. ميرسى تولوموند) سقطت حمم أخرى على رأس المواطن أحمد وأصابت سويداء القلب، وأردته حيا يرزق : (أنهم أعدائي الطبقيين).


مجلة آفاق، السلسلة الجديدة 3، 1976، ص-ص103-105

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى