باستعجاله المعهود انطلق "السي علي"بعد ان أغلق باب الادارة, وانطلق سالكا الطريق الظليل المنحدر الذي يفضي الى ساحة المدرسة .
كان سؤال محير يقلقه .اذ طيلة السنوات التي أدار فيها شؤون المدرسة , لم يراها فارغة مثلما كان يراها تك اللحظة..ذلك ان كل التلاميذ بما في ذلك الذين يدرسون في الفروع المنتشرة في ربوع القرية يحضرون الى المركز لتناول وجباتهم الغذائية بالمطعم المدرسي . ولهذا حرص دوما أن يكون حاضرا لتنظيمهم حتى يتناولون وجباتهم دون حوادث . لكن هذا لم يكن حافزه الوحيد . فقد كان يستغل المناسبة و يعمد الى تصفية حساباته مع بعضهم معتمدا في ذلك على ما يشبه تقارير كان يرفعها اليه أعضاء تعاونية المدرسة , و التي كانت تهم التجاوزات التي يرتكبها التلاميذ خارج أوقات الدراسة .
كان يصنف الحالات . الذين يلعبون في الشوارع كان يضعهم في صف . و الذين كانوا ينضمون لحلقات سور العاطلين الممتد في صدر القرية كان يضعهم في صف ثان . اما الصف الثالث فكان للذين يرتادون المقاهي و يلعبون البليارد .
كان يمكن أن يتساهل مع اصحاب الصف الأول و الثاني , لكنه لم يكن مستعدا على الاطلاق لمناقشة أمر أصحاب الصف الثالث . ينزل بهم أشد العقوبات ,لحد أن بعض المستهدفين كانوا يستغلون أية هفوة في المراقبة و يطلقون سيقانهم للريح .غير أنه كان يعمل على ارجاعهم أينما وجدوا مدعوما في ذلك بدعم الآباء لقرارته وتجاوبهم معها لينتهي المطاف بقصاص مضاعف يصل حد الجلد وسط الساحة .
أما حين كانت الأمور تسير بالشكل الذي يرضيه , فقد كان ينذر نفسه لمهمة اخرى . يستعرض الصف الطويل تلميذا تلميذا . المراقبة كانت تشمل كل شئ . طول الشعر , الأظافر , النظافة , وينتهي الامر بتفقد الأزرار و السؤال عن أوضاع الأسرة . لكن ما الذي حدث اليوم .؟ سؤال كان طاغيا على تفكيره و هو يشق الطريق الظليل . ومن أبعد نقطة لاحت له منها الطباخة علا صوته جاذبا اليه الأنظار .
- ما الذي حدث اليوم ؟ أين بقية التلاميذ ؟
- لم يحدث شيئ . كل ما في الأمر أننا لم نتوصل اليوم بالخبز .
تسمر السي علي في مكانه وقال زاما شفتيه محركا رأسه : آه..هو الخبز اذن ..I لكن لماذا ؟
كمدمرة اندفع السي علي عندما يكون عادة تحت تأثير شحنة من الانفعلات الداخلية , مستغرقا في حوار يشكل طرفيه , محركا يديه بطريقة تفيد عدم الفهم لما جرى . اتجه صوب باب المطعم , وقبل أن يصله قفل راجعا اتجاه بيته . ثم ليتوقف وسط الساحة . اتجه أخيرا الى مؤخرة الصف و اختار جماعة من الأطفال مشكلا ما يشبه لجنة مهمتها أن استقبال الناقلة التي تفد من المدينة كل صباح . وحمل أعمدة الخبز التي تحملها من المدينة . لكن هذا القرار كان قد اصبح متجاوزا . اذ بتلقائية كانت قد نبعت من اعماق الجميع تشكلت عشرات اللجن , و اخذت على عاتقها أن لا يتكررما حدث اليوم . حتى ان سائق الناقلة احتار في اليوم الموالي و لم يعرف لمن يسلم الخبز . ذلك أن تلاميذ الفوج الثاني كانوا جميعهم هناك . وحين حمل الخبز بدا الأمر يشبه موكبا جنائزيا .
غير أن السي علي بدا تلك اللحظة مختلفا وهو يمر أمام التلاميذ.كان يتحدث برقة غير معهودة فيه . وفي حديثه نوع من الواساة و الأسف لما حصل . لكن هذا لم يكن ليغير شيئا . الاطفال كانوا مستعدين لأي شئ . اساءة, زجر , عقاب , ظلم , لكنهم لم يكونوا مستعدين لان يحرموا من ذلك الخبز المحمر الهش , و الجوف الناصع البياض . و لأنه لم يكن مجرد خبز .
كان ما يشبه جزاء على صبر و انتظار طويلين . سبب وحيد يجعل لاختلاف الأيام معنى في عالم ينسكب فيه الزمن بلا جدوى .عملة قوية تمكن من تشغيل أجراء يقومون بانجاز الفروض و التمارين المنزلية وتمكن من تجنب عقاب المعلم , وقد تمتد الخدمة الى داخل الفصل من أجل تسهيل عمليات الغش و النقل . وماذا كان بامكان السي علي أن يفعل وهو المهوس بزجر المخالفات لو علم بهذه التجاوزات ؟.
المعلم نفسه لم يفعل شيئا حين وقف على بعض الحالات .نظر طويلا الى اولئك المتلبسين و لم يقم باي اجراء . اعتبر أن حرمان اولئك من خبزهم كان عقابا كافيا . أما حين تأكد ان تلك الظاهرة اوسع مما اعتقد , نظر الى الجميع و قال بأسى : الذنب ليس ذنبكم , لكنه سيصير كذلك بعد حين . انما لو كنتم في مجتمع له مفهوم صحيح للمواطنة فما كان ليحدث هذا كله . لم يكن لتأتوا لا هثين من اطراف القرية لتتكالبوا على باب المطعم . وما كان الأمر يحتاج لأن تجلدوا وسط الساحة . أفضل من هذا الخبز كان سيأتيكم الى بيوتكم ...
لم يسمع الاطفال بقية ما قاله . ظلوا يتبادلون النظرات صامتين ..كيف سيأتي الخبز الى منازلهم ؟ ..أهو ذلك الخبز نفسه ؟ ..من سيحمله ؟ من سيؤدي ثمنه ؟ ماذا أصاب المعلم ؟
لكن المعلم كان هو من تساءل عما أصاب تلاميذه الذين تحولوا الى ما يشبه تماثيل . وحين شجعهم على الافصاح عما دهاهم اندفعوا متحدثين ..
ابتسم المعلم بعد ان استمع اليهم وقال : ما قلته ليس من صنع الخيال ..انها حقيقة تعيشها مجتمعات كانت أفقر منكم , لكنها تماسكت و رفضت مجتمع الأسياد ...أتعرفون "شنيور" كناس الشارع ؟ لو كان في هذا المجتمعات فانه كان سيحصل على نفس اجر الطبيب .
ازداد الامر غرابة ..كيف يتساوى شنيور كناس الشارع ببذلته الزرقاء الوسخة و وقلنسوته الباهتة الالوان , ورائحة العفونة التي تصدر منه مع الطبيب صاحب السيارة السوداء الفارهة و و الهندام الانيق و واللحية المهندسة باتقان و التي تشبه الغليون الذي يتدلى من فمه ؟
ابتسم المعلم مجددا و هو ينظر الى الوجوه التي استبدت بها الحيرة و اضاف : أنا اعرف ان منكم من لم يصدق , وهناك من لن يصدق . لكني سأوضح لكم السر .
هذا المجتمع بني على اساس ان لا فرق بين مواطنيه لا في الحقوق و لا في الأرزاق . فاذا كان الطبيب يهتم بصحة المجتمع و فكناس الشارع يهتم بنظافة المجتمع , وهكذا فمهمة الرجلينتبدوان متكاملة و لذلك كان أجرهما متساويا .
تصايح التلاميذ : أين يحدث هذا ؟
- في المجتمع الاشتراكي .
- و الاشتراكية هي هذه التي ذكرت ؟
- هي كذلك .
- و لماذا لا نقيم مثلها ؟
- هذا يتوقف على رغبتكم يوم تصبحون رجالا .
لم يعرف الاطفال كيف وصلوا الى بيوتهم بعد نهاية الحصة . هل المسافة الفاصلة بين المنازل و المدرسة هي التي تقلصت و ام أن سيقانهم هي التي طالت وصار بامكانها أن تجوب رحاب المعمور في بضع خطوات .كانوا مأسورين , ماخوذين بهذا الجديد الذي امتلكهم .الاشتراكية .هذا السحر . هذا الخلاص القادم الذي ستعبد طريقه سواعدهم حين تصير قوية .
كانوا يجرون و يجرون و ينظرون الى تلك الدنيا التي ستقبر بعد حين لتبنى أخرى على انقاضها . دنيا ليست فيها بطون متخمة و أخرى لم تجد غير الحبال لمداراةالجوع.
أحدهم دفع باب بيتهم بقوة لدى وصوله .أثار ذلك انتباه النسوة اللواتي كن متحلقات حول الفرن البدائي المنتصب فب فناء البيت المكشوف للسماء .صاح في أمه : أبشري ..لن تدوم تعاستنا طويلا ..
احدى النسوة سألته : أعثرت على كنز ؟
حرك راسه مشيرا بالنفي و و في الوقت نفسه مفيدا أن ما وراءه اهم من ذلك . سألته أمه : خيرا ان شاء الله .
لكنه كان هو من سأل : أتعرفين الاشتراكية ؟ أسمعت بها ؟
تبادلت النسوة النظرات و غالبن ضحكات اجلنها الى حين باشارة بدرت من الام التي اجابت : لا ..لا عرفتها و لا سمعت بها .
وقف الطفل ينظم خطبته و بعدها قال : الاشتراكية هي أن نهدم هذا الفرن لأننا لن نصير في حاجة اليه و لان الخبز ..آه لو تعرفين أي خبز ..I الى هنا سيأتي . وهذه الأسوار المتصدعة التي تحيط البيت لن تخيفنا , لأنه لن يصير في البلاد اناس يمتهنون السرقة من أجل اطعام ابنائهم ..
قاطعنه الام : لكن كيف سيأتي الخبز الى هنا ؟
ضرب الطفل بكفه راحة يده الاخرى وقال مخاطبا نفسه : ..انه نفس السؤال المحير ..ليت المعلم كان حاضرا .غير أنه تجاهل السؤال و قفز للبقية . وحين تحدث عن شنيور و الطبيب انفجرت النسوة ضاحكات . أحس بالمهانة و قفل مغادرا . استوقفته امه سائلة : من أين استقيت هذه الافكار ؟
اعتقد أن ذكر المعلم كان كافيا كي تقتنع الام التي تضاعف غضبها قائلة : قل لمعلمك ان يعجل بزيارة ضريح "سيدي علي بوسرغين " أو ليذهب الى مستشفى المجانين ببرشيد لعله يتعافى مما هو فيه
لكنه احتج بقوة وهو يصرخ : لكنه المعلم .
أنذاك امسكته من خناقه و قالت : أرأيت أحدا يقتحم يبتنا ويطوف في غرفه ليختار ما يروقه من اشياء و يمضي بها دون أدنى اعتبار لنا ؟
هل شاهدت احدا يقف في الطرقات مساء لدى عودة القطعان من المراعي فينتقي منها ما يروقه من أكباش وثيران ويمضي بها لذبحها دون اكتراث بأصحابها ؟
أستوقفك أحد و أنت في طريقك للمدرسة و قادك بالقوة الى حديقته لتنجز له اشغالا دون حتى كلمة شكر في النهاية ؟
أأيقظك أحد من سباتك في ليل شتوي حالك و أمرك بأن تحمل رسالة الى مكان ما بعيد و ان تعود قبل شروق الشمس محملا بالحواب ؟
أبلغ معلمك أننا عشنا كل هذاو اكثر , لذلك نحن لا نريد خبزا و لا غيره بقدر ما نطالب بان نترك لنعيش في سلام من غير ازعاج .
للكن المعلم لم ينزعج و هو يسمع لمختلف الردود . وحين استوفى الاستماع قال معلقا : آباؤكم و امهاتكم منطقيون مع انفسهم و لأنهم ينظرون للحاضر بعيون الماضي , وسيحتاجون الى وقت طويل ان امتد بهم العمر ليدركوا أن مصادرات الأشياء ما عادت تحتاج الى اقتحام المنازل او الوقوف في الطرقات . لكن أنتم عليكم ان تنظروا للحاضر بعيون المستقبل . أنذاك ستدركون أنكم لم تعوا سوى جانبا بسيطا من حرمان شامل .
ارتجت الصور او هكذا بدا الامر لعيون كانت تنظر لواقع بدا يفصح عن أشيائه و يكشف خباياه . وتحول الصف الطويل المفضي لباب المطعم الى ما يشبه قطارا يستعد للاقلاع مغادرا الصبا . وفي الخلف بدت هناك اسوار تنمو على عجل . وخلفها وقف الآباء و الأمهات وبرفقتهم السي علي يلوحون مودعين الزاحفين للمستقبل .
عبد الله البقالي
كان سؤال محير يقلقه .اذ طيلة السنوات التي أدار فيها شؤون المدرسة , لم يراها فارغة مثلما كان يراها تك اللحظة..ذلك ان كل التلاميذ بما في ذلك الذين يدرسون في الفروع المنتشرة في ربوع القرية يحضرون الى المركز لتناول وجباتهم الغذائية بالمطعم المدرسي . ولهذا حرص دوما أن يكون حاضرا لتنظيمهم حتى يتناولون وجباتهم دون حوادث . لكن هذا لم يكن حافزه الوحيد . فقد كان يستغل المناسبة و يعمد الى تصفية حساباته مع بعضهم معتمدا في ذلك على ما يشبه تقارير كان يرفعها اليه أعضاء تعاونية المدرسة , و التي كانت تهم التجاوزات التي يرتكبها التلاميذ خارج أوقات الدراسة .
كان يصنف الحالات . الذين يلعبون في الشوارع كان يضعهم في صف . و الذين كانوا ينضمون لحلقات سور العاطلين الممتد في صدر القرية كان يضعهم في صف ثان . اما الصف الثالث فكان للذين يرتادون المقاهي و يلعبون البليارد .
كان يمكن أن يتساهل مع اصحاب الصف الأول و الثاني , لكنه لم يكن مستعدا على الاطلاق لمناقشة أمر أصحاب الصف الثالث . ينزل بهم أشد العقوبات ,لحد أن بعض المستهدفين كانوا يستغلون أية هفوة في المراقبة و يطلقون سيقانهم للريح .غير أنه كان يعمل على ارجاعهم أينما وجدوا مدعوما في ذلك بدعم الآباء لقرارته وتجاوبهم معها لينتهي المطاف بقصاص مضاعف يصل حد الجلد وسط الساحة .
أما حين كانت الأمور تسير بالشكل الذي يرضيه , فقد كان ينذر نفسه لمهمة اخرى . يستعرض الصف الطويل تلميذا تلميذا . المراقبة كانت تشمل كل شئ . طول الشعر , الأظافر , النظافة , وينتهي الامر بتفقد الأزرار و السؤال عن أوضاع الأسرة . لكن ما الذي حدث اليوم .؟ سؤال كان طاغيا على تفكيره و هو يشق الطريق الظليل . ومن أبعد نقطة لاحت له منها الطباخة علا صوته جاذبا اليه الأنظار .
- ما الذي حدث اليوم ؟ أين بقية التلاميذ ؟
- لم يحدث شيئ . كل ما في الأمر أننا لم نتوصل اليوم بالخبز .
تسمر السي علي في مكانه وقال زاما شفتيه محركا رأسه : آه..هو الخبز اذن ..I لكن لماذا ؟
كمدمرة اندفع السي علي عندما يكون عادة تحت تأثير شحنة من الانفعلات الداخلية , مستغرقا في حوار يشكل طرفيه , محركا يديه بطريقة تفيد عدم الفهم لما جرى . اتجه صوب باب المطعم , وقبل أن يصله قفل راجعا اتجاه بيته . ثم ليتوقف وسط الساحة . اتجه أخيرا الى مؤخرة الصف و اختار جماعة من الأطفال مشكلا ما يشبه لجنة مهمتها أن استقبال الناقلة التي تفد من المدينة كل صباح . وحمل أعمدة الخبز التي تحملها من المدينة . لكن هذا القرار كان قد اصبح متجاوزا . اذ بتلقائية كانت قد نبعت من اعماق الجميع تشكلت عشرات اللجن , و اخذت على عاتقها أن لا يتكررما حدث اليوم . حتى ان سائق الناقلة احتار في اليوم الموالي و لم يعرف لمن يسلم الخبز . ذلك أن تلاميذ الفوج الثاني كانوا جميعهم هناك . وحين حمل الخبز بدا الأمر يشبه موكبا جنائزيا .
غير أن السي علي بدا تلك اللحظة مختلفا وهو يمر أمام التلاميذ.كان يتحدث برقة غير معهودة فيه . وفي حديثه نوع من الواساة و الأسف لما حصل . لكن هذا لم يكن ليغير شيئا . الاطفال كانوا مستعدين لأي شئ . اساءة, زجر , عقاب , ظلم , لكنهم لم يكونوا مستعدين لان يحرموا من ذلك الخبز المحمر الهش , و الجوف الناصع البياض . و لأنه لم يكن مجرد خبز .
كان ما يشبه جزاء على صبر و انتظار طويلين . سبب وحيد يجعل لاختلاف الأيام معنى في عالم ينسكب فيه الزمن بلا جدوى .عملة قوية تمكن من تشغيل أجراء يقومون بانجاز الفروض و التمارين المنزلية وتمكن من تجنب عقاب المعلم , وقد تمتد الخدمة الى داخل الفصل من أجل تسهيل عمليات الغش و النقل . وماذا كان بامكان السي علي أن يفعل وهو المهوس بزجر المخالفات لو علم بهذه التجاوزات ؟.
المعلم نفسه لم يفعل شيئا حين وقف على بعض الحالات .نظر طويلا الى اولئك المتلبسين و لم يقم باي اجراء . اعتبر أن حرمان اولئك من خبزهم كان عقابا كافيا . أما حين تأكد ان تلك الظاهرة اوسع مما اعتقد , نظر الى الجميع و قال بأسى : الذنب ليس ذنبكم , لكنه سيصير كذلك بعد حين . انما لو كنتم في مجتمع له مفهوم صحيح للمواطنة فما كان ليحدث هذا كله . لم يكن لتأتوا لا هثين من اطراف القرية لتتكالبوا على باب المطعم . وما كان الأمر يحتاج لأن تجلدوا وسط الساحة . أفضل من هذا الخبز كان سيأتيكم الى بيوتكم ...
لم يسمع الاطفال بقية ما قاله . ظلوا يتبادلون النظرات صامتين ..كيف سيأتي الخبز الى منازلهم ؟ ..أهو ذلك الخبز نفسه ؟ ..من سيحمله ؟ من سيؤدي ثمنه ؟ ماذا أصاب المعلم ؟
لكن المعلم كان هو من تساءل عما أصاب تلاميذه الذين تحولوا الى ما يشبه تماثيل . وحين شجعهم على الافصاح عما دهاهم اندفعوا متحدثين ..
ابتسم المعلم بعد ان استمع اليهم وقال : ما قلته ليس من صنع الخيال ..انها حقيقة تعيشها مجتمعات كانت أفقر منكم , لكنها تماسكت و رفضت مجتمع الأسياد ...أتعرفون "شنيور" كناس الشارع ؟ لو كان في هذا المجتمعات فانه كان سيحصل على نفس اجر الطبيب .
ازداد الامر غرابة ..كيف يتساوى شنيور كناس الشارع ببذلته الزرقاء الوسخة و وقلنسوته الباهتة الالوان , ورائحة العفونة التي تصدر منه مع الطبيب صاحب السيارة السوداء الفارهة و و الهندام الانيق و واللحية المهندسة باتقان و التي تشبه الغليون الذي يتدلى من فمه ؟
ابتسم المعلم مجددا و هو ينظر الى الوجوه التي استبدت بها الحيرة و اضاف : أنا اعرف ان منكم من لم يصدق , وهناك من لن يصدق . لكني سأوضح لكم السر .
هذا المجتمع بني على اساس ان لا فرق بين مواطنيه لا في الحقوق و لا في الأرزاق . فاذا كان الطبيب يهتم بصحة المجتمع و فكناس الشارع يهتم بنظافة المجتمع , وهكذا فمهمة الرجلينتبدوان متكاملة و لذلك كان أجرهما متساويا .
تصايح التلاميذ : أين يحدث هذا ؟
- في المجتمع الاشتراكي .
- و الاشتراكية هي هذه التي ذكرت ؟
- هي كذلك .
- و لماذا لا نقيم مثلها ؟
- هذا يتوقف على رغبتكم يوم تصبحون رجالا .
لم يعرف الاطفال كيف وصلوا الى بيوتهم بعد نهاية الحصة . هل المسافة الفاصلة بين المنازل و المدرسة هي التي تقلصت و ام أن سيقانهم هي التي طالت وصار بامكانها أن تجوب رحاب المعمور في بضع خطوات .كانوا مأسورين , ماخوذين بهذا الجديد الذي امتلكهم .الاشتراكية .هذا السحر . هذا الخلاص القادم الذي ستعبد طريقه سواعدهم حين تصير قوية .
كانوا يجرون و يجرون و ينظرون الى تلك الدنيا التي ستقبر بعد حين لتبنى أخرى على انقاضها . دنيا ليست فيها بطون متخمة و أخرى لم تجد غير الحبال لمداراةالجوع.
أحدهم دفع باب بيتهم بقوة لدى وصوله .أثار ذلك انتباه النسوة اللواتي كن متحلقات حول الفرن البدائي المنتصب فب فناء البيت المكشوف للسماء .صاح في أمه : أبشري ..لن تدوم تعاستنا طويلا ..
احدى النسوة سألته : أعثرت على كنز ؟
حرك راسه مشيرا بالنفي و و في الوقت نفسه مفيدا أن ما وراءه اهم من ذلك . سألته أمه : خيرا ان شاء الله .
لكنه كان هو من سأل : أتعرفين الاشتراكية ؟ أسمعت بها ؟
تبادلت النسوة النظرات و غالبن ضحكات اجلنها الى حين باشارة بدرت من الام التي اجابت : لا ..لا عرفتها و لا سمعت بها .
وقف الطفل ينظم خطبته و بعدها قال : الاشتراكية هي أن نهدم هذا الفرن لأننا لن نصير في حاجة اليه و لان الخبز ..آه لو تعرفين أي خبز ..I الى هنا سيأتي . وهذه الأسوار المتصدعة التي تحيط البيت لن تخيفنا , لأنه لن يصير في البلاد اناس يمتهنون السرقة من أجل اطعام ابنائهم ..
قاطعنه الام : لكن كيف سيأتي الخبز الى هنا ؟
ضرب الطفل بكفه راحة يده الاخرى وقال مخاطبا نفسه : ..انه نفس السؤال المحير ..ليت المعلم كان حاضرا .غير أنه تجاهل السؤال و قفز للبقية . وحين تحدث عن شنيور و الطبيب انفجرت النسوة ضاحكات . أحس بالمهانة و قفل مغادرا . استوقفته امه سائلة : من أين استقيت هذه الافكار ؟
اعتقد أن ذكر المعلم كان كافيا كي تقتنع الام التي تضاعف غضبها قائلة : قل لمعلمك ان يعجل بزيارة ضريح "سيدي علي بوسرغين " أو ليذهب الى مستشفى المجانين ببرشيد لعله يتعافى مما هو فيه
لكنه احتج بقوة وهو يصرخ : لكنه المعلم .
أنذاك امسكته من خناقه و قالت : أرأيت أحدا يقتحم يبتنا ويطوف في غرفه ليختار ما يروقه من اشياء و يمضي بها دون أدنى اعتبار لنا ؟
هل شاهدت احدا يقف في الطرقات مساء لدى عودة القطعان من المراعي فينتقي منها ما يروقه من أكباش وثيران ويمضي بها لذبحها دون اكتراث بأصحابها ؟
أستوقفك أحد و أنت في طريقك للمدرسة و قادك بالقوة الى حديقته لتنجز له اشغالا دون حتى كلمة شكر في النهاية ؟
أأيقظك أحد من سباتك في ليل شتوي حالك و أمرك بأن تحمل رسالة الى مكان ما بعيد و ان تعود قبل شروق الشمس محملا بالحواب ؟
أبلغ معلمك أننا عشنا كل هذاو اكثر , لذلك نحن لا نريد خبزا و لا غيره بقدر ما نطالب بان نترك لنعيش في سلام من غير ازعاج .
للكن المعلم لم ينزعج و هو يسمع لمختلف الردود . وحين استوفى الاستماع قال معلقا : آباؤكم و امهاتكم منطقيون مع انفسهم و لأنهم ينظرون للحاضر بعيون الماضي , وسيحتاجون الى وقت طويل ان امتد بهم العمر ليدركوا أن مصادرات الأشياء ما عادت تحتاج الى اقتحام المنازل او الوقوف في الطرقات . لكن أنتم عليكم ان تنظروا للحاضر بعيون المستقبل . أنذاك ستدركون أنكم لم تعوا سوى جانبا بسيطا من حرمان شامل .
ارتجت الصور او هكذا بدا الامر لعيون كانت تنظر لواقع بدا يفصح عن أشيائه و يكشف خباياه . وتحول الصف الطويل المفضي لباب المطعم الى ما يشبه قطارا يستعد للاقلاع مغادرا الصبا . وفي الخلف بدت هناك اسوار تنمو على عجل . وخلفها وقف الآباء و الأمهات وبرفقتهم السي علي يلوحون مودعين الزاحفين للمستقبل .
عبد الله البقالي