غاب السندباد عني، وانقطعتْ أخبارُه، حتى خشيت أن يكون وراء طول الغياب طارئٌ مزعج أو مصاب. تقصَّيتُ أخبارَه في الموانئ والخانات بين التجار، فلم أجد مجيبًا على سائل. وتابعت برامج المغامرين على الفضائيات فلم أحصل على طائل. فـ"غسلتُ منه اليدين"، وخلدتُ إلى اليأس الذي هو إحدى الراحتين. أما قرَّائي الذين سألوني عنه، قلقين عليه مشتاقين إلى قصصه، فقد لاذوا هم الآخرون – من كثرة الظنون – بما يشبه: "إنا لله وإنا إليه راجعون"!
لكن ضربًا قويًا مضطربًا على باب بيتي ليلة أمس قد قلب الأمور. وإذا أنا وجهًا لوجه أمام صاحبنا الذي بدا على هيئته كأنه فارٌّ من مقدور أو منبوش من أحد القبور. فاستنكرت ما هو عليه من الخوف والاضطراب والغمِّ والاكتئاب، وقلت: "ما لك يا رجل؟! هل تورَّطتَ في عمل سياسيٍّ، فأنت ملاحق مطلوب؟ أم تزوجت من امرأة شغوب لغوب؟" فقال: "لا هذه ولا تلك – عداك الشرُّ. على أن الأمر أدهى وأمرُّ. فاروِ عني هذه الحكاية لقرَّائك، ليعلموا بعض ما في هذا الزمان من المهالك، فتتركها عبرة من ورائك." قلت: "هات."
قال: "أصلحك الله وعافاك، وجنَّبكَ ما تكره من موارد الهلاك. عصفَ بسفينتنا في عُرض البحر هواءٌ أصفر، وراح الموت يتعقَّبنا واحدًا بعد آخر، حتى أتى على كلِّ من في السفينة – عدا صاحبك. فدبَّ اليأس في النفسِ، وتركتُ السفينة تأخذ وجهة الريح، على وجه خاطئ أو صحيح، لا ألوي على الحياة، ولا أطمحُ إلى نجاة – فالأمر سيَّان بعد موت الرفاق والخلان. ثم إني لا عهد لي بتوجيه دفة ولا نشر قلوع. فما كان بعد أن نفد الماء والزاد إلا العطش والجوع.
"وبينا أنا على هذه الحال من التلف وانقطاع الآمال، إذ لاحت من بعيد مدينةٌ عامرة كبيرة زاهرة، كأنها – إذا صدق القائل – عاصمة من العواصم الأواهل. وما هي إلا ساعة حتى تلقَّفني خفر السواحل، فعوملت بغاية الإكرام وشامل الاهتمام. ونُقِلتُ على جناح الإحسان والاطمئنان إلى قصر السلطان الذي استقبلني استقبالاً أنساني ما لاقيت من مخاطر وأهوال بما أغدق عليَّ من نفيس الهدايا وكثير الأموال، وقال لي: "أنت لدينا معروف برحلاتك ومغامراتك. فهاتِ قصَّ علينا بعض أقاصيصك وحكاياتك." فقصصت عليه، فأعجب. واستزادني، فزدتُه مما أصدِّق وأكذِّب. وقرَّبني إلى مقامه الخطير تقريب الصاحب للصاحب، حتى صرت أدخل عليه دون إذن أو حاجب.
"وذات يوم فاتحني السلطان بأمر غريب، فقال لي: "أتعرف أن أحد أسباب حفاوتي بك وسروري بقدومك أمرٌ لم تعرفه بعد؟" قلت: "ما هو؟ طال بقاؤك."
قال: "مات كلُّ من في بلادي من القصَّاصين والحكَّائين، ولم يعقبوا بعدهم أحدًا ليقصَّ علينا، فحُرِمْنا متعة المسامرة، وانقرضتْ جلسات المنادمة. وأخشى أن يشيع حولنا ما نحن فيه من حالٍ، فيكثر القيل والقال. ولا أكتمك أن بعض المغرضين من الأعداء والمناوئين يتهمونني بقتل الخيال – وأنا والله لا أعرفه! – ويضيفون أن له زوجه – واسمها الحريَّة – هامت على وجهها بعد موت زوجها في الجبال. وأنا لي عندك حاجة." قلت: "أمرك مطاع."
قال: "أريد منك أن تنفي هذه التهمة عنَّا – وأنت شيخ القصَّاصين والحكَّائين – بأن تقوم برحلة نعدُّها لك أحسن إعداد، وتعود منها بأحلى الحكايات عما رأيت من عجائب البلاد والعباد. فهل تتوكل على الله، وتكون سلطنتي هذه، المسماة سلطنة الأمن والأمان، مدينة لك على مرِّ الزمان؟" قلت: "نِعمَ الاتكال."
"وبدأ الاستعداد لهذه الرحلة – لا أراك الله مكروهًا – فكان أن أُدخِلتُ أسبوعًا إلى أحد المشافي، فأُجرِيَتْ لي الفحوصُ والاختبارات والتحليلات ليطمئنوا، كما قالوا، على وضعي العام، ولأكون على ما يرام. ثم أُخِذتُ إلى مخفر للشرطة، فملأتُ استماراتٍ فيها نَسَبي وحسبي، وأسماء آبائي وأجدادي وأولادي وأحفادي، وبناتي وأزواجهن، وزوجاتي وأهلهن، ومعارفي وأصدقائي وسيرة حياتي، لكي لا يفقدوني، كما أخبروني.
"أما السفينة المُعَدَّة فأمرٌ لا يتَّسع له الخبر: فيها من المؤن ما يكفي ألف نفر، ومحاطة بقوارب النجاة إذا دهم الخطر. فيها عيادة لطبيب، وحامية مسلحة لتكون آمنة من شرِّ القراصنة، وتراقبها عن بعد سفينتان أخريان. الطباخون على سطحها مزوَّدون بالمسدسات، والخادمات يحملن الموبايلات. رُبَّان السفينة أميرال ومساعدوه جنرالات. أما مراقبو الطقس النشطاء فيزوِّدونني كلَّ صباح بأخبار دقيقة عن جهات مهبِّ الرياح وتقلُّب الأنواء. إذا نظرتُ من سطح السفينة إلى البعيد أقبل أكثرُ من سائل يسألني: "ماذا تريد؟" أما ممرات السفينة والمقصورات فمرصودة بالكاميرات... إلى ما هنالك مما لا أريد أن أقصَّ عليك من الترَّهات...
قلت – والكلام للسندباد: "يا رعاكم الله! لماذا كل هذه التجهيزات والمعدَّات؟ وعلام كل هذه الضوابط والإجراءات؟" قالوا: "أمنك وسلامتك هما أهم الغايات." قلت: "ولكن مثل هذه السفينة لا تضلُّ، ولا تُسرَق، ولا تتعطَّل، ولا تغرق... وقد كثر الحذر حتى انتفى الخطر. فكيف لحادث أن يحدث؟! وكيف لطارئ أن يطرأ؟! ومن أين آتيكم بالحكايات إذا انتفتْ أسباب الحوادث والمزعجات، وسَدَدْتُم المنافذ على مجريات الحياة؟!" قلتُ: "ثم ماذا؟"
قال السندباد: "وفي ليلة ليلاء، عاصفة نكراء، صلَّيت ركعتين، ونظرت حولي مرَّتين، ثم ألقيت بنفسي في لجَّة الماء، هاربًا، تاركًا بلاد الأمن والأمان، بلا أمنيات أو حكايات. فقدَّر الله ما شاء، حتى وصلت إليك بين اليأس والرجاء."
عن معابر
لكن ضربًا قويًا مضطربًا على باب بيتي ليلة أمس قد قلب الأمور. وإذا أنا وجهًا لوجه أمام صاحبنا الذي بدا على هيئته كأنه فارٌّ من مقدور أو منبوش من أحد القبور. فاستنكرت ما هو عليه من الخوف والاضطراب والغمِّ والاكتئاب، وقلت: "ما لك يا رجل؟! هل تورَّطتَ في عمل سياسيٍّ، فأنت ملاحق مطلوب؟ أم تزوجت من امرأة شغوب لغوب؟" فقال: "لا هذه ولا تلك – عداك الشرُّ. على أن الأمر أدهى وأمرُّ. فاروِ عني هذه الحكاية لقرَّائك، ليعلموا بعض ما في هذا الزمان من المهالك، فتتركها عبرة من ورائك." قلت: "هات."
قال: "أصلحك الله وعافاك، وجنَّبكَ ما تكره من موارد الهلاك. عصفَ بسفينتنا في عُرض البحر هواءٌ أصفر، وراح الموت يتعقَّبنا واحدًا بعد آخر، حتى أتى على كلِّ من في السفينة – عدا صاحبك. فدبَّ اليأس في النفسِ، وتركتُ السفينة تأخذ وجهة الريح، على وجه خاطئ أو صحيح، لا ألوي على الحياة، ولا أطمحُ إلى نجاة – فالأمر سيَّان بعد موت الرفاق والخلان. ثم إني لا عهد لي بتوجيه دفة ولا نشر قلوع. فما كان بعد أن نفد الماء والزاد إلا العطش والجوع.
"وبينا أنا على هذه الحال من التلف وانقطاع الآمال، إذ لاحت من بعيد مدينةٌ عامرة كبيرة زاهرة، كأنها – إذا صدق القائل – عاصمة من العواصم الأواهل. وما هي إلا ساعة حتى تلقَّفني خفر السواحل، فعوملت بغاية الإكرام وشامل الاهتمام. ونُقِلتُ على جناح الإحسان والاطمئنان إلى قصر السلطان الذي استقبلني استقبالاً أنساني ما لاقيت من مخاطر وأهوال بما أغدق عليَّ من نفيس الهدايا وكثير الأموال، وقال لي: "أنت لدينا معروف برحلاتك ومغامراتك. فهاتِ قصَّ علينا بعض أقاصيصك وحكاياتك." فقصصت عليه، فأعجب. واستزادني، فزدتُه مما أصدِّق وأكذِّب. وقرَّبني إلى مقامه الخطير تقريب الصاحب للصاحب، حتى صرت أدخل عليه دون إذن أو حاجب.
"وذات يوم فاتحني السلطان بأمر غريب، فقال لي: "أتعرف أن أحد أسباب حفاوتي بك وسروري بقدومك أمرٌ لم تعرفه بعد؟" قلت: "ما هو؟ طال بقاؤك."
قال: "مات كلُّ من في بلادي من القصَّاصين والحكَّائين، ولم يعقبوا بعدهم أحدًا ليقصَّ علينا، فحُرِمْنا متعة المسامرة، وانقرضتْ جلسات المنادمة. وأخشى أن يشيع حولنا ما نحن فيه من حالٍ، فيكثر القيل والقال. ولا أكتمك أن بعض المغرضين من الأعداء والمناوئين يتهمونني بقتل الخيال – وأنا والله لا أعرفه! – ويضيفون أن له زوجه – واسمها الحريَّة – هامت على وجهها بعد موت زوجها في الجبال. وأنا لي عندك حاجة." قلت: "أمرك مطاع."
قال: "أريد منك أن تنفي هذه التهمة عنَّا – وأنت شيخ القصَّاصين والحكَّائين – بأن تقوم برحلة نعدُّها لك أحسن إعداد، وتعود منها بأحلى الحكايات عما رأيت من عجائب البلاد والعباد. فهل تتوكل على الله، وتكون سلطنتي هذه، المسماة سلطنة الأمن والأمان، مدينة لك على مرِّ الزمان؟" قلت: "نِعمَ الاتكال."
"وبدأ الاستعداد لهذه الرحلة – لا أراك الله مكروهًا – فكان أن أُدخِلتُ أسبوعًا إلى أحد المشافي، فأُجرِيَتْ لي الفحوصُ والاختبارات والتحليلات ليطمئنوا، كما قالوا، على وضعي العام، ولأكون على ما يرام. ثم أُخِذتُ إلى مخفر للشرطة، فملأتُ استماراتٍ فيها نَسَبي وحسبي، وأسماء آبائي وأجدادي وأولادي وأحفادي، وبناتي وأزواجهن، وزوجاتي وأهلهن، ومعارفي وأصدقائي وسيرة حياتي، لكي لا يفقدوني، كما أخبروني.
"أما السفينة المُعَدَّة فأمرٌ لا يتَّسع له الخبر: فيها من المؤن ما يكفي ألف نفر، ومحاطة بقوارب النجاة إذا دهم الخطر. فيها عيادة لطبيب، وحامية مسلحة لتكون آمنة من شرِّ القراصنة، وتراقبها عن بعد سفينتان أخريان. الطباخون على سطحها مزوَّدون بالمسدسات، والخادمات يحملن الموبايلات. رُبَّان السفينة أميرال ومساعدوه جنرالات. أما مراقبو الطقس النشطاء فيزوِّدونني كلَّ صباح بأخبار دقيقة عن جهات مهبِّ الرياح وتقلُّب الأنواء. إذا نظرتُ من سطح السفينة إلى البعيد أقبل أكثرُ من سائل يسألني: "ماذا تريد؟" أما ممرات السفينة والمقصورات فمرصودة بالكاميرات... إلى ما هنالك مما لا أريد أن أقصَّ عليك من الترَّهات...
قلت – والكلام للسندباد: "يا رعاكم الله! لماذا كل هذه التجهيزات والمعدَّات؟ وعلام كل هذه الضوابط والإجراءات؟" قالوا: "أمنك وسلامتك هما أهم الغايات." قلت: "ولكن مثل هذه السفينة لا تضلُّ، ولا تُسرَق، ولا تتعطَّل، ولا تغرق... وقد كثر الحذر حتى انتفى الخطر. فكيف لحادث أن يحدث؟! وكيف لطارئ أن يطرأ؟! ومن أين آتيكم بالحكايات إذا انتفتْ أسباب الحوادث والمزعجات، وسَدَدْتُم المنافذ على مجريات الحياة؟!" قلتُ: "ثم ماذا؟"
قال السندباد: "وفي ليلة ليلاء، عاصفة نكراء، صلَّيت ركعتين، ونظرت حولي مرَّتين، ثم ألقيت بنفسي في لجَّة الماء، هاربًا، تاركًا بلاد الأمن والأمان، بلا أمنيات أو حكايات. فقدَّر الله ما شاء، حتى وصلت إليك بين اليأس والرجاء."
عن معابر