المصطفى السهلي - عن “هاجس الصحراء في الأدب العربي المعاصر” للأستاذ محمد أبزيكا..

جمعية أصدقاء الثقافة والفن من الجمعيات التي كانت رائدة في مدينة تارودانت ، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته ، وكان لها إشعاع ثقافي فعّال ، يبعث الدفء والحياة في مفاصل المدينة وشرايينها ، حتى قبل أن تُعقَد فيها أول مناظرة وطنية للثقافة في منتصف الثمانينيات . والصورة أسفله توثق لواحد من نشاطات هذه الجمعية ، وهو محاضرة ألقاها الدكتور محمد ابزيكا ، الأستاذ بكلية الآداب جامعة ابن زهر بأكادير ، يوم السبت 14 أبريل 1984، في موضوع : ” هاجس الصحراء في الأدب العربي المعاصر ” ، بمقر دار الشباب ( المحايطة ) بتارودانت . ويبدو في الصورة من اليمين إلى اليسار : عبد اللطيف وهبي ، ومحمد جعفر ، ومحمد ابزيكا ، والمصطفى السهلي ، والحسين كوحميد ، وجعفر حسون . ومع الصورة ، أيضا ، شريط يوثق لحي
لم أعثر ساعة نشر هذه الصورة ، على الورقة التي كنت دوّنت فيها ، آنذاك ، تغطية لهذه المحاضرة… وقبل أسابيع فقط ، عثرت عليها بين كومة من الأوراق القديمة ، التي كنت أقوم بمراجعتها وتصفيتها ، فسُرِرت لذلك أيما سرور، فأحببت ، بمناسبة هذه الذكرى ، أن أتقاسمها مع قراء هذه الصفحة ، لعلني أضعهم في الأجواء الثقافية والفكرية لتلك المحاضرة القيمة…فمعذرة على التأخير الحاصل بسبب ذلك ، ورحمة الله على أستاذنا الكبير الدكتور محمد ابزيكا…
عن “هاجس الصحراء في الأدب العربي المعاصر” للأستاذ محمد أبزيكا.
أوضح الأستاذ المحاضر، بدايةً، أن هذا الموضوع كُتب أصلا للقراءة، لا للإلقاء. وعلى ضوء هذا التوضيح يمكن إدراك “الطبيعة الصحراوية” لهذا الموضوع. والمقصود هنا بالصحراء، خاصة، الشساعة والتعددية وامتداد الأفق، ذلك أن القضايا التي تمّ طرحها للتحليل والمناقشة كانت متعددة، ومتشعبة، ومتداخلة أيضا، بدءا من وظيفة الأدب، ومهمته، وقضية الالتزام أو الحرية، وعلاقة الأدب بالسياسة، وتحديد مفهوم الصحراء…إلخ. وقد تمّ تناول هذه القضايا بالنسبة للآداب العالمية ( شرقيّها، وغربيّها ) ، ثم من خلال الأدب العربي ( قديمه وحديثه ). إن الرحلة عبر هذه “الصحراء”، كجميع الرحلات عبر الصحارى مغامرة محفوفة بالمصاعب والمشقات، والسلامة فيها غير مأمونة دائما. غير أن المثير حقا في هذه “الرحلة” قدرة الأستاذ المحاضر على الخروج، بمرونة وحذر، من المآزق، والشِّراك المنصوبة، تاركا للمتلقي فرصة استخلاص النتيجة، وتحصيل الفائدة.
إن الطرح الأساسي في المحاضرة، في نظري، هو هذه الوظيفة المستقبلية التي أُسنِدت إلى الأدب، والتي تنسف التصور التقليدي عن مهمة الأدب ووظيفته ، الذي يجعل من الأدب وثيقة شاهدة على حالة حاضرة فقط، أو مكرّسة للحظة ماضية. إن الأدب بهذا الطرح الجديد، ليس تعبيرا عن عما هو كائن، ولكنه تعبير عما يمكن أن يكون، أو عما ينبغي أن يكون. وقد أكد الأدب قدرته على تحقيق ذلك، ويكفي للتأكد من هذه الحقيقة استنطاق أعمال أدبية وُفِّقت إلى ذلك، خصوصا في النصف الأول من القرن العشرين( قصيدة”الأرض الخراب” لإليوت، ومسرحية “المغنية الصلعاء” لبيكيت، ورواية”1984″لأورويل، وبعض مظاهر الأدب الرومانسي ). وإذا كانت آداب الغرب تتسم بنوع من الإنذار، فإن آداب الشرق، على العكس منها، تعمل على التبشير بمجتمع جديد، قائم على العدل والمحبة وعدم العنف ( تولستوي و غوركي ).
أما في الأدب العربي فإن فكرة التنبؤ التي ترتبط في العقيدة الإسلامية بالوحي، لم تكن واردة، فانصبت عناية الأدب، نتيجة ذلك، على ما هو آني ( حاضر )، وانصرفت عما هو آتٍ ( مستقبل )… ( المتنبي وما عاناه نتيجة ادعائه النبوة، عندما حاول الخروج عن هذا التوجه ). أما في الأدب العربي المعاصر فقد حاول جيل الأربعينيات أن يكسر القاعدة، فأصبح مبشرا بقيم جديدة، ويتنبأ بما هو أفضل ( قصائد السياب، وخصوصا قصيدة “أنشودة المطر”.) وكانت هزيمة حزيران 67 منعطفا مهما في هذا الأدب العربي الحديث. إن ظهور الأدب الحزيراني يتزامن مع ظهور الكثبان الأولى من الصحراء القادمة.
إن الصحراء التي يطرحها الموضوع/المحاضرة هي ذات بعدين: نفسي، وحضاري. فالصحراء ترتبط لغويا بمفاهيم متعددة، كالقحط، وعدم الاستقرار، والارتحال، والعنف، ومهبط الوحي… إلخ، والأدب العربي المعاصر يقف متطلعا إلى الصحراء القادمة. ويمكن رصد هذا التطلع من خلال بعض النماذج، ففي بعض أعمال غسان كنفاني تحتل الصحراء مكانا مهما، وتحمل، في الوقت نفسه، دلالتين متباينتين. ففي روايته “رجال تحت الشمس” تشهد الصحراء الممتدة بين البصرة والكويت موت فلسطينيين فارين من المنفى، بحثا عن وطن/ملجأ، يموتون داخل الصهريج الذي كانوا يختفون بداخله. وفي رواية”ما تبقى لكم” تصبح الصحراء مسرحا للمجابهة بين البطل وعدوه… فإذا كانت الصحراء قد شهدت موتا مجانيا في العمل الأول، فإنها في العمل الثاني شهدت الموت المواجه. أما عبد الله العروي فيطرح الصحراء من خلال العلاقة بين البنيتين الفوقية والتحتية، إذ في الوقت الذي يتم فيه بناء الصناعة، يتم تهديم الإيديولوجيا، ( وبسقوط الإيديولوجيا يسقط الإنسان الحامل لها ). غير أن التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هو : هل تموت الإيديولوجيا بنهوض الصناعة؟ إن تنبؤ العروي وليد حكم مسبق على اليسار العربي بالموت… أما عبد الكبير الخطيبي فينطلق من رؤية أقرب إلى التفاؤل، انطلاقا من الترجيح بأن المواجهة ستنتهي باستعادة الصحراء لنفوذها… ويشترك كل من عبد الوهاب البياتي، وأمجد ناصر، ومحمود درويش أيضا في تسلط هاجس الصحراء على جانب مهم من قصائدهم، وفي ذلك ما يؤكد أن هذه المسألة لم تعد حالة خاصة بفرد معين، وإنما ظاهرة تكشف عن تطلع الأدب العربي المعاصر إلى ما هو آتٍ… وانفتحت المحاضرة في النهاية على التساؤل التالي: ما طبيعة التصور عن هذه الصحراء القادمة؟ هل هو تفاؤل، أم تشاؤم؟ أعقبت المحاضرة مناقشة مستفيضة، ثمّنت الموضوع وجدّته، وأغنت محاوره، وفتحت فيه نوافذ جديدة…

المصطفى السهلي

عن “هاجس الصحراء في الأدب العربي المعاصر” للأستاذ محمد أبزيكا..بقلم المصطفى السهلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى