فولاذ عبدالله الأنور - الخروج من بابل.. شعر

فى الصباح الفسيحِ ، وعيناكِ مقبلتانِ ،
أرى فيهما علماً ،
لقرىً تتسامق فى الريحِ ،
سيدتى ،
لا مرايا الجرائدِ ، لا صحفَ الشعر ،
لا شجَر الصيف يشبه عينيكِ ،
لا لمعة السيف تعكس مثلهما ،
كلَّ هذا الإباء الجريحِ ،
قرىً تتسامقُ ،
أوديةُُ تتعانقُ ،
أزمنةُُ تتلاحقُ ،
والشهداءُ يروحونَ والشهداء يجيئون ،
هل سكنت أرضَ " بابلَ " خيلُ التماسيحٍ ،
إن مشاةَ البحارِ ، قعَوْا فوق أسوارِها ،
ومناقيرهُمُ نَتِنَتْ ،
من فُتاتِ
العراقِ الذبيحُ .
. . . .
فى الصباحِ الفسيح وتأتينَ ،
ليسَ مثيلُُ لعينيكِ ،
حين تُطلينَ ،
عصرُ الفيوِضاتِ ، يولدُ ،
يمتد جسرُُِ من الفتياتِ ،
إلى أرضِ " أورَ" ،
يزعردنَ للشهداءِ ،
فلا ينضَبُ الشعرُ ،
لا ينطفى الكهرمانُ ،
ولا ينحنى للرصاصِ نخيلُ الفراتِ ،
ويصبحُ هذا الجمالُ بديلاً عن الموتِ ،
إنى أحبُّكِ ،
يرتفعُ النهر عن شطِّهِ ،
ويعانقُ قوسَ السماءِ ،
ويرتفعُ القبرُ عن قبوهِ ، ويطلُّ جميلاً ،
كقافلةٍ رجعتْ للبلادِ ،
أحبُّكِ ،
صار الهوى مِجْدلياً ،
وهذا الكلامُ نحاسُُ ،
وليس له رنةُ القلب حين تطلينَ ،
ليس لهذا الدنوِّ قياسُ ،
صببتكِ سيدتى فى دمى ،
وشدَدْتُ علىَّ غطاءَ القصيدةِ ،
ثم غفوتْ .
. . . .
موعدٌُ فى الصباحِ ،
وتأتين مثل الشهيدِة ،
لا خفةَ الطير فوق المحفة تشبه عينيكِ ،
لا رفةَ الأقحوانِ ،
وليست مرايا النهار كذلكَ ،
لا أفقَ الفجر ،
لا زرقةَ البحرِ ، تعكسُ مثلَ عيونكِ ،
شجوَ البلادِ البعيدةِ ،
هل سيكونُ الهوى بابلياً ؟
صببتُكِ سيدتى فى دمى ،
وادَّخَرْتُكِ حتى غدونا معاً ،
إنهُ النيلُ ،
ليس يوازيه إلا دمُُ سابحُُ فى الفراتِ ،
يفوحُ على قنواتِ الفضاءِ ،
ويطفو على صفحاتِ الجريدة .
. . . .
هل رأيتُك قبلَ صياحِ الولادةِ ؟
- من ألفِ عامٍ وعامٍ رأيتُكِ ،
إنَّ تجاوبَ صوتِ المآذنِ فى غَبَشِ الفجرِ ،
يكشفُ آفاقَ " حَورانَ " ،
يجلو الطريقَ الطويلَ ،
قطعناهُ فى سالفِ الدهرِ ،
مِن بابِ " عشتارَ "
حتى مضاربِ " كنعانَ " ،
فوقَ هوادجَ عائمةٍ ،
وبغالٍ وئيدة .
. . . .
هل رأيتُكِ قبل صياح القصيدةِ ،
من ألف عام وعام رأيتُك سيدتى ،
وفقدتكِ من ألف عام ،
فهل تعب الشعرُ ، أم يئس الخطباءُ ،
فلا أحد يستطيع يعينُ الجريَح على دمهِ ،
أو يرتِّبَ فى غدِهِ ، موكباً للشهيدة .
. . . .
هل رأيتُك قبل صياحِ القصيدةِ ،
سيدتى
انشطرَ الركبُ ، وانفطرَ القلبُ ،
والأمنيات تدحرجتِ الآنَ ،
والقدمان على حافة الجُرفِ ،
لكنَّ عينيكِ مقبلتانِ ،
ومِن فرط ما غزّنى من جمالِكِ ،
حلّقتِ الرُّوْحُ فى الملكوتِ ،
وصارَ الهوى ، فى ازرقاقةِ هذى السماءِ ،
أحبُّكِ ، صار الهوى مخملياً ،
وصار المدى دافئاً كالحديقةِ ،
سيدتى ، خَفِّفى من فصاحةِ عينيكِ ،
أو كثِّفى من لطافةِ هذا النقاءِ ،
حنانيكِ ، هل أنتِ فاقدةُ أَمْ فقيدة ؟
. . . .
فى الصباحِ الفسيحِ ، وعيناكِ مقبلتانِ ،
فلو كان حبُّكِ فى غيرِ هذا الأوانِ ،
أكنتُ استشرت الكهانةَ فيكِ ؟
أكنتُ انتظرتُ اكتمالَ القصيدةِ ؟
ثم اصطحبتُكِ فوق الطريقِ الرمادىِّ ،
نحو مشارفِ " بابلَ " ،
فوق هوادجَ عائمةٍ ، وبغالٍ وئيدة ؟
ألفُ كلاَّ وكلاّ ،
حنانيكِ ، إذ نتقدَّمُ ، قد نتقاطعُ ،
أو نتراجعُ ،
لكننا سنكونُ ،
حنانيكِ إذ نتقدَّمُ ،
قد نتفرَّقُ ،
أو نتحرَّقُ ،
أو نتمزَّقُ ،
فى أفقِ أوطاننا ، ونضيعُ ،
ولكن أشلاءنا ستشيعُ ،
وتنبضُ ثانيةً فى القوافى ،
وتنسابُ بين عروقِ القصيدةِ



* من ديوان سيدة الأطلال الشمالية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى