علي ديبة - برسم الضحك

أبغض الحلال عند الله هو الذي لا يسمّى، جملةٌ رماها القاضي بوجههما متأففاً، ثم عقب قائلاً:
- عشرون عاماً مضت على عيشكما معاً, ذقتما من طعم الحياة حلوها ومرها، أنجبتما ولدين اللهم صلي على النبي الكريم ، كأنهما قطفتان من الحبق, كلٌ منكما حصّل تعليماً عالياً,‏


أي أنكما تملكان مؤهَّلاً ينأى بكما عن الجهل, وتملكان دخلاً يبتعد بأسرتكما عن الفقر والعوز والحاجة, لا أجد مبرراً لما أنتما عليه من الخلاف، وأكاد أجزم أن مشكلة كبيرة تخفيانها عن القضاء, و إلا لماذا سُدّتْ الأبواب بوجه صلح يجمع بينكما, ولا يجر أسرتكما إلى كل هذا التداعي والخراب .‏
أجهشت المرأة ببكاء حزين, أطلقت لدموعها العنان, ولعلها جاهدت لكسب عواطف القاضي والاستئثار بها, فأظهرت أمامه مهاراتها لإبراز ضعف الأنثى, ثم استرسلت في دفاعها قائلة:‏
- لا أدري ماذا أقول عن هذا الرجل الذي كان زوجي؟ كيف أعيش مع مَنْ باع الخبز والملح بثمن بخس, ونسي زوجة أقسَم لها آلاف المرات واعداً بالحب والوفاء والإخلاص؟ لماذا فضّل على قسَمِه لحظة عابرة, تكاد تكون غباراً ولحظة من تلك اللحظات التي تدوسها أقدامنا ..؟‏
عند آخر عبارة رفع القاضي نظارته، رمى الزوج بعين نصف مفتوحة حملت جميع ألوان اللوم والعتب والتقريع, توعّده بإشارة صريحة وجهها إليه برأس قلمه، كأنه يطالبه بكشف معصية مستورة، اعتبرها وراء كل هذا البؤس .‏
حار الزوج فيما يقول, خاف من ظنون زرعتها امرأته في رأس القاضي, تمنى لو يواجه تهمته هذه بضحكة مجلجلة ، ينتقل صداها من غرفة إلى غرفة ومن بهو إلى بهو، فيسمعها القاصي والداني في بناء المحكمة.. ولولا خوفه من عاقبة تزيد في طينه بلة ، لفعلها وترك لهاة حلقه تهتز من ضحك لا يتوقف. لم يكترث بالنظرات المصوبة نحوه, ولا بقلم أحس رأسه المدبب يكاد يخترق بوابة صدره. نظر إلى امرأته نظرة لا تخلو من المودة والحنان, ذكّرها بما بينهما من الوداد والحب, خاطبها صادقاً:‏
- عشرون عاماً وأنا أسامرك، أحترم رغباتك, أشاطرك أفراحي, ألوك منفرداً أحزاني وأوجاعي, لم أتأفف ولم أحتج، رفضت دعوات الأصدقاء وولائم الأقرباء للفوز بحبك ونيل مرضاتك، وبقيتِ غير قانعة ولا راضية، نقلتُ عملي إلى غرفة تشبه القبر فراراً من ظنونكِ بقريناتي، أين هو الخطأ إذا كلمتني شيماء؟ أو حدثتني غيداء, أو صافحتني هند؟‏
بدت المرأة محرجة خجلة أمام صراحة لا تتمناها ولا تريد الدخول في تفاصيلها, تمنت لو يعانقها زوجها كعادته ويدعوها للخروج من المبنى كله ولا يتم ما بدأه, فيكشف السر عن مشكلة ليست في حقيقة الأمر مشكلة. وكيف تتحقق رغبتها وهي التي اضطرت رجلها إلى رفع الغطاء عن المحظور والمستور؟‏
اقترب الزوج من منصة القاضي غير آبه, قال بصوت مرتعش قليلاً:‏
- معاذ الله يا سيدي أنا لست ممن يرتكبون المعاصي, لكن النفس الأمارة بالسوء، تفرض نفسها في لحظة ما, فينجرُّ المرء خلف مغامرة محدودة ومشروطة, لا تتعدى وقتاً بسيطاً من أوقات السعادة..وإليك ما حصل يا سيدي.. تركتُ ورائي نهاراً مليئاً بالتعب والشقاء، انزويت فوق مقعدٍ جانبيٍ في السيرفيس، تركتُ بصري يتمعّن المحال والأرصفة والمارة، لا أحد مهتم ولا مكترث بمن يتفحص أو يراقب، الكل في حال من السعي واللهاث والجري. في هذه اللحظة من لحظات التأمل والتلاشي، جلستْ إلى جواري سيدة لم أنتبه ولم أبالِ لها، حتى أنني لم أنظر إلى وجهها, فاجأتني هذه الأنثى بجرأة لم أعهدها بسواها من النساء، دفعتْ فخذها حتى لامس فخذي، تركت مرفقها يحك خصري ويداعبه، ما هو إلا زمن يسير حتى صارت أصابعها تنام في كفي، نظرتُ خجلاً بطرف عيني إلى وجهها, خلتُ نفسي أغوص في برميل ممتلئ بالماء البارد، لم تكن تلك المرأة سوى زوجتي..هذا هو الذنب الذي اقترفته يا سيدي، الذنب الذي أشعل غابة سعادتنا, وخلّف حياتنا وراءه سعيراً ورماداً..‏
خفضت المرأة بصرها استحياء, بحثت عن دفاع يبرّئ ساحتها, تجاوزت نظرات القاضي النافذة، التفتت إلى زوجها التفاتة مشحونة بالغضب وقالت :‏
- قل لي لو لم أكن أنا التي وجدتها بجوارك، هل كنت ستشعر أنك غصت في برميل ماء بارد, أم أن أحاسيسك ستنتقل بك إلى فرن أكثر حرارة من أفران الخبز العادية..‏
صمتٌ أطبق على فضاء المكان, ابتسم القاضي ابتسامة حيادية, حار بما يقول، لاشيء أمامه أو بين يديه يستحق العناء، كيف يصلح ذات البين ويوفق بين رأسين يعرّضان أسرتهما للتفكك والضياع؟ مسح جبينه براحته، حك صدغه, نظر إلى المرأة العنيدة نظرة لا تخلو من الاتهام, وجه رأس قلمه المدبب نحوها, أشار به إشارات متباطئة , ثم خرج عن وقاره, استسلم لضحكة شبه مكتومة وقال:‏
- سوف أروي لكما حادثة مشابهة جرت معي شخصياً, تجاوزناها أنا وزوجتي، التي استحقت تقديري واحترامي بعدما سمعتُ منكما ما سمعت. قبل زمنٍ تلقيت رسالة على هاتفي الخلوي تقول: هل أنت شاب؟ أجبتُ: اجل أنا كذلك. تلتها رسالة تقول: أ أنت متزوج؟ حرتُ بما أجيب، لا ادري كيف ولا لماذا استهوتني المداعبة، أجبتُ: ما زلتُ مشروع زواج, عقبتها رسالة لا تخلو من حرج، سألتني : هل أنت وسيم, أوجزت جوابي بكلمة واحدة: لا بأس . طالبتني قائلة: أرسل لي صورتك. بقيتُ حائراً ليوم كاملٍ، حتى ساقني تفكيري إلى مبررات ورطتني بما لم أحسب له حساباً . أرسلت لها شبه صورة لي ، كنت قد تصورتها قبل عقدين من الزمن وربما أكثر، ما زلت حتى هذه اللحظة أتساءل لماذا لبيتُ طلب امرأة مجهولة لا أعرفها ولا تعرفني . بعد يوم واحد رنّ هاتفي رنته المميزة ، ابتسمتُ مزهواً بانتصار تحقق لي، برسالة تحمل لي صورة انتظرتها على أحر من الجمر . على عجَل فتحتُ غلاف هاتفي , انتزعتُ مفاتيحه انتزاعاً، تاهت نظراتي فوق تلك المساحة الضيقة، خلتُ نفسي جمرة متقدة رمى بها القدر إلى قاعٍ جليدي.. هكذا صرت حين وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام صورة زوجتي ..‏
أظهرت المرأة المدعية دهشة ما مثلها دهشة, فتحت فاها ، جحظت عيناها، لم تنتظر بقيةً للواقعة، لم تبالِ كيف بدلت زوجة القاضي رقمها القديم برقمٍ جديد, تأبطت ذراع زوجها دون سابق إنذار ولا مقدمات ، التفتت إلى الوراء ، نظرت في عيني القاضي ذاته وقالت مهمهمة ومستغربة : قاصٍ يحتاج إلى قاضٍ ؟!‏

23/12/2008م
علي ديبة



علي ديبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى