لما رباح - أدب الأطفال : قصص للنوم أم للصحوة؟..

منذ فترةٍ وجيزة، بدأتُ بإعادة صياغة قصص أطفال لأرويها باللّهجة المحكية على إذاعة محلية؛ وهذه ليست وظيفة على الإطلاق، رغم أنّها مدفوعة الأجر (عشان الحلال والحرام)، لكنّ هذا العالم لطالما شدّني، وأصبحَ شغلي الشاغل أن أتعلّم كيف تُروى الحكايات.

عشقتُ القصص منذ كنتُ طفلةً في الروضة، وما زلتُ أذكر “مس لطيفة”، الألطف على الإطلاق، حين كانتْ تروي لنا قصصاً خيالية، ومن يصغِ للقصة جيداً، تعطيه “ستيكر” أو ملصقاً صغيراً لامعاً أحضرته من “أمريكا” خصيصاً لطلبتها، ما يزيد دهشتنا من هذه الجدّة الأنيقة، كونها تعرفُ عوالم بعيدة وسحرية، مليئة بالقصور والأمراء، كأمريكا.

ثم جاءت “مس كليمانس”، كنّا نسميها “ميكي ماوس” اختصاراً لسؤال أنفسنا عن معنى اسمها؛ كلّ لقاء كانت تنسى أنّها روتْ قصة “عقلة الاصبع” فترويها لنا مجدداً، وأذكر أنّها خيّبت أملي مرةً واحدة وتذكرتْ أنّنا حفظنا مغامرات عقلة الاصبع وروتْ لنا قصة جديدة، فعبستُ وقررتُ ألّا أسمعها.

حين كبرتُ وتعلّمتُ القراءة بنفسي، بدأتْ أمي بتزويدي بالقصص والمجلات، وقرأتُ كلّ أنواع قصص الأطفال؛ المترجمة، والشعبية، والمكتوبة بأقلام أطفالٍ مثلي، وطبعاً القصص الدينية بأبطالها يأجوج ومأجوج والأعور الدجال حصلتُ عليها من مكتبة “ذات النطاقين”، وكانت مادة زخمة نتحدّث حولها في المدرسة حين يغيب المعلّم ونطفئ الأضواء لخلقِ جو مميز يليق بها وبحكايات أصدقائي عن الجنّ والأرواح الشريرة.

التحقتُ بمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، التي سألني عنها أحد أصدقائي يوماً: “انتو جماعة القراءة؟”…”اه إحنا بعيننا”، في مؤسسة تامر عرفتُ أنّ هناك نوعاً أدبياً اسمه “أدب الأطفال”، وأنّ أساتذة حقيقيين يختصون فيه، وتشكّل لدي حلم خجول بأن أصبح “حكواتية” يوماً ما.

المهم، أخذني الحنين للطفولة، ونسيتُ الموضوع الأساسي. أنا هنا لأتحدث عن تجربة قراءة القصص ومحاولة روايتها الآن، بعد أن أصبحتُ أحاول النظر إلى كلّ كلمة بعين نقدية. إذا نسيتُ ذلك وسرحتُ في خيالي مرة أخرى، أوقفوني أرجوكم.

كلّما حاولتُ إعادة صياغة قصة أجد النهاية لا تعجبني، وأعترفُ لكم أنّي غششتُ في أول قصة؛ كانت قصة تتحدثُ عن ديكٍ يوقظ بندائه صاحبه المزارع يومياً، لكنّ المزارع باتَ لا يملك مالاً ليشتري لديكه طعام، فطرده كي لا يجوّعه.

يهيم الديكُ بحثاً عن بيتٍ جديد، فيقابل رجلاً غنياً يعده بليرة يومياً إذا استطاع إيقاظه، فيفرح الديكُ ظانّاً أنّه بعد أيام قليلة سيعود لصديقه المزارع ويعطيه المال.

لا يفي الغني بوعده في اليوم الثالث، ويحاول قتل الديك حين يطالب بحقه، فيأخذ الديك كلّ مال الغني بالحيلة، ويعطيه للمزارع.

في النهاية الأصلية يعاد المال للغني، وتُكتب العبرة أنّ الفقراء يجب ألّا يحسدوا الغني على أمواله وألّا يسرقوها… أنا جعلتُ المزارع يوزع الأموال على كلّ فقراء القرية بالتساوي، ويفرح برجوع الديك للمزرعة؛ لأنّه سيوقظه يومياً فيعود للنشاط والمساهمة في الإنتاج.

حسناً، تلك تجاوزتها، وألغيتُ أيضاً قصة تتحدث عن “السيد حسد”، الذي يحسدُ كلّ شيء يراه، ويتعلم في النهاية أنّ علاجه هو جملة “ما شاء الله”، وتجنبتُ القصص التي تحتوي على العنف أو الجنس، كالقصة التي تقتل فيها زوجة الأب الفتاة وتضعها على طبق “كرشات” تتناوله العائلة، إن كانت ذاكرتي لا تخونني، وأستبعد أن أنسى شيئاً كذلك.

كلّ ما مضى سهلٌ تجنبه، لكن ماذا أفعل بالنهاياتِ المتشابهة العديدة التي تختمُ بعبارة “تزوج بالأميرة/ تزوجت بالأمير وعاشا في القصر بسعادة إلى الأبد”؟
آخر قصة سجلتها الأسبوع الماضي تختصر كلّ ما أريد الإشارة إليه: يا سادة يا كرام، كان هناك شابٌ فقير، عملَ خيراً فكان جزاؤه إوزةً ذهبية، وثم ذهب إلى مملكة تعهد ملكُها أن يزوّج ابنته الأميرة إلى من يستطيع إضحاكها، فأضحكها أخونا الفقير، لكن الملك لم يقبل بالزواج لأنّه لم يتجاوز كونه حطاباً “لا راح ولا إجا”، ويعيش الحطاب مغامراتٍ وتحديات، حتى يقبل الملك بتزويجه إياها، فينتهي الأمر بالخيّر صديقنا بأن أصبح غنياً ومتزوجاً بأميرة (التي لم يسألها أحد عن الموضوع أساساً) وتوتة توتة خلصت الحدوتة.

الكثير من النهايات السعيدة في القصص هي تحقيق غاية “المال”، أن يجد البطل مغارة مليئة بالكنوز، أو يجد فانوساً سحرياً، أو أن تعيش الخادمة مع الأمير، ماذا يفهم الأطفال من ذلك؟
أنّهم لن يعيشوا بسعادة وهناء إلى الأبد حتى تصبح لديهم أموالٌ طائلة، وأنّ الحبّ الحقيقي قد يحصل في حفلةٍ راقصة لم تقضِ فيها سندريلا حتى ليلة كاملة، وأنّ الأمير دائماً ما يبحث عن “الجميلة” حتى لو كانت “نائمة”، لأنّ الجمال والمال هما أهم أمرين لتحقيق السعادة.

ذلك بالإضافة إلى الأعداد المهولة من القصص التي تتحدث عن رغبة الزوجات بالإنجاب، فينجبن تارةَ “نصّ نصيص”، وتارةً أخرى طفلاً بحجم اصبع، أو نملة أو “طنجرة”، المهم ألّا تبقى المرأة “ناقصة” دون إنجاب.

أنا لستُ خبيرة، إنما مهتمة كأي طفلة لم تكبر بعد، ولا أنفي وجود قصصٍ رائعة أغلبها محلية وحديثة لنكون عادلين، تراعي القيم التي يجب زرعها في الأطفال، لكنّي سأحرصُ جاهدة من الآن فصاعداً أن أبحث عن قصصٍ فيها عبرة حقيقية، لتساعد أطفالنا على تجاوز هذا العالم، بخيالٍ يخوّلهم لتغييره حين يكبرون.

لا بأس إن آمنوا بالسحر المدهش قليلاً، أو استمعوا لحكمة الحيوانات الناطقة، وتطلّعوا لأبطالٍ خارقين يستطيعون حماية الخير من الأشرار؛ الأهمّ أن يتجاوزوا حدود العالم الذي نعيشه إلى عالمٍ أفضل، ليقاوموا النمطية والرتابة التي يحملها التعليم وتكرّسها الديكتاتوريات، وليخرجوا بحلولٍ غير تقليدية لا تتضمنُ عصا سحرية على أية حال، لكنّها لا تقبل إلّا بالنهايات السعيدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى