محمد بشكار - فُقهاء الرُّقية الإشْهارية..!

النُّجوميات التي كان يصْنعُها المُثقف المبدع شاعراً أو روائياً أو مفكراً أو سينمائياً أو مسرحياً، كانت تنطلق في شُعلتها من ذُبالة شمعة تُقطِّر الدمع على مائدة مستديرة ذات ثلاث أرجل، وكان الكاتب لقِصَرها يُحوِّطها بذراعيه مُحيطاً بما يجري في العالم فقط يقدح ذهنه فتأتيه الأفكارُ كالفراشات بالأجنحة..!

كلُّ هذه النُّجُوميات التي انطلقتْ من ذبالة شمعةٍ لتنْدلع بأعمق الأفكار التي لا ينطفئ جَدلُها، توارتْ ليسطع مكان أفُولها إما نجم رجل الدين أو سهم لاعب ارتفع في بورصة كرة القدم، وهذان هما مصدر كل ربحٍ ومنهما أيضا الخسارة إذا صدرتْ في حقِّك فتوى تجعلكَ في نظر الجميع مسخوطاً..!

لا أحد يريد لبضاعة يطرحها للسوق كساداً سواء كانت بالجودة المطلوبة أو دون ذلك مغشوشة، وإحدى وسائل ترويج أي بضاعة اليوم واستدراج المستهلك من ريقه المُتحلِّب إلى اقتنائها ولو كان يضع لبُخْله المال في جُبٍّ سحيق عِوَضَ الجيب، هو الآلة السيارة للإشهار التي لو أمْعَنتَ في أهمِّ مُحرِّكاتها الهادرة لوجدْتهُ كلاماً فارغاً كَالمِرْوحيَّات التي يُحركها الهواء، وقد فطن المُسْتَشْهرون أنَّ الضوء الذي ليس بالضرورة نوراً ربّانياً إنَّما يكْمن في بعض رجال الدِّين الذين احتلُّوا كل وسائط التواصل الاجتماعي والإعلامي ناشرين وباء الأحكام والفتاوى والاستيهامات الجنسية التي تنِمُّ عن خيال مريضٍ لا يهمُّه من عبور الصِّراط إلا البلوغ بلذة الجسد ذروتها مع الحُور العين، وتكاد تحسبه محروماً حتى تعلم أنه متزوِّجٌ بأربع بنات خُلِقْن من طين، فما عساه يقول للداعية المصري الذي نفى وجود الأعضاء التناسلية في الجنة معتبرا الاستمتاع معنوياً، أيزداد بقوله إيمانا أو ينقلب على عقِبيه وقد استسلم لهذا الوسواس كافرا..!

كل هذه الحركات التَّسْخينية للرؤوس والمُتلاعبة بالعقول، لا تمُتُّ للدين بعبادة، ولكنها أساليب شعْوذِية استغلَّتْ جهل الناس لتصنع النُّجومية لبعض الدُّعاةِ الدُّهاةٍ ممَّنْ عرفوا وهم يرسلون اللِّحي بدون بريد مضْمون، من أيِّ ماسورة ينبع الإثراء السريع، فصاروا همُ الشعراء كُتاب الروايات العفيفة والممثلون والمنجِّمون والرُّقاة ومُنشِّطو الحفلات والرياضيون لمنْ يُريد بالبَرَكة أنْ يُسجِّل الأهداف في الشِّباك، والنَّائِحون المُسيلون للدُّموع بالدُّعاء في المآتم، والإعلاميون الذين يعتقدون أن من ينْشر فضائح ما تحت الحزام في سبْقٍ صحفي هو السَّباق للخيرات، ورغم أن الله أمر بالستر فإنه لدواعي رِبحية لا تُقاومُ يُدرجون هذا الشَّنْق في باب النهي عن المنكر والزِّيادة في المعْلوفْ..!

لمْ يعُدْ الدِّين طقساً لممارسة الشَّعائر والعبادات والتواصُل الرُّوحي بين المرء وربِّه، بل اخْتلق على هامشه بعضُ المُتكلِّمة في الشؤون الدينية دون عقْل يفْقهُ مِقدار ذُبابةٍ فما فوقها، سوقاً لبيع الكذب وجلْب الأضواء فصاروا هُمُ الندوات والأئمة في الصلوات الجالبون للأصوات في الانتخابات سواء بقوالب السكر أو التي تُباع في الصَّيدليات ما دام الاسْتغلال منْ أسفلٍ يؤدِّي لقاعدةٍ أوْسعْ..!

هل يُمكن للسِّينمائي أو الرِّوائي أو أيّاً ما كانَ سطَع نجْمهُ في أحد الأشكال الإبداعية، أنْ يُحقِّق درجةً عاليةٍ من الإثارة والتَّشْويق والاسْتِنْفار لفضول الناس، هلْ يمكن للاعبٍ ولو كان ساحرا في كرة النَّدمْ أنْ يُحيط نفْسه بهذه الهالة منْ الأضْواء التي تُحيط ببعض رجال الدِّين صباح مساءٍ حتى صاروا مصْدر ربحٍ لكلِّ المُسْتشْهرين الذين يريدون إنقاذ بضائع كاسدة في الأسواق، فبِفضلهم راجتْ التِّجارة وفاضتْ السُّيولة بكل العُمْلات في الأيدي والجيوب والأبناك التي تُحارب الرِّبا فبِيعتْ عقاراتٌ وصارتْ مأهولةٌ بعد أن كانت قبورا مهجورة، لقد سرق هؤلاء الفقهاء الأضواء وتكفي كاتباً مغموراً من أحدِهم إشارة في حديث مُصوَّر بفيديو ليُصْبح عملهُ مشهوراً..!

ما أكثرالروايات العربية التي تناولتْ هذا الصنف المُشوَّه من البشر الذي يتَّخذ الدين مطيَّةً لخدمة مآرب دنياه، كنا نقرأ قصصها ونحمد الله أنها حبيسة الورق ما دامتْ نابعة من خيال كاتب كل همه أن يحذرنا من تطرُّفها وخطرها المُحْدِق، لكن بدَل أن نكون من أولي الألباب آخذين بعِبْرتها، قفزتْ اليوم هذه المخلوقات من زمنها الأصفر فلعبتْ بالألباب وشيطنتْ حياتنا وهي تمارس خيالاتها المريضة على أرض الواقع، فصارتْ تُقوِّل الأحاديث النبوية والآيات ما لم تقُلْه أوْ تعنيه في مقاصدها خارج سياقاتها وأسباب نزولها، وما ذلك إلا لتجد لسُلوكاتها القبليَّة غير المُنسجمة مع نمط عيشنا اليوم مُسوِّغاُ وغطاءً دينيا يمنحها سلطة أنْ تحلِّل وتحرِّم كيفما اتفق ونطق الهوى، فلم يبقَ إلا أن يُعيدوا بالتحريف تأليف كتاب الله..!

لستُ قاضياً والحُكْم من قبْلُ ومن بعْدُ لله، ولكن ما جزاء من يستغلِّون البِدَعَ مُوقنين أنَّها من الضَّلالات التي في النار ليُصبحوا بشراراتها من النجوم حتى لا أقول منْ أهل الإبداع؟



(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 13 يونيو 2019)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى