إمام عبد الفتاح إمام - بين «حانا». «ومانا». ضاعت لحانا.!

أما " حانا" فهي الزوجة الصغيرة الجميلة ذات الدلال تزوجها الرجل المسن حديثاً - وكان يسعده كثيراً أن يذهب إليها لكنها كانت دائمة الشكوى من لحيته البيضاء التى تجعله يبدو أكبر كثيراً من سنه - فتعِّد لهذه اللحية صبغة سوداء ليعود شاباً مفتول الشوارب!.
أما " حانا" فهي الزوجة الصغيرة الجميلة ذات الدلال تزوجها الرجل المسن حديثاً - وكان يسعده كثيراً أن يذهب إليها لكنها كانت دائمة الشكوى من لحيته البيضاء التى تجعله يبدو أكبر كثيراً من سنه - فتعِّد لهذه اللحية صبغة سوداء ليعود شاباً مفتول الشوارب!. لكنه عندما يعود إلى امرأته الأولى "مانا" أم الأولاد، تلومه لوماً شديداً على تغيير ملامح وجهه لاسيما صبغة اللحية السوداء - فقد كانت لحيته البيضاء تنمّ عن وقار وهيبة - وتدعو الناس إلى احترامه بل إجلاله وتقبيل يده. وسارت حياته على هذا المنوال يتكرر موقف الزوجتين كلما ذهب إليهما حتى بدا عليه الإعياء الشديد فاحتار ماذا يفعل فاستقر أخيراً على حلق اللحية نهائياً. ولما سأله قومه: ماذا حدث؟ ولماذا حلقت لحيتك؟! أجابهم بصوت خافت - وكأنه يحادث نفسه - بعبارة مقتضبة تركها وذهب مثلاً في الأدب العربي: " بين حانا ومانا ضاعت لحانا "! تقال للرجل المتحير بين أمرين غير قادر على أتخاذ قرار أو ترجيح هذه الكفة على تلك فهو حائر بين أمرين أحلاهما مرا! فيترك الجميع ويرحل بعيداً عنهما!.
وما أشبه هذا الموقف عندنا في الفلسفة بحمار بوريدان (1295 - 1358) - فقد روى عن الفيلسوف الفرنسي جون بوريدان. J.Buridan الذي كان عالم منطق أكثر منه لا هوتياً، وترقى في السلك الجامعي حتى أصبح مديراً لجامعة باريس - أنه كان يشرح العلاقة بين الإرادة والعقل، وكيف أنه من الواجب على الإنسان أن يختار ما يتبدى أمام عقله على أنه الخير الأعظم وألا يقع في مأساة الحيرة والتردد، وعدم القدرة على اتخاذ قرار فيلوذ بالفرار أو يبقى ساكنا إلى أن يأتيه الأجل! ويسوق الفيلسوف تحذيراً للإنسان ألا يكون كالحمار الذي كان جائعاً وظمآناً إلى أقصى حد فجئ له بإناء ملئ بالماء ووعاء زاخر بالعلف ليأكل ويشرب، ويشبع ما لديه من جوع وظمأ، لكنه لشدة الجوع وحدة الظمأ لم يستطع أن يقرر أو يحسم، بأيهما يبدأ. هل يأكل العلف أولاً ويرد غائلة الجوع؟ أو يشرب الماء أفضل ليروي ظمأه؟! احتار كيف يبدأ لاسيما أنه يكاد يموت جوعاً وظمأ، بنفس الدرجة، وظل يتردد ويتنقل من الإناء إلى الوعاء، ويعود من الواحد إلى الآخر، دون أن يحسم الاختيار إلى أن هلك بالفعل فمات من شدة الجوع وقسوة العطش!
الدكتور محمد البرادعي شيخ فاضل وأستاذ جليل بدا في عهد مبارك المنقذ للشباب، والقائد الملهم لمصر بأسرها. والحق أنه لعب دوراً مهماً في إيقاظ الوعي المصري، وتنبيه الناس إلى مفاسد نظام الحكم الذي ظل قابضاً على رقاب العباد لمدة ثلاثين عاماً، وكذلك فتّح الأبصار على التوريث الفكرة البغيضة التى كادت تقلب الجمهورية إلى ملكية وراثية في أسرة مبارك التى لا مثيل لها في البلاد! وراحت الأسرة "المباركية" من ناحية أخرى تطلق كلابها المسعورة تنهش في الرجل ويتهمونه بأنه عميل أمريكي باع العراق في تقرير واحد لبوش مكنّه من الغزو والإستيلاء. ورحنا بدورنا - الشرفاء في هذا البلد - ندافع عنه بقوة ونفنّد - بحولنا الضعيف - هجمات الحكم الشرسة ضد رجل فاضل رجع لينقذ أمته - واستبشرنا خيراً على كل حال إلا أن الدكتور البرادعي عندما بدأ يخوض تجربة السياسة (المرأة اللعوب) فيرشح نفسه للرئاسة أو يشكل حزباً أو جبهة للإنقاذ، لكنه وجد أن التيار الذي يواجهه ليس سهلاً - ربما لعدم تمرسه على الصراع السياسي - فلا هو استراح مع "حانا" ولا مع "مانا" عندئذ آثر الشيخ أن يحلق لحيته ويهرب إلى فيينا.!
وفي المرة الثانية رفعه الشباب المتحمس الثائر الذي يبحث عن قائد محنك يدّله على الطريق - رفعه إلى مستوى القائد ووافقوا أن يتحدث باسمهم، ومن هذا المنطلق عُين نائباً لرئيس الجمهورية في نظام الحكم المؤقت - وعلينا أن نلاحظ أنه لم يرفض، مع أنه ذكر في المرة الأولى أنه يترك مصر لأنه لا يرغب في أي منصب سياسي ولم يقم بالسعي إليه في أي وقت.
لكنه عندما عاد في المرة الثانية قَبِل مَنصباً خطيراً هو نائب رئيس الجمهورية للشئون الخارجية، وعندما بدأت الحكومة الحالية المؤقتة تعمل كان من رأيه التفاوض أو التصالح مع الأخوان، وحل جميع المشاكل عن طريق الحوار، وهو رأي في ظاهره - حق - لكنه في باطنه باطل فقد جاء الأخوان خلال حكمهم الذي استمر عاماً واحداً بكميات هائلة ومتنّوعة من السلاح والقنابل على أنواعها وأشكالها، وكذلك الرجال الأشداء العتاة في الإجرام، الذين أفرجوا عنهم من السجون أو الذين استوردوهم من غزة لحمل السلاح - ونسى الدكتور البرادعي، وهو المفاوض العالمي - أن هذه الأعداد الوفيرة من الرجال والعتاد المنّوع، لابد أن تُستخدم يوماً ما (وليس في الأفراح على كل حال!) - فاذا لم يتم استخدمها حتى الآن نظراً لعبقرية البرادعي التفاوضية فسوف تستخدم في أية أزمة قادمة بعد أشهر أو عام قادم فقد جاءت لتقوم بدورها وهذا هو الخطأ الأول الذي لم يفطن إليه صاحب نوبل!.
الخطأ الثاني: أنه ظن أن مجلس الدفاع الوطني، بل الحكومة والجيش، والوزارة، ورئاسة الجمهورية لابد أن تأخذ بفكرة التفاوض التى جاء بها وإلا ترك الجمل بما حمل، وقفز من السفينة قبل أن تغرق. ولستُ أدري كيف استطاع البرادعي أن يقنع نفسه بهذا الموقف الغريب؟! إذا كان رجلاً ديمقراطياً ينادي بالديمقراطية الغربية ليل نهار فإننا لم نسمع قط عن فرد في مجلس أو لجنة (في أي نظام ديمقراطي) يريد أن يفرض رأيه على الآخرين، وإلا ترك الاجتماع وفَّر هارباً من اللعبة! ترى ماذا تكون الدكتاتورية إن لم تكن هي موقف البرادعي تماماً؟ فهل كان البرادعي نصيراً للديمقراطية من الناحية النظرية مؤيداً للدكتاتورية من الناحية العملية.؟!
والخطأ الثالث: أن الدكتور البرادعي آثر أن يترك مصر لأهلها ويذهب إلى "ليالي الأنس في فيينا" - فمن هناك يستطيع أن يلتقط الأخبار عن بلده كأي سائح.!
والخطأ الرابع: الذي وقع فيه الدكتور البرادعي هو أنه ينتمي إلى حزب - هو حزب الدستور - أن لم يكن رئيساً له، فهل استشار هذا الحزب أو الهيئة العليا له؟ هل أخذ رأيهم فيما هو مقدم عليه من خطوات سوف تضر بلا شك مستقبل الحزب أو تؤثر - على أقل تقدير في مركزه السياسي؟! أم أنه يحكم الحزب منفرداً ويتركه وقتما يشاء؟! وهل هذه هي الديمقراطية الشرقية الحديثة؟!.
الخطأ الخامس: أنه لم يكترث أدنى إكتراث بالشباب الذين وثقوا فيه، ووضعوا آمالهم بل ومستقبلهم في هذا الشيخ المخضرم، فهو الذي سيرشدهم، ويوجههم إلى الطريق الجاد والهدى، طريق الديمقراطية السليمة! فضلاً عن أنه سيقدم لهم - على الرحب كل ما لديه من خبرات ومعلومات وأفكار!.
الخطأ السادس: - أنه لاذ بالصمت تماماً وكأنه لا علاقة له بالموضوع، ولا بالجمهور، ولا بالشعب - شباباً أو شيوخاً وليس من حق المواطنين أن يعرفوا ما حدث فهو سر من "أسرار الدولة" - مع أن هذه السياسة هي التى أوردتنا المهالك: الحديث الكثير عن المواطنين وعن الشعب، وعن الشفافية. ثم عندما يحين الحين لا نجد شيئاً على الإطلاق فنتحسر على حظنا العاثر وعلى زعمائنا الذين لا يستطيعون إتخاذ قرار حازم وحاسم!
ومادمنا نتحدث عن الحيرة والتردد في اتخاذ القرار فلابد لنا من أن نقول كلمة عن حكومتنا الموقرة والمؤقتة التى تتردد هي الأخرى في اتخاذ القرار في مواجهة الإرهاب والقتل والتدمير المتعمد. إلخ ولستُ أدري لذلك سبباً معقولاً، فمثلاً قرية "دلجا" كيف تظل تحت حكم الأرهاب الذي أسفر عن حرق 3 كنائس و27 منزلاً وفرض الأتاوات ثم يقبض على 70 متهما منهم 20 من قيادات الأخوان؟ والشئ نفسه يحدث في كرداسة وغيرها من المدن والقرى في جميع أنحاء البلاد؟! أين الجيش والشرطة؟! ولماذا لا تضرب اليد العسكرية - وبعنف - أعناق هؤلاء القتلة والمجرمين؟! أرأيتم يا سادة ما جرى للشرطة في كرداسة من قتل وسحل وتشويه لأحد لواءات الشرطة وعميد وأكثر من ظابط. لقد رأيتُ في التليفزيون أكثر من مرة رجال الشرطة وقادتها حائرون: ماذا يصنعون؟! الأهالي يذهبون إلى أقسام الشرطة ليخبروا رجالها أن من الأفضل إخلاء القسم: فالأخوان قادمون؟! ويحدث فعلاً إخلاء مقر الشرطة التى تحمي الشعب فما الذي يفعل الناس في هذه الحالة؟ سمعت من أفراد الشرطة أكثر من شكوى من أن الأسلحة معهم متهالكة وليست في مستوى أسلحة القتلة والسفاحين؟ لماذا؟!.
أكان البراعي يعلم ذلك كله ومن ثم كان على حق في التفاوض أو الإستسلام؟! وهل تعلمون أن الإستسلام معناه فناء مصر من الوجود - وهو أمر لن يحدث أبداً.
أنا أعتقد أن كل قرار تتخذه حكومتنا المؤقتة والموقرة تضع في ذهنها رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية أولاً - مع أن المسألة بالنسبة لنا حياة أو موت، نكون أو لا نكون. أن اليد المرتعشة يا سادة لا تستطيع أن تجري جراحة ناجحة: فما بالك إنْ كانت خطيرة؟.
كلمة أخيرة أقولها لكم:
إذا كنا مسلمين حقاً فعلينا أن نقوم بتنفيذ مبدأين أساسيين هما:
أولاً: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ". الأنفال 39
ثانياً: أن تحققوا بالفعل قوله تعالى:
"وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". 169 آل عمران الآية الأولى: واضحة ولا تحتاج إلى تفسير.
أما الآية الثانية: فينبغي أن تفسر على هذا النحو:
أن يعامل الشهيد: الملازم، أو الملازم أول أو النقيب. إلخ معاملة زملائه فيرقى اسمه معهم وينال أولاده أو ورثته عموماً راتبه الجديد، وإذا صرفت مكافآت أو مرتبات إضافية أو غيرها فتصرف لاسمه وتذهب لأسرته. باختصار أن يعامل على أنه حي يرزق وينال (ورثته) كل ما يناله زملاؤه الأحياء. وهكذا لن نحسبهم أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون!.
لا بديل أيها السادة سوى أن تحلقوا لحاكم وأن تقولوا مع الشيخ الحائر:
"بين حانا. ومانا ضاعت لحاناً.!


إمام عبد الفتاح إمام

المصدر
الأهرام اليومى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى