إلى من منحني ذلك الغصن
لأكسر تقليدية المفاتيح
وأسمح للحمامات..
أن تمشي دون درب
إلى ضوئي
حين تتراكم الخفافيش
....
إلى أبي وابتسامته أيضاً
كفّ عن النباح أيها الجرو، فمكسيمو ليس في أي مكان، ليس في حقل الملفوف، ولا في إسطبل الجيران يقدم العلف للأبقار..عليك أن تتأقلم مع غيابه، لأن مكسيمو قد هجرك كما هجرني والقرية، لقد حمل خربشاته وعينيه ومضى إلى قرية بعيدة على ما أعتقد، وأظنه الآن في بستان للرمان مع شقراء من الحسناوات..
الكلاب لا تفهم كل شيء، لأنها تعرف القليل القليل وتكتفي بذلك، وليست على استعداد لمعرفة المزيد من الأمور وخاصة الأمور المعقدة التي تتعلق بديوك هذه القرية..
مكسيمو لم يعد هنا ليقبل يد أم باسم " أمه الثانية" كل صباح، وهو لن يعود إلى القرية مع سرب من عصافير الدوري، ليعشش في المداخن حين يمتد الربيع، ولن يرجع أبداً ليطلب مني السماح، ويركع لي طالباً مني الزواج بعد قصة حبنا العتيقة، لأنني أعرفه جيداً، وأعرف أنه حين هجرني لم يفكر في ذكرياتنا معاً، بل كان تفكيره مقتصراً على حسناء نحيلة شقراء!
هكذا هم رجال قريتنا والغريبون عنها من القرى الأخرى، لا تروقهم سمرة نساء جبلنا، ولا امتلاؤهن ليسيل لعابهم حين يلمحون سائحة برصاء عجفاء معطرة بعبق فرنسي متكلف، وإن شاءت المصادفة أن تجمعهم بإحدى الشقراوات القرويات النادرات، حينها فقط تتحقق المعجزة التي يرجونها كما يرجون هطول المطر وارتواء الغيطان..
يا للسذاجة!
ولا أظن أن هؤلاء الديوك يعرفون ما يعينه أن تكون المرأة بلون القمح والأرض، وأن تكون رائحتها هي رائحة الزرع والمطر والتراب، يا لغباء هؤلاء ومحدودية أفكارهم!
وكل ما يقهرني هذا المساء والمساء القادم وصبيحة اليوم واليوم التالي، أن مكسيمو صار يشبههم، لأدرك صحة ذلك القول: من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم!
ولم يكتف بذلك فحسب، بل تعلم أيضاً كيف يجعل رائحته كجرذان الصرف الصحي...يا لعارك يا مكسيمو!
تقول لي زهرة وهي تلكم العجين بقبضتيها الجبارتين، في حين يتوقد الحطب في التنور:
هل يظن ذلك الجرذ مكسيمو أن حياتك يا جميلتي تتوقف على وجوده؟
أغنى الأغنياء وأجمل الشبان وأقوى الرجال يتمنون صبية مثلك، اللعنة على ديوك القرية الذي يتحولون إلى صراصير أمام تلك القطط ذات العيون الزرق أو الخضر، وأحياناً إلى كلاب يسيل لعابها أمام عظامهن البارزة...يا للقرف!
زهرة تتحدث دائماً بمنطقية، على الرغم من كونها لم ترتد المدرسة قط، إلا أنها ليست جاهلة بالأمور المهمة كما هو حال نساء قريتنا اللا متعلمات، وهذا ما يميزها ويخلق حبي واحترامي الشديدين لها..
وزهرة دائماً تثبت لي أن الشهادة المعلقة على الجدار ليست سبباً لامتلاك الحكمة، حتى الأمور البسيطة في الحياة، كأن يهجر الحبيب، وأن يصيح الديك، وتبيض الدجاجة، تحتاج إلى فطنة خاصة، وإلى ذكاء معين حتى ولو كان بدائياً..
صحيح أن زهرة تزوجت من عزيز السمين، وأنجبت منه ثلة من الأطفال، إلا أنها كانت ساطعة كنجم الثريا في صباها، وشحوبها الحالي ليس إلا تورداً قديمة لوجنتين ممتلئتين، فزهرة كانت وما زالت اسماً على مسمى، وأذكر حين كنت طفلة صغيرة ذهابها اليومي إلى النبع، ولحاق شبان القرية بها مدعين ذهابهم إلى الحقل، ولكن المراد الحقيقي من الذهاب إلى الحقل هو حصاد النظر إلى زهرة، ياه يا زهرة، لقد كانت لك أيامك يا صديقة!
مكسيمو حبيبي الذي هجر، مختلف بشكل ما، لا يمكنني أن أقاوم سحر عينيه الزرقاوين، ولا ابتسامته الندية، وكذلك صوته المبلل بالأحلام...يا لجمالك يا مكسيمو...ويا لقسوتك!
أذكر حين قال لي: أنت الحقل الذهبي الذي أحلم بامتلاكه..
أدركت حينها أن مكسيمو يعمل دون كلل أو ملل لدى نصف أهل القرية ليمتلك حقلاً للقمح، وأنه لم يكن يقصدني فحسب، بل كان يقصد حقلاً شاسعاً يتألق تحت شمس قريتنا الحارة قبل الحصاد..
مكسيمو الآن خارج النطق التي تعرفينها أيتها المواشي، قد تشتاقين إليه وإلى كفيه الطريين وملمسهما الرقيق، قد تشتاقين لعينيه المتألقتين وابتسامته العذبة، لكن لا تخافي من ذلك ولا من أي شيء، فستعتادين غيابه مع مرور الزمن، وستحبين غيره الكثير ممن سيقدمون لك الكلأ والماء!
وأنت أيتها الحشرات الصغيرة، لقد أحبك مكسيمو كما أحبني والقرية، وهو لن يكون معي قرب النبع قبل أن تتمادى خطوط الشعاع لينصت إليك..
وأنت تدركين تماماً، ما حدث ليلتها، وزهرة تعرف ذلك، وقد صرخت حين اعترفت لها أن مكسيمو قد قبلني:
يا لك من مغفلة! كيف سمحت بهذا؟ لقد قبلك هذه المرة، فما الذي سيفعله في المرة القادمة..؟!!
قلت لزهرة حينها، أن مكسيمو لم يحاول ذلك من قبل ونحن نلتقي منذ زمن، فكرت زهرة في نفسها حين كانت تلتقي بعزوز قبل الزواج في حقل الذرة، وقالت لي:
حسن يا جميلتي، لكن احذري من ذلك الديك!
أتذكرين أيتها الحشرات، كيف كنا عند النبع كما العادة، وكيف كان الجو عبقاً بأريج البنفسج، سألني مكسيمو لحظتها بصوته المتهدج: أتحبينني؟ أجبته: طبعاً أحبك، حينها اقترب أكثر، كانت أنفاسه دافئة وغريبة... يا للعذوبة!
كان لدهشتي أن تركض بي بعيداً، لألتفت بين الفينة والفينة إلى وجهه الذي يعكس ضوء القمر، وكلما ابتعدت أكثر كان يتحول تدريجياً إلى نجم صغير، ويمكنني أن أتذكر جيداً كيف شعرت، كان قلبي يأبى أن يستقر مكانه...ياه لتلك العذوبة!
أنت أيتها النسمات، ادخلي رئتي أكثر، تغلغلي ما استطعت، لأتمكن من زفر مكسيمو تماماً، أنت تدركين مثلي أن أهل المدن يحسدون الدابات عليكِ، وأنت تعرفين تماماً أن مكسيمو جاء من مدينة بعيدة جداً، ليستلقي متجرداً من قميصه التفاحي في حقل القمح، وهو لطالما ظن نفسه وحيداً، لكنني لطالما أدمنت السطوح وحبال الغسيل، لأنني من تلك الزوايا أستطيع أن ألمح مكسيمو الذي أحب، متألقاً كالحقل داخل الحقل، ملغماً بألف خلية ضوئية، كأنه وليد الشمس التي تأفل الآن تدريجياً..
أين أنت يا داليا؟
إن موسم الحصاد قد حان، في الحصاد الفائت كنا معاً، وكان يمكنك أن تعطيني دوركِ في الذهاب إلى الحقل، كي ألقى مكسيمو، لكنك الآن تحملين بسام الصغير الذي سيأخذ شهيقه الأول قريباً، وتعاونين أبا بسام في أعمال الأرض وتنهضين بأعمال البيت وحدك، وكذلك لستُ مضطرة للذهاب إلى الحقل، لأن مكسيمو لم يعد هنا يا أختاه، ولن يعود أبداً، أظنه الآن يبني كوخاً جديداً في حقل أو غوطة ما، ويواعد حسناء شقراء ليست أجمل مني، يا لحماقتك أيتها النسمات، فلتتغلغلي أكثر، لأزفر مكسيمو بسهولة أكبر!!!
مكسيمو ليس عادياً كما أراه في عيون الناس، وليس أسطورة كما يبدو في عيني، هو في الحقيقة لحن حنون تعزفه شبابة الصباحات الخجولة في قريتنا..
مكسيمو ليس حلماً طويلاً، ولا امتداداً لحقل ما، ولا حتى عصفوراً يحب أن أداعب زغبه الصغير، هو مختلف عن كل هذا، وخارج عن كل الأطر التقليدية التي أعرفها، لا أستطيع أن أصف استدارة قبعته القشية، ولا حتى سطوع خصلات شعره الكستنائية، لدرجة أنني أيتها الغيطان والحقول والبيارات، أكره تفاصيل مكسيمو لأنني أشعر بالعجز أمامها..
لكن هذا كله لا يهم...فمكسيمو لم يعد حبيبي، ولن يعود أبداً..
تمسك زهرة خصلات شعر ابنتها الحالكة لتصنع منها جديلة، وتقول لي كأنها اكتشفت أمراً جديداً:
والله أنت لا تعرفين شيئاً، وأنا كنت كذلك، لكنني الآن أعرف الكثير الكثير، من يدري لم رحل مكسيمو، لعله ارتكب شيئاً مشيناً، تراودني شكوك حوله وحول ابنة الجزار، يا للعار لو حدث ذلك!
شعرت أن زهرة تضرب بأصابعها القوية على وريدي الأخطر، وتحاول أن تثير الأقاويل، صحيح أنها حكيمة، وتدرك معظم الأمور، إلا أنها تحب هذه الممارسة الشائعة: الثرثرة، يا لثرثرتك وهوايتك القبيحة يا زهرة!
مكسيمو لا يحب هذا النوع البليد الغبي من النساء كابنة الجزار، اللاتي لا يعرفن كيف يمشطن انسدال شلالاتهن ولا حتى كيف يتعاملن مع الحقول وابتسامات الديوك...
لا تصح أيها الديك اللعين، أن تعرف أنني كسولة اليوم ولا أريد النهوض، وأنت تدرك جيداً أن هذا البرد الصباحي يأكل عظامي، وأن دوامة الأغطية هذه تكاد تلتهمني، لذلك دعها تلتهمني ساخنة، يا لإزعاجك المستمر لي!
تبدين اليوم نضرة أكثر أيتها الحقول، والشمس تتمادى رويداً رويداً لتفض عذرية نداكِ أكثر، فعلاً إنه ذلك الصوت الذي تناهى لمسمعي مرة، يعود مبللاً أكثر، في غرق أكبر، يحاول أن يتشبث بشيء ما، بغصن هرم ربما..
الغسيل يتراكم بكثرة، وشفتي تزرقان أكثر، علي أن أقصد النبعة، فعلاً علي ذلك، فالماء غبي جداً، والخدمات البلدية المزعومة وقحة لدرجة لا تحتمل، علي ملء الجرار، وأن أقطف زهراً برياً لزهريتي الشفافة...
اللعنة على قطرات الماء الصقيعية، اللعنة عليكِ أيتها الحشرات الشامتة، أظنك الآن تقهقهين لقهري ومنظري الغبي، نعم سأبكي، لتشمتي أكثر لتقهقهي حتى تنفجري بين هذه الكتل العشبية الدبقة..
فعلاً إن هذا التيار الدافئ الغريب يذكرني بشيء ما، إنه يقترب أكثر، يتمادى أكثر يا للعذوبة!!
يمكنك أن تصفقي أيتها المواشي، وأنت أيها الجرو يمكنك أن تدرك الكثير الكثير عن الديوك، أما أنت أيتها الحشرات التي أكره، اشمتي بنفسك وانفجري بعيداً عن نطاقي الدافئ، لأنني صرت أدرك أن مكسيمو لا يحب القطط ذات العيون الزرق أو الخضر..
لأكسر تقليدية المفاتيح
وأسمح للحمامات..
أن تمشي دون درب
إلى ضوئي
حين تتراكم الخفافيش
....
إلى أبي وابتسامته أيضاً
كفّ عن النباح أيها الجرو، فمكسيمو ليس في أي مكان، ليس في حقل الملفوف، ولا في إسطبل الجيران يقدم العلف للأبقار..عليك أن تتأقلم مع غيابه، لأن مكسيمو قد هجرك كما هجرني والقرية، لقد حمل خربشاته وعينيه ومضى إلى قرية بعيدة على ما أعتقد، وأظنه الآن في بستان للرمان مع شقراء من الحسناوات..
الكلاب لا تفهم كل شيء، لأنها تعرف القليل القليل وتكتفي بذلك، وليست على استعداد لمعرفة المزيد من الأمور وخاصة الأمور المعقدة التي تتعلق بديوك هذه القرية..
مكسيمو لم يعد هنا ليقبل يد أم باسم " أمه الثانية" كل صباح، وهو لن يعود إلى القرية مع سرب من عصافير الدوري، ليعشش في المداخن حين يمتد الربيع، ولن يرجع أبداً ليطلب مني السماح، ويركع لي طالباً مني الزواج بعد قصة حبنا العتيقة، لأنني أعرفه جيداً، وأعرف أنه حين هجرني لم يفكر في ذكرياتنا معاً، بل كان تفكيره مقتصراً على حسناء نحيلة شقراء!
هكذا هم رجال قريتنا والغريبون عنها من القرى الأخرى، لا تروقهم سمرة نساء جبلنا، ولا امتلاؤهن ليسيل لعابهم حين يلمحون سائحة برصاء عجفاء معطرة بعبق فرنسي متكلف، وإن شاءت المصادفة أن تجمعهم بإحدى الشقراوات القرويات النادرات، حينها فقط تتحقق المعجزة التي يرجونها كما يرجون هطول المطر وارتواء الغيطان..
يا للسذاجة!
ولا أظن أن هؤلاء الديوك يعرفون ما يعينه أن تكون المرأة بلون القمح والأرض، وأن تكون رائحتها هي رائحة الزرع والمطر والتراب، يا لغباء هؤلاء ومحدودية أفكارهم!
وكل ما يقهرني هذا المساء والمساء القادم وصبيحة اليوم واليوم التالي، أن مكسيمو صار يشبههم، لأدرك صحة ذلك القول: من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم!
ولم يكتف بذلك فحسب، بل تعلم أيضاً كيف يجعل رائحته كجرذان الصرف الصحي...يا لعارك يا مكسيمو!
تقول لي زهرة وهي تلكم العجين بقبضتيها الجبارتين، في حين يتوقد الحطب في التنور:
هل يظن ذلك الجرذ مكسيمو أن حياتك يا جميلتي تتوقف على وجوده؟
أغنى الأغنياء وأجمل الشبان وأقوى الرجال يتمنون صبية مثلك، اللعنة على ديوك القرية الذي يتحولون إلى صراصير أمام تلك القطط ذات العيون الزرق أو الخضر، وأحياناً إلى كلاب يسيل لعابها أمام عظامهن البارزة...يا للقرف!
زهرة تتحدث دائماً بمنطقية، على الرغم من كونها لم ترتد المدرسة قط، إلا أنها ليست جاهلة بالأمور المهمة كما هو حال نساء قريتنا اللا متعلمات، وهذا ما يميزها ويخلق حبي واحترامي الشديدين لها..
وزهرة دائماً تثبت لي أن الشهادة المعلقة على الجدار ليست سبباً لامتلاك الحكمة، حتى الأمور البسيطة في الحياة، كأن يهجر الحبيب، وأن يصيح الديك، وتبيض الدجاجة، تحتاج إلى فطنة خاصة، وإلى ذكاء معين حتى ولو كان بدائياً..
صحيح أن زهرة تزوجت من عزيز السمين، وأنجبت منه ثلة من الأطفال، إلا أنها كانت ساطعة كنجم الثريا في صباها، وشحوبها الحالي ليس إلا تورداً قديمة لوجنتين ممتلئتين، فزهرة كانت وما زالت اسماً على مسمى، وأذكر حين كنت طفلة صغيرة ذهابها اليومي إلى النبع، ولحاق شبان القرية بها مدعين ذهابهم إلى الحقل، ولكن المراد الحقيقي من الذهاب إلى الحقل هو حصاد النظر إلى زهرة، ياه يا زهرة، لقد كانت لك أيامك يا صديقة!
مكسيمو حبيبي الذي هجر، مختلف بشكل ما، لا يمكنني أن أقاوم سحر عينيه الزرقاوين، ولا ابتسامته الندية، وكذلك صوته المبلل بالأحلام...يا لجمالك يا مكسيمو...ويا لقسوتك!
أذكر حين قال لي: أنت الحقل الذهبي الذي أحلم بامتلاكه..
أدركت حينها أن مكسيمو يعمل دون كلل أو ملل لدى نصف أهل القرية ليمتلك حقلاً للقمح، وأنه لم يكن يقصدني فحسب، بل كان يقصد حقلاً شاسعاً يتألق تحت شمس قريتنا الحارة قبل الحصاد..
مكسيمو الآن خارج النطق التي تعرفينها أيتها المواشي، قد تشتاقين إليه وإلى كفيه الطريين وملمسهما الرقيق، قد تشتاقين لعينيه المتألقتين وابتسامته العذبة، لكن لا تخافي من ذلك ولا من أي شيء، فستعتادين غيابه مع مرور الزمن، وستحبين غيره الكثير ممن سيقدمون لك الكلأ والماء!
وأنت أيتها الحشرات الصغيرة، لقد أحبك مكسيمو كما أحبني والقرية، وهو لن يكون معي قرب النبع قبل أن تتمادى خطوط الشعاع لينصت إليك..
وأنت تدركين تماماً، ما حدث ليلتها، وزهرة تعرف ذلك، وقد صرخت حين اعترفت لها أن مكسيمو قد قبلني:
يا لك من مغفلة! كيف سمحت بهذا؟ لقد قبلك هذه المرة، فما الذي سيفعله في المرة القادمة..؟!!
قلت لزهرة حينها، أن مكسيمو لم يحاول ذلك من قبل ونحن نلتقي منذ زمن، فكرت زهرة في نفسها حين كانت تلتقي بعزوز قبل الزواج في حقل الذرة، وقالت لي:
حسن يا جميلتي، لكن احذري من ذلك الديك!
أتذكرين أيتها الحشرات، كيف كنا عند النبع كما العادة، وكيف كان الجو عبقاً بأريج البنفسج، سألني مكسيمو لحظتها بصوته المتهدج: أتحبينني؟ أجبته: طبعاً أحبك، حينها اقترب أكثر، كانت أنفاسه دافئة وغريبة... يا للعذوبة!
كان لدهشتي أن تركض بي بعيداً، لألتفت بين الفينة والفينة إلى وجهه الذي يعكس ضوء القمر، وكلما ابتعدت أكثر كان يتحول تدريجياً إلى نجم صغير، ويمكنني أن أتذكر جيداً كيف شعرت، كان قلبي يأبى أن يستقر مكانه...ياه لتلك العذوبة!
أنت أيتها النسمات، ادخلي رئتي أكثر، تغلغلي ما استطعت، لأتمكن من زفر مكسيمو تماماً، أنت تدركين مثلي أن أهل المدن يحسدون الدابات عليكِ، وأنت تعرفين تماماً أن مكسيمو جاء من مدينة بعيدة جداً، ليستلقي متجرداً من قميصه التفاحي في حقل القمح، وهو لطالما ظن نفسه وحيداً، لكنني لطالما أدمنت السطوح وحبال الغسيل، لأنني من تلك الزوايا أستطيع أن ألمح مكسيمو الذي أحب، متألقاً كالحقل داخل الحقل، ملغماً بألف خلية ضوئية، كأنه وليد الشمس التي تأفل الآن تدريجياً..
أين أنت يا داليا؟
إن موسم الحصاد قد حان، في الحصاد الفائت كنا معاً، وكان يمكنك أن تعطيني دوركِ في الذهاب إلى الحقل، كي ألقى مكسيمو، لكنك الآن تحملين بسام الصغير الذي سيأخذ شهيقه الأول قريباً، وتعاونين أبا بسام في أعمال الأرض وتنهضين بأعمال البيت وحدك، وكذلك لستُ مضطرة للذهاب إلى الحقل، لأن مكسيمو لم يعد هنا يا أختاه، ولن يعود أبداً، أظنه الآن يبني كوخاً جديداً في حقل أو غوطة ما، ويواعد حسناء شقراء ليست أجمل مني، يا لحماقتك أيتها النسمات، فلتتغلغلي أكثر، لأزفر مكسيمو بسهولة أكبر!!!
مكسيمو ليس عادياً كما أراه في عيون الناس، وليس أسطورة كما يبدو في عيني، هو في الحقيقة لحن حنون تعزفه شبابة الصباحات الخجولة في قريتنا..
مكسيمو ليس حلماً طويلاً، ولا امتداداً لحقل ما، ولا حتى عصفوراً يحب أن أداعب زغبه الصغير، هو مختلف عن كل هذا، وخارج عن كل الأطر التقليدية التي أعرفها، لا أستطيع أن أصف استدارة قبعته القشية، ولا حتى سطوع خصلات شعره الكستنائية، لدرجة أنني أيتها الغيطان والحقول والبيارات، أكره تفاصيل مكسيمو لأنني أشعر بالعجز أمامها..
لكن هذا كله لا يهم...فمكسيمو لم يعد حبيبي، ولن يعود أبداً..
تمسك زهرة خصلات شعر ابنتها الحالكة لتصنع منها جديلة، وتقول لي كأنها اكتشفت أمراً جديداً:
والله أنت لا تعرفين شيئاً، وأنا كنت كذلك، لكنني الآن أعرف الكثير الكثير، من يدري لم رحل مكسيمو، لعله ارتكب شيئاً مشيناً، تراودني شكوك حوله وحول ابنة الجزار، يا للعار لو حدث ذلك!
شعرت أن زهرة تضرب بأصابعها القوية على وريدي الأخطر، وتحاول أن تثير الأقاويل، صحيح أنها حكيمة، وتدرك معظم الأمور، إلا أنها تحب هذه الممارسة الشائعة: الثرثرة، يا لثرثرتك وهوايتك القبيحة يا زهرة!
مكسيمو لا يحب هذا النوع البليد الغبي من النساء كابنة الجزار، اللاتي لا يعرفن كيف يمشطن انسدال شلالاتهن ولا حتى كيف يتعاملن مع الحقول وابتسامات الديوك...
لا تصح أيها الديك اللعين، أن تعرف أنني كسولة اليوم ولا أريد النهوض، وأنت تدرك جيداً أن هذا البرد الصباحي يأكل عظامي، وأن دوامة الأغطية هذه تكاد تلتهمني، لذلك دعها تلتهمني ساخنة، يا لإزعاجك المستمر لي!
تبدين اليوم نضرة أكثر أيتها الحقول، والشمس تتمادى رويداً رويداً لتفض عذرية نداكِ أكثر، فعلاً إنه ذلك الصوت الذي تناهى لمسمعي مرة، يعود مبللاً أكثر، في غرق أكبر، يحاول أن يتشبث بشيء ما، بغصن هرم ربما..
الغسيل يتراكم بكثرة، وشفتي تزرقان أكثر، علي أن أقصد النبعة، فعلاً علي ذلك، فالماء غبي جداً، والخدمات البلدية المزعومة وقحة لدرجة لا تحتمل، علي ملء الجرار، وأن أقطف زهراً برياً لزهريتي الشفافة...
اللعنة على قطرات الماء الصقيعية، اللعنة عليكِ أيتها الحشرات الشامتة، أظنك الآن تقهقهين لقهري ومنظري الغبي، نعم سأبكي، لتشمتي أكثر لتقهقهي حتى تنفجري بين هذه الكتل العشبية الدبقة..
فعلاً إن هذا التيار الدافئ الغريب يذكرني بشيء ما، إنه يقترب أكثر، يتمادى أكثر يا للعذوبة!!
يمكنك أن تصفقي أيتها المواشي، وأنت أيها الجرو يمكنك أن تدرك الكثير الكثير عن الديوك، أما أنت أيتها الحشرات التي أكره، اشمتي بنفسك وانفجري بعيداً عن نطاقي الدافئ، لأنني صرت أدرك أن مكسيمو لا يحب القطط ذات العيون الزرق أو الخضر..