المقاهي بلند الحيدري - بغداد بين مقاهي الأدباء وأدباء المقاهي

لم يكن ثمة شيء يلفت نظر الوافدين في الاربعينيات، ويثير عجبهم واعجابهم كمنظر المقاهي المنتشرة في كل شوارع بغداد وازقتها، وكمنظر اسواقها كسوق الشورجة الخاصة ببيع التوابل ومؤنة البيت، وسوق الصفارين حيث تصنع الأواني النحاسية، وسوق السراي التي تمتد على جانبيها دكاكين بائعي الكتب القديمة منها والحديثة، والتي تمد بنفسها الى اسواق اخرى.

وقد وعيت اثر المقهى في حياتي وانا في سن مبكرة، اذ كنت اهرب اليه من المدرسة مع بعض زملائي في الدراسة المتوسطة، وكان مقهانا المفضل آنذاك هو مقهى (البلدية) وبأثر من كونه المقهى الوحيد الذي كنا نستمع فيه الى اغاني ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وكل زبائنه كانوا على مثل هوانا في حبهم لهذه الاغاني وربما كان هو المقهى الذي استوحاه بدر شاكر السياب في قصيدته (اغنية قديمة) حيث يقول في مطلعها:
في المقهى المزدحم النائي,في ذات مساء
وعيوني تنظر في تعب,
في الاوجه والايدي والارجل والخشب
والساعة تهزأ بالصخب
وتدق- سمعت ظلال غناء
اشباح غناء
تتنهد في الحاني, وتدور كإعصار
بال، مصدور
يتنفس في كهف هار
في الظلمة منذ عصور
واذا ما استثنينا هذا المقهى بمرمى من تلك الخصوصية، واستثنينا معه مقهى قريبا منه هو مقهى (الدفاع) المقابل لوزارة الدفاع حيث كنا نؤمه من حين لاخر لنلعب الشطرنج فيه، او لنتحلق حول لاعبي الشطرنج المعروفين الذين كانوا من رواده الدائميين، اقول اذا استثنينا هذين المقهيين، يمكننا ان نصنف مقاهي بغداد الى صنفين مختلفين لحد ما هما مقاهي (الطرف) او (المحلة) ومقاهي الشوارع الرئيسية، وتتوزع مقاهي الصنف الاول منهما النواحي المحيطة بمركز العاصمة، وحيث تتقاسم مساحاتها المفتوحة منها والمسقوفة، مصاطب خشبية تخت- وطاولات مستطيلة ومربعة، تتوسط ما بين تلك المصاطب ولا يتجاوز ضلع اي منها المتر الواحد، ويقتصر جمهورها على ابناء المنطقة، وجلهم من الطبقات المتوسطة او دونها، فبيوت مثل هذه الطبقات لم تكن لتوسع ابوابها لغير الاقارب والاصدقاء الحميمين جدا، وضمن زيارات عائلية، اما اللقاءات الاخرى فليس لها غير المقاهي، وحيث تمتد فيها الجلسات الى ساعات متأخرة من الليل، وقد اختلطت اصوات النرد والدومينه بأصوات المعلقين على لعب اللاعبين، وبقهقهات الضاحكين وصخبهم، وبأصوات ملاعق الشاي في الفناجين واحيانا بصراخ المتشاجرين والذين سرعان ما يلتف الجالسون حولهم لحل النزاع، والذي يكون عادة قد بدأ من ملاحظة عابرة حول خطأ في لعب النرد او الدومينو، او بأثر من طرفه قال بها احدهم فحملها الاخر على غير محملها، او بسبب من تعصب احدهم للنازيين او للانجليز، حتى اذا نجحت الوساطة عاد الصفو اليهم وتعانقوا، واستمروا في الذي كانوا فيه. ولا تشذ عن هذه الخصوصية غير بعض مقاهي (الطرف)، اما بسبب من انها صارت المقر المعروف لهذه الشخصية الادبية او تلك الشخصية الرياضية او لغيرهما من اهل الفن، او لانها جاورت مؤسسة معينة فلزمها العاملون فيها، او لانها اصبحت ملتقى لنخبة من الادباء الشبان الذين لمعت اسماؤهم في اواسط الاربعينيات، وحيث يكون لهم ان يتحلقوا كل مساء حول احدى تلك الطاولات الخشبية الصغيرة ليواصلوا ما ينز من بين ركام الحرب العالمية الثانية. ومن تلك المقاهي، مقهى صيفي يقع على مقربة من الجسر الخشبي القديم الذي يشد مابين منطقة (الاعظمية) ومنطقة (الكاظمية) وقد تعودنا ان نرى الشاعر العراقي الكبير (معروف الرصافي) يقطعه مشيا على قدميه، من الاعظمية الى الكاظمية، ليأخذ فيه مقعده الذي سرعان ما يتحلق حوله عدد من اصدقائه وبعض من اساتذة الادب وعدد من الشعراء والادباء الشبان، اليه بعض نتاجهم على امل ان يحظوا بكلمة منه فيها، ولم يكن امر ذلك يسيرا، فمحدثوه كثر واهميته اكبر من اهميتهم، وما لديهم كثير، وهيبة الرصافي الجدية، وطبيعة جلسته وانتشار عباءته واستقرار كوفيته وعقاله على رأسه وضخامة صوته، ليس من اليسير اختراقها بالنسبة لهؤلاء الشبان، وقد يحدث ان يتجرأ واحد منهم فيمد بيد مرتجفة قصيدته اليه وهو يهمس متلعثما وراجيا ان يقول رأيه فيها، فيأخذها منه بتثاقل، ثم يلقي بنظرة عجلى عليها ثم يعيدها الى صاحبها من دون اي تعليق، فيكتفي الشاعر الصغير المسكين بسكوته تعليقا عليها ويردها الى جيبه خجلا ويغادر المقهى.
واذا كان الرصافي كذلك بأثر من كبر سنه واوجاعه واوضاعه، فهو رغم ذلك كله وفي كثير من الاحيان على جانب كبير من الظرف وسرعة البداهة، واذكر مرة ان صبيا دلف الى مقهاه وقد تأبط رزمة من الاوراق، فما ان وقعت عينا الرصافي عليه وهو يتوجه اليه حتى ادار وجهه فينا وهو يقول (أعوذ بالله.. هذا هو تأبط شرا) وكان الامر كذلك اذ ما كاد لهذا الصبي ان يأخذ مقعده بيننا الا واستل كما من تلك الاوراق، مستأذناً الرصافي في ان يسمعه بعض شعره، وقبل ان يأذن له، راح صوت صاحبنا يلعلع في ارجاء المقهى بكلام لاطعم للشعر ولا للنثر فيه، فالتفت اليه متسائلا وبكثير من الجد (أأنت وحدك كتبت هذه القصائد العصم) فيرد عليه الصبي وقد افترشت وجهه ابتسامة فرح كبير (والله والله يا استاذ انا وحدي كتبتها كلها.. كلها من بطني انا).
فيربت الرصافي على كتف الشخص الذي يحاذيه وهو يقول اكيد انها من بطنه الم تشم رائحتها فننفجر بالضحك دفعة واحدة وينسحب الصبي حانقا ولاعنا.
ولم تدم لقاءاتنا به في هذا المقهى الا لفترة قصيرة من الزمن، فقد اعتلت صحته كثيرا، وانقطع عنه وعنا، ثم كان ان غاب عنا في منتصف الشهر الرابع من عام 1945، فانطفأ وهج المقهى بانطفاء حياته، وعادت ككل مقاهي (الطرف) ملتقى لابناء الحي. ومن نماذج هذا الصنف من المقاهي مقهى كان يجاور كلية (دار المعلمين العالية) ولم يكن آنذاك في بغداد غير ثلاث كليات هي كلية الطب وكلية الحقوق، وهذه الكلية التي تعوّد طلابها ان يملأوا مقاعد المقهى، ضمن حلقات صغيرة، ليراجعوا دروسهم فيها، وعلى الاخص في ايام الامتحانات، وبهذه الخصوصية يتميز بكونه مقهى هادئا وعلى من يؤمه من غير الطلاب ان يراعي هذه الخصوصية، وكان من رواده من الطلبة يتناقلون فيما بينهم وبين اصدقائهم الكثير من النكات والنوادر التي كانت تروى عن صاحب المقهى، ربما كان اسمه (ابراهيم عرب) وتختلف آراء الطلبة بشأنه فمنهم من يحسبه رجلا ملتاث العقل، ومنهم من يعتبره رجلا حصيفا ادرك سر المهنة فجعل من نوادره سبيلا لرواج سمعة مقهاه ولأنه في غير هذه النكات والنوادر دقيق في آرائه واحكامه، ومن درس علم النفس من هؤلاء الطلاب ذهب في تحليله لشخصيته الى انه مصاب بعقدة النقص التي افرزت عقدة العظمة عنده، وقد سعيت مرتين اليه بصحبة واحد من الطلبة فما حظيت بلقائه، ومع ذلك فقد اعاد عليّ من صحبته ومن موقع المشاهدة بعض تلك النوادر فلكل شيء في المقهى سر عظيم، فهذا الكلب الاجرب القابع عند باب المقهى والذي لايقوى على الوقوف هو سبب الحرب العالمية الثانية، ذلك لان ابراهيم عرب كان قد قدمه هدية، وهو مرغم، الى السفير الالماني، وعندما سمع بذلك السفير البريطاني غضب غضبا شديدا على ابراهيم عرب لانه سبق له ان سأله ان يهديه اياه فبخل به عليه، ولم يشفع له اعتذاره للسفير البريطاني الذي اصر على ان يستعيده، فما كان منه الا ان استرده من السفير الالماني، فكان ان اتصل كل منهما بدولته وتأزمت العلاقات بين الدولتين وهكذا نشبت الحرب وان الكلب لايزال هنا.. ومن تلك النوادر ان الطلبة شاهدوا ابراهيم عرب ذات يوم من ايام الصيف القائظة يدخل المقهى راكضا وهو يلهث ويتصبب عرقا، فبادروه بالسؤال عن السبب، فقال: آه لو تدرون ماذا حدث.. لقد كاد فريق الكرة العراقي ان يخسر لولا انه اسرع والتحق به فأنقذه من الخسارة، وقد ضرب الان الكرة عاليا- اي نجمها كما يقول العراقيون- وجاء مسرعا ليأخذ استكانا من الشاي ريثما تهبط الكرة، ثم يتركهم راكضا ايضا بعد ان اخذ رشفتين من الشاي ليعود الى الملعب قبل هبوط الكرة.. وفي الباحة المفتوحة من المقهى ثمة شجرة عجفاء، مايكاد ابراهيم عرب يرى وجها غريبا يدخل المقهى حتى ينادي بأعلى صوته على صبي المقهى ليسقي الشجرة ابريقا آخر من الشاي، فهي تكره الماء وتحب الشاي، ثم يلتفت الى صبي المقهى ليطلب شهادته على صحة ما يقول والويل له ان سكت او لم يجد له مدخلا لقصة جديدة،، قل لهم.. قل لهم من اين جئت بهذه الشجرة ياعم ابراهيم.. فيرد عليه ابراهيم عرب: الكل يعرفون.. كلهم يعرفون ذلك.. لقد قلعتها من حديقة نوري باشا بسحبة واحدة من يدي ولم ينقطع اي جذر من جذورها.. ولكومة الحديد المرمية الى جانب المقهى، قصة ايضا، فقد كان القطار يمر يوميا مرتين بمحاذاة المقهى وعزّ على ابراهيم عرب ان يزعج القطار بصوت عجلاته وصغيرة اعزاءه الطلاب فكان ان طلب من سائق القطار تغيير طريقه فما امتثل لطلبه، ثم كتب لنوري باشا ويقصد نوري السعيد رئيس الوزراء- ناصحا اياه بأن يأمر بتغيير طرق القطار فلم ينتصح ايضا، فما كان منه الا ان خرج لمواجهته حتى اذا دنا القطار منه عاجله بركلة قوية من رجله جعلت كل قاطراته تتهشم ويدخل بعضها ببعض وهذه الكومة من الحديد الصدئ (المزنجر) هي كل بقاياه واذا حدث لواحد من الطلاب ان ضحك، وكان في المقهى رجل غريب، امتعض ابراهيم عرب وقام ينادي بأعلى صوته على صبي المقهى ليسقي الشجرة ابريقا آخر من الشاي، وان لم يضحكوا لما يرويه عليهم وهم (وحدهم) معه غضب عليهم لانهم ماعادوا يستلطفون حكاياته، اما ان يعلن اي واحد منهم بأنه لايصدق بطولاته الخارقة، فتلك هي الطامة الكبرى فسيظل لفترة طويلة غاضبا عليه ويأمر صبي المقهى بأن لايقدم اليه اية خدمة، الى حين يتشفع له بعض الطلاب المقربين اليه، فيغفر له زلته.. وثمة مقاه، من جملة هذه المقاهي التي تقع في اطراف مدينة بغداد، ومن تلك مقهى البيروتي الذي يطل من جانب الكرخ على شاطئ دجلة وجل رواده من رجالات المنطقة المعروفين ولنخبة من الادباء والشعراء مكانهم المرموق فيها حيث يتصدره توفيق الفكيكي ومحمد الهاشمي وثلة من النازعين الى الادب القديم والمغرمين في ذرابة اللسان وصناعة الكلام المنمق والاخذين انفسهم بالنهج التقليدي في كتابة الشعر، وممن لايرون في الذي كنا نكتبه ونقوله غير فتنة وافدة من الغرب لتقويض التراث العربي، فما ان يطأ واحد منا باب المقهى حتى تتوجه اليه نظراتهم الشزرة وكأننا دنسنا بأقدامنا مقهاهم، ولذلك آثرنا وبعد عدة زيارات لهذا المقهى ان نبحث عن غيره، خاصة وانه يبعد بعدا شاسعا عن اماكن سكنانا، فكان لنا ان اخترنا مقهى (الكسرة) الواقع ما بين باب المعظم والاعظمية، ملتقى لنا، نؤمه كل مساء لنتحدث عن تطلعاتنا الادبية، وعما قرأنا من جديد ، جان بول سارتر واليوت وكامو واديت سيتول وما سمعنا من اخبار عن المدارس الفنية الاوربية وكان من بين من يضمهم مجلسنا الشاعران حسين مردان ورشيد ياسين والفنانان نزار سليم وخالد الرحال، وفي كل مساء يضاف اسم جديد الى قائمتنا، ومنهم بدر شاكر السياب الذي صحبني اليه غير مرة، الا انه لم يأنس طويلا لجلساتنا بسبب من وجود حسين مردان وخالد الرحال واللذين ما ان يلتقيا حتى يعلو ضجيجهما على كل احاديث الادب والشعر، بينما كنا نرى في شجارهما ونكاتهما من يطري الجلسة..، ثم كان لنا مقهانا الخاص بنا (مقهى واق واق) والذي عرف عنه ان ملتقى الشعراء والادباء والعشاق.. يقول عدنان رؤوف، وهو واحد من ادباء جيلنا النابهين: كنا معا نذرع شوارع بغداد من مقهى النعمان في الاعظمية الى مقهى الدفاع حتى مقاهي شارع ابي نواس، مرورا بحلويات الدار البيضاء بالمقهى السويسري وفي المقهى البرازيلي في شارع الرشيد، ولقد تحررت اكثر صفحات مجلتي، الفكر الحديث- و- الوقت الضائع- في تينيك المقهيين وفي المطابع اكثر مما تحررت في المكاتب والبيوت.. واذا ما خرجنا عن مقهى (النعمان) في الاعظمية، بصفته من بعض مقاهي (الطرف) الى مقاهي شارع الرشيد ومقاهي شارع ابي نواس، ولكل من هذه المقاهي ما يميزها عن مقاهي الطرق وهي بذلك تشكل الصنف الاخر من المقاهي وبأثر من ذينيك الشارعين وخصوصيتهما، فشارع الرشيد هو العمود الفقري لمدينة بغداد، وفيه تلتم عيادات الاطباء والصيدليات الكبيرة، وفيه تتوزع الفنادق بأنواعها المتباينة وفيه ايضا المخازن الانيقة، ومنه تتفرع الشوارع الى سوق السراي وسوق الصفافير وسوق الشورجة، ولذلك فان رواد مقاهي شارع الرشيد هم في الغالب من عابري السبيل وان لايخلو اي مقهى من زاوية تجتمع اليها نخبة من الادباء، اما شارع ابي نواس الذي يسير بمحاذاة نهر دجلة، فمقاهيه معدة لاستقبال المتسكعين كل مساء على شاطئ النهر والطامحين الى اكلة سمك مسقوف، وكل منهم على كثير امل ان يحظى بمجلس يدنيه من شاطئ النهر المنساب بكثير من البطء والتثاقل، ولم يكن غير مقهى واحد يختلف عن الباقين بطاولتي البليارد اللتين فيه، وقد لازمته لفترة من الزمن ضمن ثلة من الاصدقاء كان منهم الشاعران حسين مردان وكاظم جواد والفنان شاكر حسن ، فنوسع الجلسة الى ما بعد منتصف الليل حتى اذا ما باشر عمال المقهى بغسل ارضيتها ولم كراسيها انصرفنا عنه لنتسكع في الشارع، وذات مرة سهرنا على احدى مصطبات ابي نواس، انا وصديق آخر لنا وحسين مردان الى الفجر لنتمتع بشروق الشمس على دجلة، وعندما اشرقت كنا جميعا نائمين بعد ان استأثر كل منا بواحدة من تلك المصاطب، ولم يكن امر ذلك غريبا عليّ او على حسين مردان، فقد افترشناها غير مرة وكلما الجأتنا الحاجة اليها بعد ان نكون قد عجزنا عن توفير اجرة الفندق الزهيدة جدا. وتبقى لنا من مقاهي شارع الرشيد مرامي خطانا اليومية، فان رغبت في ان انفرد بالسياب، انتبذنا لنا مقعدين في مقهى يجاور المكتبة العامة في باب المعظم، ليقرأ لي من جديده واقرأ له من جديدي ونتبادل الاراء بشأنهما او بشأن ما وقعنا عليه من جديد زملائنا في تجربة الحداثة، وان اخذت حسين مردان حماسته للمشاكسة دلفنا الى مقهى الزهاوي للالتقاء بشاعر تقليدي كنا ندعوه بشاعر المصايف لتأليفه ديوانا بقرابة ثمانئمة صفحة في وصف المصايف العراقية، وكلها من الشعر التقليدي الرديء، وما أن يرانا قادمين الى حيث هو جالس حتى يبادرنا بهز عصاه الغليظة لنتبعد عن مكان جلوسه فان لم نمتثل له نالتنا ضربة مؤلمة على كتف واحد منا، ولذنا بالهرب من غضب الرجل المسن وسبابه وخشية ضربة ثانية اكثر ايلاما.. وعلى مسافة قريبة من مقهى الزهاوي، ثمة مقهى آخر هو مقهى (حسن عجمي) كان يرتاده احيانا الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وكنا نأنس بلقائه، وبحديثه الشائق، ونكبره شاعرا وسياسيا وثائرا، وكان الى جانب ذلك صاحب نكتة لاذعة لايرويها الاّ وقد حملها معاني البت هذا الذي الى جانبه او مدت بنفسها الى رئيس الدولة وزبانيته من المنتفعين والمتملقين وهو معنا على مزاجين، مزاج المدافع عنا حينا في اننا نحاول شيئا، ومزاج من يرى في بعض ما نكتبه تطرفا لامعنى له، وتكلفا للجدة لاجدوى منه، ويظل، فيغير هذا المزاج او ذاك، معنا في نزوعنا الثوري العارم على مختلف توجهاته، فالجواهري الفذ كان دائما من المبشرين بالفجر الجديد وكان دائما من بعض المكتوين بآتونه،، وثمة شعراء آخرون ممن ينظمون الشعر على النمط القديم يتحلقون حوله او يتخذون مواقع على مقربة منه، وفي العادة ان يتوسطهم الكاتب والصحفي عبدالقادر البراك مع نرجيلته التي لاتفارقه مطلقا فهي كما يسميها عشيقته الازلية.. وكان مقهى (الرشيد) سيد مقاهي شارع الرشيد ففيه يلتقي الكثيرون من رجال الفكر والادب وممن يؤثرونه على غيره بأثر من مكانة روّاده وحسن فرشه اذ ان كل مصاطبه مفروشة بالسجاد يوحي بوثرتها وبالدفء في ايام الشتاء، واترك للاستاذ اللغوي ابراهيم الوائلي وصف هذا المقهى الذي كان واحدا من رواده ومنذ بداية افتتاحه في عام 1940 يقول الوائلي: نحن في اوائل العقد السادس من هذا القرن والمقهى مازال مزدحما بالمرتادين والحاج حسين صاحب المقهى يجلس الى صندوقه عند الباب، والكهل الطيب، (وهل) يفترش الرصيف قرب باب المقهى وقد نشرت الصحف والمجلات وهو في كل صباح ومساء يطوف داخل المقهى ويوزع الصحف على الراغبين في قراءتها ويأخذ من كل واحد اجراً لايتجاوز عشرة فلوس. انتقل بعضهم الى مقاه اخر وبقي رواد الشطرنج والنرد والنرجيلة واصدقاء مازالوا يبتردون صيفا او يستدفئون شتاء في اوقات الراحة ومنهم خاشع الراوي وفؤاد عباس والمحامي محمد نجيب الجبوري وعبدالقادر رشيد الناصري وهؤلاء الادباء والشعراء ودعوا الدنيا الى ظلام القبور. والشاعر بلند الحيدري يسلم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب ولكنه لاينسى الحديث في الشعر واللغة ولعله كان يوافقني في الرأي.. ان الشاعر بلا لغة كالجندي بلا سلاح،، وكثيرا ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتابا فيجلس ويشارك في الحديث.. وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لا تفارق شفتيه واحاديثه في الشعر والنقد.. ويضيف في حديث ذكرياته الذي نشرته له جريدة (الثورة) العراقية في الخامس من شهر شباط 1987، قوله: وفي نهاية المطاف مررت مجتازا باب المقهى فاذا بشخص يسرع الى الخارج ويدعوني الى الجلوس انه الصديق الراحل المحامي محمود العبطة فلم يكن بد من الاستجابة لدعوته، ولقد كانت الزيارة هي زيارة الوداع للصديق العبطة وللمقهى الذي كان يصارع القدر في ساعة احتضاره، لقد انتهى بانتهاء مقهى الرشيد ناد من اضخم النوادي الادبية في بغداد.. ويصير للحداثة ايضا مقاهيها،، فها هما مقهيان جديدان يتوجان مقاهي شارع الرشيد، ويخرجان بنا من تلك المقاهي التقليدية ومن اجواء النرد والدومنة والنراجيل والمصاطب الخشبية والموسيقا والاغاني العربية الى حيث الكراسي الوثيرة والموسيقى الكلاسيكية الغربية، وان كنا لم ننقطع كليا عن مقهى الرشيد خاصة، كان اسم الاول منهما (المقهى السويسري) والثاني اسم (المقهى البرازيلي) وكان احدهما يجاور الاخر وقد كان (المقهى السويسري) ملتقانا المفضل والذي اعطيناه الكثير من خصوصيتنا، فالموسيقا الكلاسيكية تستوجب حسن الاصغاء وعلى الاحاسيس ان تدور بخفوت كلي وعلينا ان نبحث من خلال هذه اللقاءات عن انفسنا في الجديد الذي يفردنا بما نتمايز به. يقول شاكر حسن آل سعيد في كتابه (فصول عن الحركة التشكيلية في العراق) الذي صدر مؤخرا: ((..وقد صادف في نفس الفترة، اي عام 1945 اتفاق جماعة من الاصدقاء جلهم من شباب الفنانين والادباء على تاليف رابطة تجمعهم سموها جماعة –الوقت الضائع- وهؤلاء الشعراء هم: بلند الحيدري، نزار سليم، سلمان محمود حلمي وحسين هداوي وابراهيم اليتيم، ثم انضم اليها ايضا عدنان رؤوف وحسين مردان وابراهيم ابو الفتوح وكان هذا الاخير مدرسا مصريا انتدب للتدريس في احدى كليات بغداد وكذلك فؤاد رضا واكرم الوتري.. اتخذت جماعة الوقت الضائع اول الامر مقهى (كافيه سويس) في شارع الرشيد مقرا لهم يلتقون فيه للنقاش وقضاء الوقت.. وقد استطاعت ان تنشر عدة مطبوعات مثل ديوان خفقة الطين للشاعر بلند الحيدري عام 1946 ومجموعة اقاصيص بعنوان – اشياء تافهة- لنزار سليم كما اصدروا نشرة بنفس اسم الجماعة ظهر منها عددان. ومن خلال تلك النقاشات الطويلة ومن خلال ما كنا نسمع من اهالينا بأن الفن والادب مضيعتان للوقت ومن خلال سماع احدنا برواية مارسيل بروست (البحث عن الوقت الضائع) وحماسة نجيب المانع الطاغية ولدت فكرة اصدار نشرة باسم (الوقت الضائع) لنقول فيها كل ما هو غير مألوف في الصحافة العراقية آنذاك، ولنعلن عن سعر لها غير مقبول نهائيا، ان نبيعها بخمسين فلسا وهو ثمن باهظ لنشرة بثماني صفحات، وضمن مدارس الطلبة الثانويين واروقة الكليات رحنا نوزع العدد الاول، وسرعان ما عم لها صدى واسع حفزنا لاصدار العدد الثاني، واحسسنا بكبر تحدينا كلما وقعت اعيننا على كتابة طبشورية في هذا الحائط او ذاك تندد بنا وتشوه مقاصدنا وتدعو الناس لمقاطعة (الوقت الضائع) فاضاعة للوقت قراءة (الوقت الضائع) وصعب على هؤلاء الشبان ان يوفروا المال للاستمرار بها فانقطعت عن الصدور،، كان نزار سليم يقوم بتصميمها وحفر كلائشها، وحسين هداوي يكتب لها ويترجم بالاشتراك مع سلمان محمود حلمي وابراهيم ابو الفتوح، وكتبنا رسائلنا لغير واحد من ادباء العالم فلم يلب دعوتنا الا الكاتب الامريكي وليم سارويان الذي بعث لنا باقصوصة صغيرة بعنوان (مهزلة ان تموت ولاتدفن اذ لايزال بامكانك ان تسير)، ويكتب لنا الرسام البريطاني (كنت وود) من انطباعاته الفنية، ويكتب لنا سعيد علي مظلوم عن السيمفونية الحزينة لتشايكوفسكي ويكتب لنا جواد سليم، ويكتب ابراهيم اليتيم عن رجل (وضع قدميه في جيبه وسار) وكنا نراجع كل ما يبعث الينا في (المقهى السويسري) ثم اتكفل بأن احمل ما اعتمدنا نشره الى مطبعة الزمان، وتصحيح مسوداته.. كل ذلك كان يجري بكثير من الجدية والدأب ونحن نحلم بأن يتعقبنا المجد الهائل في كل مكان من بغداد.

م. المجلة سنة 1982

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى