خطيب بدلة - حكاية فعلان الأرقان وما جرى له مع النسوان

تعلمت كيف يتصدر الحكواتي المقهى المليءَ بالسمّيعة، ويسلطنُ عليهم فيشرق ويغرب على هواه.. تعلمتها من رجل يدعى سحبان بن الحاج أحمد مروة من أهالي الزرارية من أعمال صيدا في جنوب لبنان.. وأما الحكاية التي رواها الحكواتي فهي من عندي وحقوق الاقتباس محفوظة، وبالطبع ليست من بنات خالي وإنما رويت بحضوري، وكانت غائمة قليلاً ولكن من خالد كلمة، ومن حسين جملة، من محمود تعليق وإذا بها تُحاك وتحبك وكأنها مؤامرة، أو مشروع تنمية عربي تُصرف عليه الملايينُ كرمى للقطة تلفزيونية، أو كأنها مشاجرة عربية يروح فيها كم قتيل وتنتهي بتبويس الشوارب على المسك..

وقد أعجبتني الحكاية المحبوكة هذه فأخذتها وأضفت عليها شيئاً من عنديَّاتي، لكيلا يقول لي أحد :"ماذا فعلت حضرتك؟" فعلت، ونحن دائماً نفعل ونترك ونخفض ونرفع وإلا لماذا يكون الفاعل مرفوعاً دائماً في لغتنا العربية؟
الحادثة تبدأ من فراغ، أو من حالة أرق.. والرجل المُؤَرَّق لا تهمنا جنسيته القطرية ولا الجغرافية ولا حتى مذهبه. ولكن المهم أنه عربي (سجل أنا عربي)! والمدينة التي يسكنها عربية، أبا عن جد وكابراً عن كابر.. والدنيا ليل، والدنيا صيف، والدنيا شوب، والليل في منتصفه (لاحظوا أنني شرعت أملأ ثقوب الفراغ من مبدأ: أينما وجدت فراغاً سده فأنت لست بأكرم ممن أحدثه) وقد أوى المؤرق، واسمه قحطان، أو مروان، أو سحبان، صدقاً لا أذكر، ولكنه بالتأكيد على وزن فعلان، أوى إلى فراشه لينام فعلق مع النوم علقة مسخمة.
(تعليق الحكواتي: مسخمة يا أخوان فصيحة، فهي منحوتة من سخام المدافىء والأثافي. قال الشاعر ممتدحاً سخامَ أثافيِّ حبيبته الراحلة:
أثافيَّ سفعاً في مِعَـرَّسِ مرجلٍ
ونؤياً كجذم الحـوضِ لم يتثلمِ)

قال: فالتفت إلى زوجته فوجدها نائمة باطمئنان وعمق لا تعرفه إلا الجيوش المسالمة، والخلفاء العادلون الذين أودى عدلُهم بحياتهم بينما عاش الخلفاءُ المسلحون بالذعر ومشتقاته طويلاً. لكزها فقالت:
بف ف ف.. آ..
(ومعناها كما شرح الحكواتي: بحبك في النهار فقط، فافرنقع الآن).
ولكزها ثانياً فقالت: كخ خ خ..
(وهذه لم يشرحها الحكواتي، لأن من حق المتلقي بزعمه أن يكون شريكاً في العملية الإبداعية ويفهمها بنفسه).
ففهم أخونا فعلان أن زوجته قد وصلها حقها من الحب على مدى عشرين عاماً فاكتفت به مثلما اكتفى بعض العربان بنصيبهم القليل من الحضارة والسلام والأرض مترجمين بالمثل القائل (المكتوب على الجبين يجب أن تراه العين) إلى صيغة علمية.

المهم في الموضوع يا سادة يا كرام أن السيد فعلان، بعد دراسة الأصوات المرمزة المشفرة التي أصدرتها زوجته جواباً على لكزاته المتتالية عاوده الأرق فاتجه بكيانه إلى الشارع المجاور لنافذته عسى أن يسمع منه ما يحرك مشاعره فيملأ الوقت المتبقي حتى انبلاج الفجر، فلم يسمع صوتاً ولا نأمة، فقال لنفسه نادباً :
- الليلة بالذات ما في الدومري. على حظي تحضرت البلاد فما عدنا نسمع عواء كلب، ولا تشحيط فرامات سيارة ابن مسؤول، ولا مشاجرة بين الزعران الذين اتخذوا طيلة الصيف من الكلاب قدوةً فصاروا يسهرون الليل وينامون النهارولا شغل لهم ولا عمل. ولماذا يعملون إذا صارت سرقة ليلية واحدة تكفيهم للعيش ثلاثين يوماً بشرف، بينما يحتاج الموظف لثلاثين سرقة نهارية لئلا يقال عنه "شريف"، أي "حمار"؟
قال الحكواتي: المهم، أصاخ فعلان السمع حتى تحول الصمت في أذنيه إلى صفير طال حتى اختلط بولاويل امرأة مفجوعة أوقفته على قدميه باستعداد وكأنه في حضرة قاضي عصمانلي. وكان يحسب أن زوجته سوف تستيقظ قبله باعتبار أن الولاويل هي أولى الأبجديات التي اخترعها النساء على أثر المجزرة الفظيعة التي ارتكبها الإله (يهوه) بحق تماثيل الربة المقدسة التي عُبدت في العصر النيولتي معلناً سطوة الرجال عليهن وسطوة العبرانيين على من سبقهم من الشعوب بالقتل والتدمير. المهم، نظر فعلان إلى وجه زوجته (الحكواتي قال "محياها"، وهذا خطأ، فالمحيا مفردة تستخدم في الغزل حصراً!) فوجدها أكثر نعومة ودعةً وعدلاً وإطلاقاً للأصوات المشفرة من ذي قبل، فارتدى ثيابه على عجل ونزل إلى الشارع، فوجده نائماً، (مطنشاً) عن استغاثة المرأة، ناسياً أن ولولة أقل من هذه بكثير أطلقتها إحدى جداتنا قائلة:
- وا معتصمااه ..
جعلت الألجمة تقعقع، والسيوفَ تبرق، والغبارَ يملأ الجوزاء و: (خميساً بشرق الأرض والغرب زحفه/ وفي أذن الجوزاء منه زمازمُ) يخرج للذود عنها قائلاً: لبيك أيتها الحرة التي تموت ولا تاكل بثديها.
خلاصتها، قال الحكواتي، دبت النخوة العروبية في رأس أخينا فعلان، فشرع يركض باتجاه الصوت مغالباً القطران والنيكوتين والشحوم الثلاثية المعششة في دورته الدموية، وتُتَرجم أثناء الجري إلى سعال ولهاث،.. دواليك وهلمجراً.. حتى بلغ بيتاً مضاء ولكن بابه مقفل وأصوات مشادة كلامية تجري خلفه يشارك فيهال شخصان أو أكثر، أحدهم المرأة المولولة،.. وكانت تقول بالحرف الواحد:
يا شحاري ي ي..
انشدت الأبصار باتجاه الحكواتي، فاستغل الفرصة وراح يشرح لهم قائلاً:
شحاري يا أخوان هي الأخرى فصيحة، وهي شبيهة بالسخام، واستخداماتها لا تحصى، ومنها على سبيل المقال أغنية للبنت الجميلة نورا رحال تقول:
شحاري عليك
يا مدلل أهلك شو سويت
آه يا نوراني
حبك عماني وما في بيت.
ومنها، أيضاً، جملة مفيدة تامة الأركان تقولها زوجة فعلان لكل من يسألها عن حالها معه: "عيشة مشحرة والسلام".
رد السميعة بصوت واحد: وعليكم السلام ورحمة الله، هات خبرنا بما فعل فعلان إزاء الموقف، وطيب الله أنفاسك سلفاً.
قال الحكواتي:
- نسيت أن أخبركم أنم مكنس البلدة وعامل الفرن ومجموعة من الرجال الذين لديهم زوجات عادلات قد تجمعوا عند الباب بالإضافة إلى السيد فعلان،.. ولما طال التدافع وراء الباب وضعوا أكتافهم عليه ودفعوه إلى الداخل فانكسر، فدخلوا معه بفعل القوة النابذة ليجدوا أنفسهم في دائرة وقد وجهت إليهم فوهة مسدس جاهز للإطلاق.

(2)
فلما صارت المجموعة كلها– بلا طول سيرة– في المخفر، تقدم الجاويش من المرأة التي كانت تولول قبل قليل وقال لها:
- عاعاي (يعني تثاءب) ما اسمك؟
فقالت: أنا أم حسن، وهذا ابني المغضوب حسن، واسمي بالهوية صبحية أو صبيحة والله لا أعرف.
قال: عاعااااي.. حددي، فكما ترين ليس لدي وقت طويل لنضيعه، ولكن بالمناسبة. كهي كهي كهي (انفلت بالضحك فجأة) ألأ تشاهدين مسلسل "جميل وهناء"؟ أنا يعجبني ابو حازم أيمن زيدان عندما يتثاءب في وجه نورمان أسعد ويقول لها عاعاااي بدي نام.
قال فعلان: ماذا تقول أنت يا حضرة؟ تقول لك أن في الموسطة جريمة والمغدور مايزال مسجى في البيت وتحكي لنا عن جميل وهناء!!
قال رئيس المخفر: اخرس أنت. عاعاااي (وسأل المرأة) من هذا؟
قالت المرأة: يا سيدنا خلني أحكي لك السالفة. ابني هذا (وأشارت إلى الرجل حامل المسدس الملقم) قتل اباه وأنا بعيد عنك ولولت فجاء هذا الرجل (مشيرة إلى فعلان) ومعه هؤلاء الجماعة وكسروا الباب و..
نقز رئيس المخفر وقال مندهشاً: كسروه؟! قولي والله العظيم كسروه.
قالت صبحية (أو صبيحة): يا سيدي مش مشكلة، المشكلة أن ابني قتل أباه .أأنت لا تفهم؟
فاعتبر رئيس المخفر أن في الموسطة ثلاث جرائم: كسر الباب، وإهانة رئيس المخفر في عقر مخفره بعبارة "أأنت لا تفهم؟"، وأن جميع المتواجدين في المخفر لا يتابعون مسلسل جميل وهناء. فاحتجزهم عنده إلى حين استدعاء رئيس القسم المناوب في القيادة.

(3)
قال الحكواتي، يا سادة يا كرام: فلما أصبحت صبحية في مواجه رئيس القسم، قالت: إهي إهي (بكت)، ثم مسحت دموعها بكمها وتابعت تقول: يا سيدي، يا أبو القسم، مبين عليك أنك فهمان، ولولا هيك ما عينوك فوق كل هل العالم في القسم. اسمعني مليح ولا تستعجل علي بترجاك. أنا لو كان جاءني خبر زوجي أبو حسن قبل اليوم بثلاثين سنة كان امتلأ قلبي بالشحم واللحم ورقصت وزلغطت وقلت "الله يحرق نفسو"! أي نعم. بتعرف ليش؟ لأنو حرق قلبي الله يرحمو. رَبَّط عليَّ الطرق الله وكيلك. أنا عند أهلي مثل الغزالة الشاردة، حسن وجمال وشي بشهي القلب، يا عين خالتك، ومن كتر ما ألح قلت لنفسي كيف تخلصين من هذه البلوة المكبرة؟ دورت، بحبشت، سألت، قالوا لي "ما في قدامك حل غير أن تتزوجيه"، فانضربت على قلبي وتزوجته، وهيك خلصت منه!
ضحك رئيس القسم يا أخوان من كل قلبه، وقال لها ودموع الضحك تنفر من عينيه:
-هيك خلصتي منه؟
فقالت: معلوم، لو لم أتزوجه كان ظل لاحقني مثل التوتو. الحاصل، أنا لا أحبه، وهو يموت علي فإذا بنا نخلف المغضوب حسن.
قال: قصدك هذا الذي قتل أباه؟
فلوت كفها اليسرى وضربت اليمنى فوقها وشفطت نفساً سوقياً وقالت:
- قتل أباه؟ هذا خرجه يقتل ويضرب؟ أي بحياته ما آذى نملة.
عرك رئيس القسم عينيه غير مصدق ما سمع وقال لها:
- ألم تقولي قتل أباه؟
- بلى، قلت.
- طيب طيب بماذا قتله؟ بالمسدس؟
- لا.
- شنقاً؟
- لا.
- حط المخدة على فمه وظل يكبس حتى أخرج روحه؟
- لا.
- بماذا قتله إذاً؟
- بالغباء يا عين خالتك. ابني غبي لدرجة.
فاستوى رئيس القسم جالساً، بعدما كان واقفاً لاعتقاده بأن الحكاية صغيرة ومفهومة تنتهي في دقائق، وقال:
- اقعدوا أنتم (هذا لفعلان وصحبه). اعمل لنا شاي (هذا للحاجب) هاتي من الأول (هذه لأم حسن).

(4)
نحن العرب- قال الحكواتي– يا أخوان نحب الحكي وينطبق علينا القول المأثور: "هات سميعة وخذ حكواتية"، وأنا شاهدت رسماً كاريكاتيرياً لعلي فرازت فيه أكثر من ألف رجل يقولون خطابات وأمامهم سميع واحد لابد أن يكون حاجب القاعة، وإلا فمن يكون؟!
وجدت السيدة أم الحسن كل هؤلاء السميعة بمن فيهم أبو القسم يصغون إلها فشرعت تحكي "وتشوبر" بيدها وتضحك وتبكي وتبتسم مثل الفصول الأربعة، بينما استأذن الجاني (حسن) من رئيس القسم بأن ينام قليلاً لأنه يحفظ كلام أمه عن ظهر قلب، لأنها تعيده عليه ثلاث مرات في النهار القصير. قالت أم حسن:
- أول باشتان، هذا الولد لم يفلح بالدراسة. يوم قعد في المدرسة كان عمره سبع سنوات وكانت جارتنا أم أكرم تضع مولودها. ابني حسن ظل يرسب في الصف الأول حتى صار أكرم معه ثم تجاوزه، يومها جاءت لأبي حسن- رحمه الله- أول نخزة في الثدي الأيسر.
قال رئيس القسم: قصدك جلطة؟
قالت: أي نعم. وعندما وضعه أبوه عند الكهربجي ليتعلم الصنعة، وبقي ثلاث سنوات، ثم أعاده إلينا الكهربجي قائلاً: "فالج لا تعالج"، جاءت لأبيه كريزة رمل وبحصة في الكلية، البحصة نزلت إلى الحالب وعترست، لا تطلع ولا تنزل، الله وكيلك، أكثر من شهر.
قال فعلان: الكهرباء مهنة معقدة، لو أنكم اخترتم له مهنة أسهل منها.
قالت أم حسن: معك حق يا ابني. حطيناه في عمل لا يوجد أسهل منه في العالم. حلاب بقر في المبقرة الحكومية هل يوجد أسهل من هذا؟! أمي الله يرحمها كانت أمية لا تعرف الألف من العصا وبدقيقة تحول بز البقرة إلى شيْ شبيه بالجورب.
قال رئيس القسم: وفشل؟
قالت: لم يفشل تماماً ولكنه غبي كما قلت لك. لقد ارتكب خطأ ليته كان أودى بحياته، كنا زعلنا عليه كام يوم وخلصنا منه. أخذ السطل يا عين خالتك يا أبو القسم وبدل أن يدخل إلى مهجع البقرات دخل إلى مهجع الثيران وبدأ العمل الذي آتى من أجله. وعينك لا ترى إلا النور. لو رأيته بعد قتلة الثيران لما صدقت إنه بقي حياً. يومها أبو حسن جاءته رشقة على رأسه.
- رشقة؟
- قصدي جلطة دماغية وصار معه فالج. وبلا طول سيرة كل تيسنة من تيسنات حسن بكريزة أو رشقة، وأنا واقفة قباله أطعمه وأسقيه وأكب فضلاته، وهذا حسن ولا على باله، إلى أن حصل ما حصل اليوم ولكن هذه- شهادة لله- لا يمكن أن يُسأل عنها حسن.
- كيف لا يُسأل؟ ألم تقولي إنه تسبب بوفاته؟
- بلى لكن الله يجازي من كان السبب. لقد أصدروا قراراً يقضي بتعينه في وظيفة، وتحت يده بشر ومصالح خير الله. قال لي أبو حسن– الله يرحمه– وهو يشحد أنفاسه من الأجاويد: "بلغ السيل الزبى يا صبوحة، قبل هذا كان حسن ابني ومصيبتي. أنا خلفته وأنا أبتلي. أما أن يبتلي به المجتمع فـ..."
لا أعرف ماذا بعد "فـ..." التي قالها الله يرحمه. لأنه على أثرها عض على لسانه وأعطاك عمره.

(5)
كانت السيدة عبيدة، أو عبدية، زوجة السيد فعلان الأرقان في أحلى نومها حينما سمعت زوجها يصرخ: لا لا.
هبت واقفة، فرأته غارقاً بالعرق مذعوراً يصيح:
لا، والله العظيم لم أكسر باب أحد. أي باب يا حجي؟ قسماً بالله مالي علاقة.

(6)
هذه هي الحجكاية، من طاق طاق إلى السلام عليكم، وحكمتها تقول:
"إذا قال لك أحد إن السلحفاة سبقت الأرنب فقل له إنه كذاب أشر، لأن الأرنب لا ينام على خط السباق، ثم إن السلحفاة تبدو من خلال سرعة الأرنب الفائقة، راجعة إلى الخلف، أو كما كتب جارنا أبو وليد على مؤخرة سيارته: راجعة بإذن الله!!"



خطيـب بدلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى