1-الزعماء يغيرون الجغرافيا:
هربْتُ من السجن، حينما عبرتُ النفق الذي يمتد أربعة عشر متراً تحت الأسوار.
تخيّلتُ صديقي الناصري صبري عبده حينما يصحو ويكتشف هروبي، فيصرخ في أقرب جارٍ له في السجن:
ـ عثمان خائب وغرير .. لماذا هرب؟ .. سيجيئون به من تحت الأرض .. ويعذبونه!!
أتخيله يلحق بي، ويصرخ:
ـ لماذا هربتَ من السجن؟
ويحاول أن يشدني ليرجعني إلى السجن رأفةً بي وخوفاً عليَّ، فأوشك أن أفتك به. لكني على كل حال تركتُ الأسوار ورائي ... فلماذا أشغل نفسي به؟
توقعتُ أن أُضرب بالرصاص ساعة الفرار .. يُطاردني جندي مع زملائي الثلاثة الفارين، ويطلب منا التوقف، فنجري، فيُطلق علينا النار.
كيف ستستقبلني أمي؟ وهل ستكلمني كلامها المعهود .. لقد جاوزت الأربعين يا بني .. فمتى تُسعد قلبي ببنت الحلال؟ .. ثم تقصُّ لي ما جرى لأبناء القرية جميعاً في غيابي .. الذين تزوّجوا .. والذين ماتوا .. والذين سافروا للعمل في ليبيا والعراق.
هل سأستطيع أن أمكث يوماً مع أمي التي شُغلت عنها في السنوات الخمس الأخيرة بالعمل مخرجاً مسرحيا في القاهرة؟.
قال لي صبري عبده محذراً:
ـ أنت واهم إذا ظننت أنك ستغير التاريخ.
وضحك:
ـ الزعماء وحدهم هم الذين يغيرون التاريخ والجغرافيا أيضا.
وحين رآني مستغرباً:
ـ حينما ينتصرون يغيرون التاريخ، وحينما يتركون أرضهم لأعدائهم كما فعل زعماء العرب في حرب 1967م، فهم يُغيرون الجغرافيا!
كيف يكون ناصريا ويتكلّم عن زعيمه بمثل هذا الجنون؟!!
بصقت بصقة كبيرة ناحيته، وأنا أقول في سري:
ـ وغد، سافل.
أضاف ضاحكاً:
ـ لا تغضب يا سيدي! .. ليس زعيمنا وحده من غيّر الجغرافيا!
وأضاف بلهجة ساخرة:
ـ زعماء كثيرون فعلوا مثلما فعل زعيمك.
وقال وكأنه يُغني سخريةً ومرارة:
ـ يا قلب لا تحزن!
2-التجربة الأولى:
أصرَّ مساعدي محمد فهمي على أن يحذرني من مغبّة معارضة السادات في ذهابه للقدس، وقال لي:
ـ إن شعبك ـ أيها الناصري الحالم ـ تعب من القتال والحرب، ويريد أن يعيش.
قلتُ في قرف:
ـ ولكن إسرائيل لن تتركنا!
قال وهو يرتدي مسوح الحكمة:
ـ ستعيش وحيداً.
وأضاف:
ـ اقرأ جيداً التاريخَ الذي يقول: إن أبا ذر قد لفظ الأنفاس وحيداً في الربذة.
قلتُ ـ مُتغابياً عن مغزى كلماته ـ في قرف:
ـ ما علاقةُ الصحابي الجليل بعالمنا الآسن؟!!
وضحك:
ـ كانتْ معهُ زوجُهُ.
فقلتُ له وأنا أدير وجهي للناحية الأخرى:
ـ أنا غير متزوج!
ثم استدركتُ:
ـ وأنت أيضاً ناصري .. لكن سلوى .. خنساء هذا العصر ـ أقصد خطيبتك الشاعرة الممثلة ـ ستُخالف التاريخ.
فقال في لهجة تمثيلية:
ـ لماذا يا سلوى جعلتِ أبا ذر يعودُ إلى مكة، ويُقابل السلطان ويقول له ما لا يُحب سماعه؟!!
تحدّثتُ مع بطل مسرحية «ليلى والمجنون» ـ في استراحة من التجارب ـ وهو من المعجبين بالرئيس المؤمن، فقلتُ له: إن نص الخطاب الذي ألقاه السادات في القدس أكثرُ منْ رائع، لأنه يجعل أمريكا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في المنطقة، ولا مانع من أن نحول هذا الخطاب إلى نص مسرحي يجعلُ مصر في صورة حسناء تُباع في سوق الرقيق بدولارات "مضروبة"؟!، فقال ضاحكاً:
ـ ولماذا لا نبدأ تجارب إخراج هذا النص ـ بعد أن تستكمل كتابته ـ في القدس المحتلة، وفي عيد الأضحى القادم؟
الوغد ..
أخطأتُ في اختيار من أفضي إليه بخواطري ..
3-صفحة من مذكراتي:
22 ديسمبر 1977م:
« قال لي صبري عبده:
ـ لماذا لحقت بنا هنا؟
ـ لأني فكرتُ في كتابة نص مستوحى من خطاب الرئيس المؤمن، وفكر سامح سري في أن أخرجه في القدس المحتلة.
ضرب الباب بقبضة يده:
ـ سامح سري مباحث! هل كنت تهذي؟ ..
قلتُ في حزن:
ـ لم أكن أعرف.
صمتنا برهة، فأضاف:
ـ والنص؟ .. هل كتبته؟
ـ لا..
وقلتُ وأنا أُبدي الفزع لأُريحه:
ـ وهل يحاسبونني على نيتي؟!!
لم يرد!
... وضحكنا ..
...
يضحك صبري عبده ـ المسجون قبلنا من يناير 1977م، في أحداث الخبز ـ حينما يسمع قصيدة ـ مجهولة القائل ـ عن تحرير القدس، فتمتلئ عيناه بالدموع، ويقول:
ـ القدس ثالث الحرمين، نحبها ونعتز بها، لكنها لن تعود إلينا أبداً.
قلتُ:
ـ ستعود .. بألف تأكيد.
وأضفتُ:
ـ لقد احتُلت من قبل في زمن الصليبيين، وأعادها صلاح الدين.
قال ملحنا ما يقوله في حزن:
ـ صلاح الدين لن يعود يا حبيبي، لأن الجالسين على الكراسي لن يتركوها!!
قلتُ:
ـ الشعوب ستجبرهم على ذلك؟ وستنضم إلى صلاحٍ، وتُحارب في صفوفه!
قال وهو يدير وجهه للناحية الأخرى:
ـ وحاميتهم أمريكا ـ التي تُمسك أوراق اللعبة كما يقول الرئيس المؤمن ـ أين ذهبت؟ ..
وأجاب على سؤاله مقهقهاً في حزن جريح:
ـ هل أكلتها القطة؟
لعنتُ ـ في سري ـ صبري عبده ومن على شاكلته من الناصريين المثبطين، وثوار الزمن الأخير، الذين يُسجنون ويضيعون أعمارهم في السجن بلا قضية .. وبلا أُفق!
وذكّرتني أقواله بقصيدة سمعتُها من يومين من شاعر مسجون آخر ـ يبدو أنه من فصيل ماركسي ـ وكنا نتكلم عن الزمن القادم الجميل، فأخرج من جيبه قصيدة يتحدث فيها عن صورة العالم الذي يريده بعد خروجه من السجن، يقول فيها:
وأنا أيضاً
أحلمُ بالزمنِ القادمٍ ..
يبتلعُ الفقّاعات الطافيةَ على الوجهِ .. ونُصبحُ قممَ الأشياءْ
سنصيرُ السادةْ
سأصيرُ رئيساً عصريا
يشربُ كأسَ الويسكي في الحانةْ
ثمَّ يعودُ سريعاً ..
ليُضاجعَ زوجَ رئيسِ الوزراءْ!!
4-أصل القضية:
مشيتُ بعد منتصف الليل على شاطئ الترعة التي أعرف أشجارها، والتي ستوصلني إلى قريتي حيث بيت أمي!
لا أريد أن أتذكر تلك الليلة الأخرى السيئة .. ليلة القبض عليَّ.
قال لي مساعد المخرج: سأتزوج سلوى الخميس القادم .. يا أستاذ .. سلوى .. شاعرة لا ممثلة! (ووجّه كلامه لها) لم تستطيعي أن تنجحي كممثلة في المسرحيات الست التي مثلتِها من قبل .. لم تعقب سلوى، وضحكت وهي تتذكر المسئول الكبير ـ المعجب بها والذي يُطاردها هاتفيا ـ والذي يجلس دائماً في الصف الأول .. ولا يُشاهد شيئاً من أدائها لأنه ينام ..
وقلتُ ضاحكاً:
ـ إذا تزوجتما .. فمن يمثل دورك في «ليلى والمجنون»؟!
ضحكت ..
وضحكنا .. وأغمضتُ عينيَّ لأفتحهما على ضابط وشرطيين .. يطلبان مني التوجه معهما إلى (لاظوغلي):
ـ خير؟
ـ سؤالان، وتعود إلى بروفاتك.
ولم أذهب للاظوغلي للتحقيق، وإنما إلى السجن مباشرة .. السجن الذي فيه صديقي القديم، وزميلي في منظمة الشباب: صبري عبده .. لنتشاجر، ونضحك، ونحزن! .. ونقضي معاً ستة أشهر .. مليئة بالحوار، والشجن، والعذاب!
4-لحظة الفاجعة:
هاهي قريتي الغافية لا تصحو على وقع خطوات ابنها الذي لم يزرها منذ عامٍ ونصف تقريباً.
رأيتُ أمي نائمة، لا تتحرك، ولا تفتح عينيها.
بدأ الحلم ينحسر .. الخارج ليس أقل شراسةً من السجن.
.. أخبرني أخي محمد أن أمي مصابة بجلطة منذ شهرين، وأنها لا تعي شيئاً ممّا يدورُ حولها، رغم عَرْضِها على أكثر من طبيب خاص .. فمستشفى القرية بدون طبيب! .. وأخبرني أن زوجته ماتت منذ عشرين يوماً ـ لماذا لم يصلني الخبر .. هل كنتُ بعيداً جدا؟ .. وهل السجن ناءٍ إلى هذا الحد؟ .. هل كنتُ في واق الواق؟ ـ وأخبرني أن ابنته الوحيدة تعمل الآن مدرسة في سلطنة عمان منذ تزوّجت في أواخر الصيف الماضي.
الساعة الرابعة صباحاً .. هل سأصلي الفجر في المسجد؟ .. أم أن الأفضل أن أُصلي في البيت حتى لا يراني أحد؟!!
...
...
صافرة عربة الشرطة تقطع الصمت!
.. لم أستمتع بهروبي ..
يبدو أن أسوار السجن الكبير تمتد بعرض الوطن وطوله!!
ديرب نجم 15/9/1983م
هربْتُ من السجن، حينما عبرتُ النفق الذي يمتد أربعة عشر متراً تحت الأسوار.
تخيّلتُ صديقي الناصري صبري عبده حينما يصحو ويكتشف هروبي، فيصرخ في أقرب جارٍ له في السجن:
ـ عثمان خائب وغرير .. لماذا هرب؟ .. سيجيئون به من تحت الأرض .. ويعذبونه!!
أتخيله يلحق بي، ويصرخ:
ـ لماذا هربتَ من السجن؟
ويحاول أن يشدني ليرجعني إلى السجن رأفةً بي وخوفاً عليَّ، فأوشك أن أفتك به. لكني على كل حال تركتُ الأسوار ورائي ... فلماذا أشغل نفسي به؟
توقعتُ أن أُضرب بالرصاص ساعة الفرار .. يُطاردني جندي مع زملائي الثلاثة الفارين، ويطلب منا التوقف، فنجري، فيُطلق علينا النار.
كيف ستستقبلني أمي؟ وهل ستكلمني كلامها المعهود .. لقد جاوزت الأربعين يا بني .. فمتى تُسعد قلبي ببنت الحلال؟ .. ثم تقصُّ لي ما جرى لأبناء القرية جميعاً في غيابي .. الذين تزوّجوا .. والذين ماتوا .. والذين سافروا للعمل في ليبيا والعراق.
هل سأستطيع أن أمكث يوماً مع أمي التي شُغلت عنها في السنوات الخمس الأخيرة بالعمل مخرجاً مسرحيا في القاهرة؟.
قال لي صبري عبده محذراً:
ـ أنت واهم إذا ظننت أنك ستغير التاريخ.
وضحك:
ـ الزعماء وحدهم هم الذين يغيرون التاريخ والجغرافيا أيضا.
وحين رآني مستغرباً:
ـ حينما ينتصرون يغيرون التاريخ، وحينما يتركون أرضهم لأعدائهم كما فعل زعماء العرب في حرب 1967م، فهم يُغيرون الجغرافيا!
كيف يكون ناصريا ويتكلّم عن زعيمه بمثل هذا الجنون؟!!
بصقت بصقة كبيرة ناحيته، وأنا أقول في سري:
ـ وغد، سافل.
أضاف ضاحكاً:
ـ لا تغضب يا سيدي! .. ليس زعيمنا وحده من غيّر الجغرافيا!
وأضاف بلهجة ساخرة:
ـ زعماء كثيرون فعلوا مثلما فعل زعيمك.
وقال وكأنه يُغني سخريةً ومرارة:
ـ يا قلب لا تحزن!
2-التجربة الأولى:
أصرَّ مساعدي محمد فهمي على أن يحذرني من مغبّة معارضة السادات في ذهابه للقدس، وقال لي:
ـ إن شعبك ـ أيها الناصري الحالم ـ تعب من القتال والحرب، ويريد أن يعيش.
قلتُ في قرف:
ـ ولكن إسرائيل لن تتركنا!
قال وهو يرتدي مسوح الحكمة:
ـ ستعيش وحيداً.
وأضاف:
ـ اقرأ جيداً التاريخَ الذي يقول: إن أبا ذر قد لفظ الأنفاس وحيداً في الربذة.
قلتُ ـ مُتغابياً عن مغزى كلماته ـ في قرف:
ـ ما علاقةُ الصحابي الجليل بعالمنا الآسن؟!!
وضحك:
ـ كانتْ معهُ زوجُهُ.
فقلتُ له وأنا أدير وجهي للناحية الأخرى:
ـ أنا غير متزوج!
ثم استدركتُ:
ـ وأنت أيضاً ناصري .. لكن سلوى .. خنساء هذا العصر ـ أقصد خطيبتك الشاعرة الممثلة ـ ستُخالف التاريخ.
فقال في لهجة تمثيلية:
ـ لماذا يا سلوى جعلتِ أبا ذر يعودُ إلى مكة، ويُقابل السلطان ويقول له ما لا يُحب سماعه؟!!
تحدّثتُ مع بطل مسرحية «ليلى والمجنون» ـ في استراحة من التجارب ـ وهو من المعجبين بالرئيس المؤمن، فقلتُ له: إن نص الخطاب الذي ألقاه السادات في القدس أكثرُ منْ رائع، لأنه يجعل أمريكا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في المنطقة، ولا مانع من أن نحول هذا الخطاب إلى نص مسرحي يجعلُ مصر في صورة حسناء تُباع في سوق الرقيق بدولارات "مضروبة"؟!، فقال ضاحكاً:
ـ ولماذا لا نبدأ تجارب إخراج هذا النص ـ بعد أن تستكمل كتابته ـ في القدس المحتلة، وفي عيد الأضحى القادم؟
الوغد ..
أخطأتُ في اختيار من أفضي إليه بخواطري ..
3-صفحة من مذكراتي:
22 ديسمبر 1977م:
« قال لي صبري عبده:
ـ لماذا لحقت بنا هنا؟
ـ لأني فكرتُ في كتابة نص مستوحى من خطاب الرئيس المؤمن، وفكر سامح سري في أن أخرجه في القدس المحتلة.
ضرب الباب بقبضة يده:
ـ سامح سري مباحث! هل كنت تهذي؟ ..
قلتُ في حزن:
ـ لم أكن أعرف.
صمتنا برهة، فأضاف:
ـ والنص؟ .. هل كتبته؟
ـ لا..
وقلتُ وأنا أُبدي الفزع لأُريحه:
ـ وهل يحاسبونني على نيتي؟!!
لم يرد!
... وضحكنا ..
...
يضحك صبري عبده ـ المسجون قبلنا من يناير 1977م، في أحداث الخبز ـ حينما يسمع قصيدة ـ مجهولة القائل ـ عن تحرير القدس، فتمتلئ عيناه بالدموع، ويقول:
ـ القدس ثالث الحرمين، نحبها ونعتز بها، لكنها لن تعود إلينا أبداً.
قلتُ:
ـ ستعود .. بألف تأكيد.
وأضفتُ:
ـ لقد احتُلت من قبل في زمن الصليبيين، وأعادها صلاح الدين.
قال ملحنا ما يقوله في حزن:
ـ صلاح الدين لن يعود يا حبيبي، لأن الجالسين على الكراسي لن يتركوها!!
قلتُ:
ـ الشعوب ستجبرهم على ذلك؟ وستنضم إلى صلاحٍ، وتُحارب في صفوفه!
قال وهو يدير وجهه للناحية الأخرى:
ـ وحاميتهم أمريكا ـ التي تُمسك أوراق اللعبة كما يقول الرئيس المؤمن ـ أين ذهبت؟ ..
وأجاب على سؤاله مقهقهاً في حزن جريح:
ـ هل أكلتها القطة؟
لعنتُ ـ في سري ـ صبري عبده ومن على شاكلته من الناصريين المثبطين، وثوار الزمن الأخير، الذين يُسجنون ويضيعون أعمارهم في السجن بلا قضية .. وبلا أُفق!
وذكّرتني أقواله بقصيدة سمعتُها من يومين من شاعر مسجون آخر ـ يبدو أنه من فصيل ماركسي ـ وكنا نتكلم عن الزمن القادم الجميل، فأخرج من جيبه قصيدة يتحدث فيها عن صورة العالم الذي يريده بعد خروجه من السجن، يقول فيها:
وأنا أيضاً
أحلمُ بالزمنِ القادمٍ ..
يبتلعُ الفقّاعات الطافيةَ على الوجهِ .. ونُصبحُ قممَ الأشياءْ
سنصيرُ السادةْ
سأصيرُ رئيساً عصريا
يشربُ كأسَ الويسكي في الحانةْ
ثمَّ يعودُ سريعاً ..
ليُضاجعَ زوجَ رئيسِ الوزراءْ!!
4-أصل القضية:
مشيتُ بعد منتصف الليل على شاطئ الترعة التي أعرف أشجارها، والتي ستوصلني إلى قريتي حيث بيت أمي!
لا أريد أن أتذكر تلك الليلة الأخرى السيئة .. ليلة القبض عليَّ.
قال لي مساعد المخرج: سأتزوج سلوى الخميس القادم .. يا أستاذ .. سلوى .. شاعرة لا ممثلة! (ووجّه كلامه لها) لم تستطيعي أن تنجحي كممثلة في المسرحيات الست التي مثلتِها من قبل .. لم تعقب سلوى، وضحكت وهي تتذكر المسئول الكبير ـ المعجب بها والذي يُطاردها هاتفيا ـ والذي يجلس دائماً في الصف الأول .. ولا يُشاهد شيئاً من أدائها لأنه ينام ..
وقلتُ ضاحكاً:
ـ إذا تزوجتما .. فمن يمثل دورك في «ليلى والمجنون»؟!
ضحكت ..
وضحكنا .. وأغمضتُ عينيَّ لأفتحهما على ضابط وشرطيين .. يطلبان مني التوجه معهما إلى (لاظوغلي):
ـ خير؟
ـ سؤالان، وتعود إلى بروفاتك.
ولم أذهب للاظوغلي للتحقيق، وإنما إلى السجن مباشرة .. السجن الذي فيه صديقي القديم، وزميلي في منظمة الشباب: صبري عبده .. لنتشاجر، ونضحك، ونحزن! .. ونقضي معاً ستة أشهر .. مليئة بالحوار، والشجن، والعذاب!
4-لحظة الفاجعة:
هاهي قريتي الغافية لا تصحو على وقع خطوات ابنها الذي لم يزرها منذ عامٍ ونصف تقريباً.
رأيتُ أمي نائمة، لا تتحرك، ولا تفتح عينيها.
بدأ الحلم ينحسر .. الخارج ليس أقل شراسةً من السجن.
.. أخبرني أخي محمد أن أمي مصابة بجلطة منذ شهرين، وأنها لا تعي شيئاً ممّا يدورُ حولها، رغم عَرْضِها على أكثر من طبيب خاص .. فمستشفى القرية بدون طبيب! .. وأخبرني أن زوجته ماتت منذ عشرين يوماً ـ لماذا لم يصلني الخبر .. هل كنتُ بعيداً جدا؟ .. وهل السجن ناءٍ إلى هذا الحد؟ .. هل كنتُ في واق الواق؟ ـ وأخبرني أن ابنته الوحيدة تعمل الآن مدرسة في سلطنة عمان منذ تزوّجت في أواخر الصيف الماضي.
الساعة الرابعة صباحاً .. هل سأصلي الفجر في المسجد؟ .. أم أن الأفضل أن أُصلي في البيت حتى لا يراني أحد؟!!
...
...
صافرة عربة الشرطة تقطع الصمت!
.. لم أستمتع بهروبي ..
يبدو أن أسوار السجن الكبير تمتد بعرض الوطن وطوله!!
ديرب نجم 15/9/1983م