كان الوجوم يخيم على الجميع، لعله الاستيقاظ المبكر على غير العادة .. ثمة تثاؤبات تتسع لها الأفواه ، وأفراد من هنا وهناك لا يزالون ( يعركون ) أعينهم وهم يسترقون النظرات المتفحصة لنوعية المرافقين والمرافقات … اقترب منظم الرحلة من صديقي نادر – وكان صلة الوصل بيننا – وهمس في أذنه وهو يرمقنا بنظرات جانبية، ببعض الكلمات ، ثم انصرف بعد أن عاتبه صديقنا بحزم ، مؤكداً له عدم وجود مبرر للقلق من جهتنا ، وأننا نعتبر من ( النخبة ) في الكياسة وحسن السلوك ، فرسخ هذا التصرف من المشرف في أنفسنا مزيداً من الشعور (بالدونية) وكأننا طفيليون تسللوا إلى إحدى الموائد العامرة ، ولكننا ابتلعنا الأمر ببلاهة مصطنعة دون أي تعليق أو تظاهر بالتذمر فقد كنا على ثقة تامة من مبررات ريبته و بأن وضعنا كان (نشازاً) في هذه الرحلة ، بينما أدهشتني قدرة صديقي نادر في تصديه للدفاع عنا وحسمه الأمر بشكل رسم فيه بعضاً من الندم على وجه المشرف، مع أن صديقي يعرف تماماً مبررات هذه الشكوك، ولا أزال أذكر نشوته الغامرة عندما زف لي خبر تسجيل اسمي في عداد المشتركين بهذه الرحلة وقوله بأنها مختلفة عن غيرها، وأنها ستستمر ثلاثة أيام بكاملها - إلى الساحل السوري - ثلاثة أيام (بليلها ونهارها ) وأن الباص - باص الرحلة - من فضله تعالى ، سيعج بما - هب ودب - هذا ما أكده صديقي نادر، وكنت قد تماسكت قليلاً أول الأمر ، ولكن عندما أخذ يسترسل في الشرح عن الحيثيات ، ونوعية (المشتركين والمشتركات ) ، ومن مختلف الأشكال والألوان - يا ريان - والتخت الموسيقي وغيره ، أخذت أسارير وجهي تنفرج شيئاً فشيئاً حتى بدا مني السن الأخير ، ولكن سرعان ما تحولت تلك النشوة الغامرة إلى عبء ثقيل بعد أن تذكرت ما يعتريني من الإحباط في مثل هذه الأجواء ، وكيف يتحول صوتي الرنان مختنقاً أجشَّ ، وبديهتي المشهود لها بين الرفاق ، إلى تدخلات سمجة حتى تحولت كل هذه الأشياء إلى عقدة مستحكمة يصعب التخلص منها .
هكذا وبكل ما أحمله من إحباط وخيبة ، اتخذت مكاني صباح اليوم الموعود منزوياً في المؤخرة ، مع أربعة من الرفاق، وعاهدت النفس أن التزم دور المشاهد أو المشجع في أحسن الأحوال ، وأن أبتعد عن المسرح والحلبة والأضواء ما أمكن ، فحالتي لا تسمح بأي نكسة جديدة .
لم نكد نغادر ضواحي دمشق حتى بدأت الشمس بإرسال أولى خيوطها الذهبية على السفوح المحاذية للطريق ، وأخذت الحياة تدب بين الجميع، وراحت بعض الأسماء تصافح أسماعنا ، وتم تبادل التحيات عن قرب ، أو بإيماءة و ابتسامة عن بعد ، كما جرت بعض الضيافات من القهوة والشاي ، و كنا نحن خارج إطار هذه المجاملات ، ثم أخرج أحد الشبان – مزيكة – أخذ يرسل من خلالها الألحان الفيروزية ، ترافقه بعض الأصوات الأنثوية الخجلى ، فكان ذلك أشبه بعملية ( دوزان ) وهكذا أخذت تتضح معالم المشتركين، وجلهم من محترفي مثل هذه الرحلات ، من معلمين ومعلمات وغيرهم ، من الواقفين على أبواب الأقفاص الذهبية مابين عازم وواجم ومتربص ، وإذا استثنينا صديقنا نادر ، فقد بدونا نحن الأربعة أشبه بحلقة منفصلة عن الآخرين ، ومع أن الرحلة لم تكن عائلية بكل ما في الكلمة من معنى ، إلا أنها كانت خالية من الطيش والرعونة ، حتى خيل إلينا أننا أمام برنامج مسرحي مرسوم ، لا مجال لنا باختراقه .. ورغم بعض المحاولات اللاهثة من رفاقي فقد بقيت متحفظاً في انطلاقتي ، باراً بتعهدي السابق ، إضافة لما أصابني من انبهار بهذه الطبقة (المتبرجزة).
توقفنا قليلاً في منطقة النبك ، فتناولنا بعض المشروبات ثم تابعنا طريقنا باتجاه حمص ، ولكن هذه المرة على إيقاع الطبلة والعود وبعض الرقصات والألعاب الجماعية ، وهكذا بدأت العناصر الجديدة بالانصهار في البوتقة ، وبدأ الانسجام ، أو الرغبة في تحقيقه بادية على الجميع بما فيهم رفاقي الذين وجدوا لهم موطئ قدم في هذه ( الزحمة ) مما بعث في نفوسهم بعض النشوة والبهجة ، فقد نجحوا في التسلل بين الصفوف وتحقيق قدرٍ من الانسجام .
وعلى هذه الحال وصلنا - حمص - وتوقفنا في الميماس، ثم غادرناها بعد تناول الطعام باتجاه طرطوس حيث يفترض أن نقضي ليلتنا الأولى في أحضانها ، وعاد الصخب والمرح من جديد ليشمل الجميع ، وكان لمطرب الرحلة - وهو أستاذ للموسيقى - دوره المهم في ذلك فقد كان يتمتع بشخصية مرحة جذابة ، أما نجومية الرحلة من وجهة نظري فقد تجلت بفتاة جامعية في أوائل العقد الثالث من عمرها ، هذه الفتاة لم تكن مطربة ، بل لم تشارك في الغناء والرقص ، ولم تكن من ( طاقم الرحلة الأصلي ) ، بل كانت مشاركتها بدعوة من قريبة لها ، وقد لفتت هذه الفتاة الانتباه بأناقتها ورقتها وحسن تصرفها وعفويتها خلال مشاركتها بإحدى الألعاب الجماعية ، فأضفت على الرحلة جواً رومانسياً تهفو إليه الأرواح ، فما أن انتهت اللعبة واتخذت مكانها ، حتى غدا موضعها مركزاً للألق والتجمع لإظهار المواهب الدفينة لمعظم المشتركين ، وغص موقعها بالصفوة المعتدة بنفسها من الشبان الذين خرجوا بشكل لا شعوري عن بعض وقارهم وهم يخصونها وحدها بالاهتمام وأنواع الضيافات ، مما حدا ببقية الفتيات التخلي عن بعض التوازن المعهود والدخول في استعراضات منافسـة ، وهكذا حمي الوطيس وغرق الجميع في الصخب والنشوة ، مما جعلني أبذل جهداً مضاعفاً للاحتفاظ بنفسي بعيداً عن هذا المهرجان الساحر رغم كل ما كان يعصف بفؤادي من إحساس عجيب هز كياني من الأعماق ، ولا أدري لم غمرتني الفرحة عندما لم يلق ذلك الاهتمام المكثف الاستجابة المطلوبة من تلك الحلوة ، بل استطاعت ببراعة فائقة أن تتخلص من تلك التطفلات ، فبدت متمكنة من نفسها مما زادها بهاءً وألقاً ، وهكذا استطاعت أن تعيد جو الرحلة إلى الحالة الجماعية بعـد أن تركت غصة في معظم القلوب، وفي هذا الجو المشبوب بالعاطفة الجياشة ، وصلنا طرطوس ، وانتشرنا فيها (كيفياً) لنقضي ليلتنا بعد أن حددنا موعد اللقاء صباح اليوم الثاني .
وفي طرطوس عروس الشاطئ وخاشعة الروابي ، حيث يلتقي البحر بالجبل أمضيت تلك الليلة مع رفاقي الأربعة في بيت جميل مطل على البحر ، وكانت ليلة عامرة بالطعام والشراب ، لم يكف الرفاق خلالها عن الهرج والمرج واستعراض أمجادهم (الدونجوانية ) حتى أنهم تمادوا في بعض الاتهامات التي تنعتني بالسلبية والانعزالية، ومع أن صورة تلك الفتاة ( نجمة الرحلة ) لم تبرح مخيلتي باعثة في نفسي سحراً مشوباً بالحسرة، فقد كنت في واقع الأمر مفعماً بالغبطة والسرور ، وراضياً تماماً عن تصرفاتي بعد أن لحق الجميع بعضٌ من صدودها ، إضافة لما أصبته من اهتمام وانفتاح ممن حولي من الفتيات اللواتي أُعجبن بتوازني وتماسكي في مرحلة الانبهار التي شملت الآخرين ، فحسبن ذلك تميزاً ووقاراً ، حتى أن إحداهن ألمحت بشكل مبهم إلى إعجابها برصانتي وحسن تصرفي . ومع أن مثل هذه العبارات كان لها أن تفعل سحرها في نفسي في الظروف العادية ، ولكنها هذه المرة ، مرت بي مرور الكرام فقد كنت أتطلع بشكل لا شعوري إلى القمة الصعبة التي تعلقت بها أنظار الجميع في ذلك الحين .
صباح اليوم الثاني اتخذت موضعي المعهود الذي كان حافلاً بمجموعة من الفتيات الوديعات ، وقد أسعدني أن أحظى منهن باستقبال حسن رأيت فيه ما يكفي لإغاظة رفاقي الذين أخذوا يتغامزون فيما بينهم ، وقد أخذهم العجب والريبة في أمر هذا (السلبود ) الذي يتحرك في الظلام متظاهراً بالوداعة والصفاء و لولا ما تعاهدنا عليه من وجوب الاحترام المتبادل أمام الآخرين لكان لهم معي على ما أعتقد شأن آخر ، وهنا تدخل منظم الرحلة وأخرجنا مما نحن فيه عندما وقف معلناً عن لعبة جديدة – بدا متحمساً لها – وكان قد انتقى بعض العناصر فأعلن عن الحاجة إلى متطوع للدور الرئيسي ، فما كاد ينتهي من كلامه حتى ارتفعت مجموعة من الأيدي لبعض الفتيات من حولي تطالب بأن أكون ذلك المشترك ، وتوجهت الأنظار نحوي فلم أجد بداً من الاستجابة .
كان الدور الذي أوكل الي حساساً للغاية ، ويبدو أنه قد تهرب منه الجميع ، فقـد كان علي أن اخفي رأسي بقناع يحجب الرؤيـة تماماً بدلاً عن (العصابة ) وأن أقوم بمقابلة جميع الركاب - بعد تبديل أماكنهم - والإجابة على الأسئلة المسحوبة من - كيس الحظ - بحرفيتها المحرجة ، فكنت أول المندهشين وأنا أسمع كيف انفجرت الضحكات العفوية من الجميع عند أول مقابلة ، ويبدو أن إخفاء وجهي بذلك القناع قد فعل فعله في إبعاد الخجل وحل عقدة اللسان ، فتفجر معها كل ما في أعماقي من مواهب مكبوتة منذ أمد طويل ، كما أعطتني تلك الاستجابات السريعة الحارة ثقة وثباتاً في إتقان ما أقوم به … وفجأة وخلال تلك اللقاءات الصاخبة ، أحسست بأن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي ، فقد سمعت رنة ذلك الصوت الذي لا تخطئ الأذن تمييزه ، وتأكد لي ذلك عندما علت بعض الأصوات الناعمة طالبة مني تحسس الهدف باليدين وذلك لإضفاء المزيد من الحرج على الموقف الساخن ولكن لم أفعل ، بل قلت : هذه المرة لا طاقة لي على ذلك وأشـعر أني في منـطقة خـطر ( للتوتر العالي ) فانطلقت لأول مرة ضحكة رنانة على سجيتها من تلك الفتاة كان وقعها على قلبي ألذ من الماء القراح على قلب الصادي، وضج الجميع بالتصفيق ، وهكذا انتهت اللعبة بمولد مشروع نجم ( رحلوي ) جديد، ومع ذلك لم أدرك حقيقة نجاحي إلا عندما رأيت حجم الدهشة والوجوم في وجوه (شلّتي ) المنكودة .
لم أكن قبل ذلك أصدق ما يقال عن ذلك الشيء الذي يحصل من أول نظرة أو أول لقاء ولكن خلال توقفنا في منطقة ساحرة خلابة عند نهر السن، أحسست بأن دماءً جديدة بدأت تسري في عروقي ، وان شيئاً غريباً عجيباً أخذ يهزني من الأعماق ، وشعرت بحاجة للانفراد بنفسي قليلاً لعلي أهضم وأستوعب ما حصل من انقلاب في حياتي وأتمثل شيئاً من حجم النشوة التي تنتابني – حتى أنها بدأت تقلقني وتدفع بي نحو المجهول – ولكن الحافلة آذنت بالمسير … ولأول مرة نسيت الهروب المعتاد ، فصعدت إلى الحافلة من الباب الأمامي ، وهذه شجاعة لم أعهدها في تصرفاتي من قبل … فقد كنت بحاجة لإلقاء نظرة – وجهاً لوجه – إلى تلك الانسانة التي خفق لها فؤادي ، بل عصفت به فتركتني لا ألوي على شيء ، نظرة واحدة فقط… هكذا حدثتني نفسي ، و لم أستطع تجاوز هذه الرغبة الملحة… هذه النظرة كان لا بد منها بالنسبة لي ، و إذا بدا لي أني كنت واهماً فيما كنت أطمح إليه فسأعود بعدها للانزواء من جديد .. انزواء حقيقي مختلف عن ذلك الذي تحدثت عنه أول الأمر راضياً بقدري فقد أفرغت كل ما في جعبتي … ورغم هذا الإصرار الواثق العجيب على تلك المواجهة المرجوة ، لا أدري لِمَ تعجلت عند تخطي مقعدها ، حتى أني لم أستطع تمييز ذلك الشيء الذي قبض على طرف سترتي من جهتها وجذبني بشدة نحوها ، وبذلت جهداً كبيراً للتأكد مما يجري … فإذا بها تفسح لي مكاناً للجلوس بجانبها ، فارتميت كمن يسقط من دوّامة … لم أستطع أن أستوعب ما حصل… كان ذلك أكثر مما أستطيع أن أدركه في ذلك الحين .. حاولت الكلام ، فأشارت لي بيدها أن لا داعي لذلك … ثم أطبقت بنانها بما يفيد التريث … بقينا فترة من الزمن صامتين ، كدت خلالها أغيب عن الوجود… ولكن الوقت أخذ يمضي ، وهدأ شيء من روعي .
كان الوضع حرجاً للغاية … لكم خشيت أن تكون تلك المبادرة ، لمجرد سؤال عابر، أعود بعده لصحرائي المقحلة ! ولكنها لم تسأل شيئاً ، وحسماً لذلك - التوجس المرعب - ألقيت بين يديها مرة واحدة كل ما لدي من أوراق … وتبادلنا بعض الإيضاحات عن ظروفنا الشخصية والعائلية ، كنت صادقاً إلى أبعد الحدود .. وعرفت فيما بعد أنها طمست الكثير مما لديها من إيجابيات لتحقق التوازن المطلوب ، كما عرفت أيضاً ما بذلته من جهدٍ لتخليص سترتي عندما علقت بمقعدها خلال تلك الفترة الحرجة ، وإن ما جذبني نحوها لم تكن يدها وإنما كانت يد القدر … وعندما كنت أقف - كما في الحلم - بين أفراد أسرتها مع لفيف من الأهل والأصدقاء لأضع خاتم الخطوبة في بنصرها تعثرت يداي قليلاً ، فقد كان حجم الفرحة في أعماقي فوق ما يمكن الإحاطة به ، فأسفرت شفتاها عن ابتسامة محببة وهي تقول : إنك بحاجة إلى ذلك القناع من جديد .
هكذا وبكل ما أحمله من إحباط وخيبة ، اتخذت مكاني صباح اليوم الموعود منزوياً في المؤخرة ، مع أربعة من الرفاق، وعاهدت النفس أن التزم دور المشاهد أو المشجع في أحسن الأحوال ، وأن أبتعد عن المسرح والحلبة والأضواء ما أمكن ، فحالتي لا تسمح بأي نكسة جديدة .
لم نكد نغادر ضواحي دمشق حتى بدأت الشمس بإرسال أولى خيوطها الذهبية على السفوح المحاذية للطريق ، وأخذت الحياة تدب بين الجميع، وراحت بعض الأسماء تصافح أسماعنا ، وتم تبادل التحيات عن قرب ، أو بإيماءة و ابتسامة عن بعد ، كما جرت بعض الضيافات من القهوة والشاي ، و كنا نحن خارج إطار هذه المجاملات ، ثم أخرج أحد الشبان – مزيكة – أخذ يرسل من خلالها الألحان الفيروزية ، ترافقه بعض الأصوات الأنثوية الخجلى ، فكان ذلك أشبه بعملية ( دوزان ) وهكذا أخذت تتضح معالم المشتركين، وجلهم من محترفي مثل هذه الرحلات ، من معلمين ومعلمات وغيرهم ، من الواقفين على أبواب الأقفاص الذهبية مابين عازم وواجم ومتربص ، وإذا استثنينا صديقنا نادر ، فقد بدونا نحن الأربعة أشبه بحلقة منفصلة عن الآخرين ، ومع أن الرحلة لم تكن عائلية بكل ما في الكلمة من معنى ، إلا أنها كانت خالية من الطيش والرعونة ، حتى خيل إلينا أننا أمام برنامج مسرحي مرسوم ، لا مجال لنا باختراقه .. ورغم بعض المحاولات اللاهثة من رفاقي فقد بقيت متحفظاً في انطلاقتي ، باراً بتعهدي السابق ، إضافة لما أصابني من انبهار بهذه الطبقة (المتبرجزة).
توقفنا قليلاً في منطقة النبك ، فتناولنا بعض المشروبات ثم تابعنا طريقنا باتجاه حمص ، ولكن هذه المرة على إيقاع الطبلة والعود وبعض الرقصات والألعاب الجماعية ، وهكذا بدأت العناصر الجديدة بالانصهار في البوتقة ، وبدأ الانسجام ، أو الرغبة في تحقيقه بادية على الجميع بما فيهم رفاقي الذين وجدوا لهم موطئ قدم في هذه ( الزحمة ) مما بعث في نفوسهم بعض النشوة والبهجة ، فقد نجحوا في التسلل بين الصفوف وتحقيق قدرٍ من الانسجام .
وعلى هذه الحال وصلنا - حمص - وتوقفنا في الميماس، ثم غادرناها بعد تناول الطعام باتجاه طرطوس حيث يفترض أن نقضي ليلتنا الأولى في أحضانها ، وعاد الصخب والمرح من جديد ليشمل الجميع ، وكان لمطرب الرحلة - وهو أستاذ للموسيقى - دوره المهم في ذلك فقد كان يتمتع بشخصية مرحة جذابة ، أما نجومية الرحلة من وجهة نظري فقد تجلت بفتاة جامعية في أوائل العقد الثالث من عمرها ، هذه الفتاة لم تكن مطربة ، بل لم تشارك في الغناء والرقص ، ولم تكن من ( طاقم الرحلة الأصلي ) ، بل كانت مشاركتها بدعوة من قريبة لها ، وقد لفتت هذه الفتاة الانتباه بأناقتها ورقتها وحسن تصرفها وعفويتها خلال مشاركتها بإحدى الألعاب الجماعية ، فأضفت على الرحلة جواً رومانسياً تهفو إليه الأرواح ، فما أن انتهت اللعبة واتخذت مكانها ، حتى غدا موضعها مركزاً للألق والتجمع لإظهار المواهب الدفينة لمعظم المشتركين ، وغص موقعها بالصفوة المعتدة بنفسها من الشبان الذين خرجوا بشكل لا شعوري عن بعض وقارهم وهم يخصونها وحدها بالاهتمام وأنواع الضيافات ، مما حدا ببقية الفتيات التخلي عن بعض التوازن المعهود والدخول في استعراضات منافسـة ، وهكذا حمي الوطيس وغرق الجميع في الصخب والنشوة ، مما جعلني أبذل جهداً مضاعفاً للاحتفاظ بنفسي بعيداً عن هذا المهرجان الساحر رغم كل ما كان يعصف بفؤادي من إحساس عجيب هز كياني من الأعماق ، ولا أدري لم غمرتني الفرحة عندما لم يلق ذلك الاهتمام المكثف الاستجابة المطلوبة من تلك الحلوة ، بل استطاعت ببراعة فائقة أن تتخلص من تلك التطفلات ، فبدت متمكنة من نفسها مما زادها بهاءً وألقاً ، وهكذا استطاعت أن تعيد جو الرحلة إلى الحالة الجماعية بعـد أن تركت غصة في معظم القلوب، وفي هذا الجو المشبوب بالعاطفة الجياشة ، وصلنا طرطوس ، وانتشرنا فيها (كيفياً) لنقضي ليلتنا بعد أن حددنا موعد اللقاء صباح اليوم الثاني .
وفي طرطوس عروس الشاطئ وخاشعة الروابي ، حيث يلتقي البحر بالجبل أمضيت تلك الليلة مع رفاقي الأربعة في بيت جميل مطل على البحر ، وكانت ليلة عامرة بالطعام والشراب ، لم يكف الرفاق خلالها عن الهرج والمرج واستعراض أمجادهم (الدونجوانية ) حتى أنهم تمادوا في بعض الاتهامات التي تنعتني بالسلبية والانعزالية، ومع أن صورة تلك الفتاة ( نجمة الرحلة ) لم تبرح مخيلتي باعثة في نفسي سحراً مشوباً بالحسرة، فقد كنت في واقع الأمر مفعماً بالغبطة والسرور ، وراضياً تماماً عن تصرفاتي بعد أن لحق الجميع بعضٌ من صدودها ، إضافة لما أصبته من اهتمام وانفتاح ممن حولي من الفتيات اللواتي أُعجبن بتوازني وتماسكي في مرحلة الانبهار التي شملت الآخرين ، فحسبن ذلك تميزاً ووقاراً ، حتى أن إحداهن ألمحت بشكل مبهم إلى إعجابها برصانتي وحسن تصرفي . ومع أن مثل هذه العبارات كان لها أن تفعل سحرها في نفسي في الظروف العادية ، ولكنها هذه المرة ، مرت بي مرور الكرام فقد كنت أتطلع بشكل لا شعوري إلى القمة الصعبة التي تعلقت بها أنظار الجميع في ذلك الحين .
صباح اليوم الثاني اتخذت موضعي المعهود الذي كان حافلاً بمجموعة من الفتيات الوديعات ، وقد أسعدني أن أحظى منهن باستقبال حسن رأيت فيه ما يكفي لإغاظة رفاقي الذين أخذوا يتغامزون فيما بينهم ، وقد أخذهم العجب والريبة في أمر هذا (السلبود ) الذي يتحرك في الظلام متظاهراً بالوداعة والصفاء و لولا ما تعاهدنا عليه من وجوب الاحترام المتبادل أمام الآخرين لكان لهم معي على ما أعتقد شأن آخر ، وهنا تدخل منظم الرحلة وأخرجنا مما نحن فيه عندما وقف معلناً عن لعبة جديدة – بدا متحمساً لها – وكان قد انتقى بعض العناصر فأعلن عن الحاجة إلى متطوع للدور الرئيسي ، فما كاد ينتهي من كلامه حتى ارتفعت مجموعة من الأيدي لبعض الفتيات من حولي تطالب بأن أكون ذلك المشترك ، وتوجهت الأنظار نحوي فلم أجد بداً من الاستجابة .
كان الدور الذي أوكل الي حساساً للغاية ، ويبدو أنه قد تهرب منه الجميع ، فقـد كان علي أن اخفي رأسي بقناع يحجب الرؤيـة تماماً بدلاً عن (العصابة ) وأن أقوم بمقابلة جميع الركاب - بعد تبديل أماكنهم - والإجابة على الأسئلة المسحوبة من - كيس الحظ - بحرفيتها المحرجة ، فكنت أول المندهشين وأنا أسمع كيف انفجرت الضحكات العفوية من الجميع عند أول مقابلة ، ويبدو أن إخفاء وجهي بذلك القناع قد فعل فعله في إبعاد الخجل وحل عقدة اللسان ، فتفجر معها كل ما في أعماقي من مواهب مكبوتة منذ أمد طويل ، كما أعطتني تلك الاستجابات السريعة الحارة ثقة وثباتاً في إتقان ما أقوم به … وفجأة وخلال تلك اللقاءات الصاخبة ، أحسست بأن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي ، فقد سمعت رنة ذلك الصوت الذي لا تخطئ الأذن تمييزه ، وتأكد لي ذلك عندما علت بعض الأصوات الناعمة طالبة مني تحسس الهدف باليدين وذلك لإضفاء المزيد من الحرج على الموقف الساخن ولكن لم أفعل ، بل قلت : هذه المرة لا طاقة لي على ذلك وأشـعر أني في منـطقة خـطر ( للتوتر العالي ) فانطلقت لأول مرة ضحكة رنانة على سجيتها من تلك الفتاة كان وقعها على قلبي ألذ من الماء القراح على قلب الصادي، وضج الجميع بالتصفيق ، وهكذا انتهت اللعبة بمولد مشروع نجم ( رحلوي ) جديد، ومع ذلك لم أدرك حقيقة نجاحي إلا عندما رأيت حجم الدهشة والوجوم في وجوه (شلّتي ) المنكودة .
لم أكن قبل ذلك أصدق ما يقال عن ذلك الشيء الذي يحصل من أول نظرة أو أول لقاء ولكن خلال توقفنا في منطقة ساحرة خلابة عند نهر السن، أحسست بأن دماءً جديدة بدأت تسري في عروقي ، وان شيئاً غريباً عجيباً أخذ يهزني من الأعماق ، وشعرت بحاجة للانفراد بنفسي قليلاً لعلي أهضم وأستوعب ما حصل من انقلاب في حياتي وأتمثل شيئاً من حجم النشوة التي تنتابني – حتى أنها بدأت تقلقني وتدفع بي نحو المجهول – ولكن الحافلة آذنت بالمسير … ولأول مرة نسيت الهروب المعتاد ، فصعدت إلى الحافلة من الباب الأمامي ، وهذه شجاعة لم أعهدها في تصرفاتي من قبل … فقد كنت بحاجة لإلقاء نظرة – وجهاً لوجه – إلى تلك الانسانة التي خفق لها فؤادي ، بل عصفت به فتركتني لا ألوي على شيء ، نظرة واحدة فقط… هكذا حدثتني نفسي ، و لم أستطع تجاوز هذه الرغبة الملحة… هذه النظرة كان لا بد منها بالنسبة لي ، و إذا بدا لي أني كنت واهماً فيما كنت أطمح إليه فسأعود بعدها للانزواء من جديد .. انزواء حقيقي مختلف عن ذلك الذي تحدثت عنه أول الأمر راضياً بقدري فقد أفرغت كل ما في جعبتي … ورغم هذا الإصرار الواثق العجيب على تلك المواجهة المرجوة ، لا أدري لِمَ تعجلت عند تخطي مقعدها ، حتى أني لم أستطع تمييز ذلك الشيء الذي قبض على طرف سترتي من جهتها وجذبني بشدة نحوها ، وبذلت جهداً كبيراً للتأكد مما يجري … فإذا بها تفسح لي مكاناً للجلوس بجانبها ، فارتميت كمن يسقط من دوّامة … لم أستطع أن أستوعب ما حصل… كان ذلك أكثر مما أستطيع أن أدركه في ذلك الحين .. حاولت الكلام ، فأشارت لي بيدها أن لا داعي لذلك … ثم أطبقت بنانها بما يفيد التريث … بقينا فترة من الزمن صامتين ، كدت خلالها أغيب عن الوجود… ولكن الوقت أخذ يمضي ، وهدأ شيء من روعي .
كان الوضع حرجاً للغاية … لكم خشيت أن تكون تلك المبادرة ، لمجرد سؤال عابر، أعود بعده لصحرائي المقحلة ! ولكنها لم تسأل شيئاً ، وحسماً لذلك - التوجس المرعب - ألقيت بين يديها مرة واحدة كل ما لدي من أوراق … وتبادلنا بعض الإيضاحات عن ظروفنا الشخصية والعائلية ، كنت صادقاً إلى أبعد الحدود .. وعرفت فيما بعد أنها طمست الكثير مما لديها من إيجابيات لتحقق التوازن المطلوب ، كما عرفت أيضاً ما بذلته من جهدٍ لتخليص سترتي عندما علقت بمقعدها خلال تلك الفترة الحرجة ، وإن ما جذبني نحوها لم تكن يدها وإنما كانت يد القدر … وعندما كنت أقف - كما في الحلم - بين أفراد أسرتها مع لفيف من الأهل والأصدقاء لأضع خاتم الخطوبة في بنصرها تعثرت يداي قليلاً ، فقد كان حجم الفرحة في أعماقي فوق ما يمكن الإحاطة به ، فأسفرت شفتاها عن ابتسامة محببة وهي تقول : إنك بحاجة إلى ذلك القناع من جديد .