1
الشَّارع كرنقال غامض، الآلاف من ضروب الأشياء … سيارات بزعيقها الصَّاخب، تتعالى الزَّعقات الممجوجة مع أصوات العجلات السَّمجة، فتتجمَّع في ساحاتِ الرُّوح كغيومٍ سوداء، فتعكِّرها. البشر نهرٌ متدفِّق، والجُّموع تدبُّ صاخبة، حركات متعاكسة ذهاباً وإياباً، وجوهٌ ترتسم فوق رمال الذَّاكرة وتنمحي بسرعة فائقة …
2
عند زاوية المقهى أمسكني وجه غريب الشَّكل، غريب التَّصرف، فتسمَّرتُ في مكاني كشجرةٍ أزهرتْ للتوِّ.
كان وجهه شاحباً مائلاً إلى التُّرابي المحروق، من الواضح أنَّ الشَّمس والغبار قد لوَّناه، شعره طويل ومجدول كالهنود الحمر، وذقنه كالمتصوِّفين المنبوذين، وفوق جبهته تنسلُّ ببطء قنوات صغيرة من العرق نحو خدَّيه، ويديه السُّهول المحروثة للتوِّ، بها صرخة الإشتياق للمطر وفي عينيه تلمع شمس صغيرة مشتعلة بالفرحة.
ثيابه ملوَّنة ببقع العرق النَّاشف والغبار، حافي القدمين لونهما من لون الطِّين.
3
كان قد علَّق حول خصره كيساً مملوءاً بـ (حبَّات السُّكَّر الحمراء). حبَّات السُّكُّر الحمراء الَّتي يوزِّعها النَّاس على الأطفال أيام الأعياد. لا يترك أحداً من المارّة إلا ويعطيه حبّة سكر، أذهلتني حركاته وهو يتقدَّم ويتراجع بسرعة فائقة كلاعب كرة السلّة.
هل يعتقد أنَّنا أطفال، ولازلنا نحبُّ سكاكر العيد؟ بينَ حينٍ وآخر كان يصرخ بأعلى صوته: “اِفرحوا لعن الله الدَّبَّابة”، وبعدها يطلق ضحكة قويّة تمتدُّ وتمتدُّ كما تمتدُّ أمام العين الحقول المملوءة بالزُّهور.
4
إنسلَّتْ فرحة نحو روحي كخيوط الشَّمس عند أوَّل الفجر، فبدَّدت الظُّلمة من سراديبها فتوارت لوحات الشَّارع الصَّاخبة من أمام العين، وخارت بعض كآبات النَّفس.
وغابت قليلاً المدينة العابثة المكتظَّة بالحرِّ والنَّاس والسِّيارات، المدينة الَّتي كساها الجُّوع وبنى الفقراء بيوتهم كما العناكب بنت أعشاشها، والحرب لوَّنت الوجوه بالأسود والأحمر.
رسيتُ مكاني والفرح يرقص وأنا أراقب حركاته، كان يستغل أحياناً وقوف السِّيارات ثمَّ يرشُّ للركاب حبَّاته الحمراء وهو يصرخ: “اِفرحوا لعن الله الدّبابة والحرب”..
تخيَّلتُ روحة مملوءة بالقرنفل والياسمين والحرائق…
5
ناولني حبَّة السُّكَّر فجرفني نهر السُّرور وحملني الى غابة بتول، .. سأقبِّله، بصوت مسموع قلت: سأقبِّله.
ولكن أحدهم جرَّني من يدي وهمس: “إنّه مجنون”.
قلت: ليست مشكلة، سأقبّله.
أراد إقناعي فأضاف قائلاً: “النَّاس تتصدَّق عليه ويرجع يشتري هذه السَّكاكر ويوزَّعها على النَّاس… إنّه مجنون، أصيب بالحرب بالجُّنون..”.
الرَّجل الجَّميل سمع صوته ولهذا زأر بصوت ممزوج بالإستنكار والسُّخرية: أنا مجنون، أنا مجنون؟ لا لا.
وبسرعته المعهودة عاد لتوزيع حبَّاته، .. المارّة كرنفال لا ينتهي وحبَّات السُّكَّر لا تنتهي.
تارةً ترتسم على الملامح سخرية بشعة، وتارة ترتسم فرحة طفوليّة، كانت قد ركنت في زوايا الرُّوح … الأطفال يرقصون حول كيسه، يعطيهم حبَّات السُّكر ويقبِّلهم بسرعة خاطفة، فيترك في قلوبهم قرنفلة، ويحذِّرهم: “لا تذهبوا للحرب لعن الله الدَّبَّابة”.
النِّساء تفرُّ منه كالعصافير ولكن يرمي حبَّاته خلفهنَّ، لأنّه لا يأبه إلا أن يعانقهنَّ بحبَّاته، قال له فرحي: سأقبِّلُكَ.
أعطاني خدّه السُّهول الفسيحة، قبَّلته فإمتلأت روحي بعبق الزُّهور…
كابي سارة
قاصّ وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
الشَّارع كرنقال غامض، الآلاف من ضروب الأشياء … سيارات بزعيقها الصَّاخب، تتعالى الزَّعقات الممجوجة مع أصوات العجلات السَّمجة، فتتجمَّع في ساحاتِ الرُّوح كغيومٍ سوداء، فتعكِّرها. البشر نهرٌ متدفِّق، والجُّموع تدبُّ صاخبة، حركات متعاكسة ذهاباً وإياباً، وجوهٌ ترتسم فوق رمال الذَّاكرة وتنمحي بسرعة فائقة …
2
عند زاوية المقهى أمسكني وجه غريب الشَّكل، غريب التَّصرف، فتسمَّرتُ في مكاني كشجرةٍ أزهرتْ للتوِّ.
كان وجهه شاحباً مائلاً إلى التُّرابي المحروق، من الواضح أنَّ الشَّمس والغبار قد لوَّناه، شعره طويل ومجدول كالهنود الحمر، وذقنه كالمتصوِّفين المنبوذين، وفوق جبهته تنسلُّ ببطء قنوات صغيرة من العرق نحو خدَّيه، ويديه السُّهول المحروثة للتوِّ، بها صرخة الإشتياق للمطر وفي عينيه تلمع شمس صغيرة مشتعلة بالفرحة.
ثيابه ملوَّنة ببقع العرق النَّاشف والغبار، حافي القدمين لونهما من لون الطِّين.
3
كان قد علَّق حول خصره كيساً مملوءاً بـ (حبَّات السُّكَّر الحمراء). حبَّات السُّكُّر الحمراء الَّتي يوزِّعها النَّاس على الأطفال أيام الأعياد. لا يترك أحداً من المارّة إلا ويعطيه حبّة سكر، أذهلتني حركاته وهو يتقدَّم ويتراجع بسرعة فائقة كلاعب كرة السلّة.
هل يعتقد أنَّنا أطفال، ولازلنا نحبُّ سكاكر العيد؟ بينَ حينٍ وآخر كان يصرخ بأعلى صوته: “اِفرحوا لعن الله الدَّبَّابة”، وبعدها يطلق ضحكة قويّة تمتدُّ وتمتدُّ كما تمتدُّ أمام العين الحقول المملوءة بالزُّهور.
4
إنسلَّتْ فرحة نحو روحي كخيوط الشَّمس عند أوَّل الفجر، فبدَّدت الظُّلمة من سراديبها فتوارت لوحات الشَّارع الصَّاخبة من أمام العين، وخارت بعض كآبات النَّفس.
وغابت قليلاً المدينة العابثة المكتظَّة بالحرِّ والنَّاس والسِّيارات، المدينة الَّتي كساها الجُّوع وبنى الفقراء بيوتهم كما العناكب بنت أعشاشها، والحرب لوَّنت الوجوه بالأسود والأحمر.
رسيتُ مكاني والفرح يرقص وأنا أراقب حركاته، كان يستغل أحياناً وقوف السِّيارات ثمَّ يرشُّ للركاب حبَّاته الحمراء وهو يصرخ: “اِفرحوا لعن الله الدّبابة والحرب”..
تخيَّلتُ روحة مملوءة بالقرنفل والياسمين والحرائق…
5
ناولني حبَّة السُّكَّر فجرفني نهر السُّرور وحملني الى غابة بتول، .. سأقبِّله، بصوت مسموع قلت: سأقبِّله.
ولكن أحدهم جرَّني من يدي وهمس: “إنّه مجنون”.
قلت: ليست مشكلة، سأقبّله.
أراد إقناعي فأضاف قائلاً: “النَّاس تتصدَّق عليه ويرجع يشتري هذه السَّكاكر ويوزَّعها على النَّاس… إنّه مجنون، أصيب بالحرب بالجُّنون..”.
الرَّجل الجَّميل سمع صوته ولهذا زأر بصوت ممزوج بالإستنكار والسُّخرية: أنا مجنون، أنا مجنون؟ لا لا.
وبسرعته المعهودة عاد لتوزيع حبَّاته، .. المارّة كرنفال لا ينتهي وحبَّات السُّكَّر لا تنتهي.
تارةً ترتسم على الملامح سخرية بشعة، وتارة ترتسم فرحة طفوليّة، كانت قد ركنت في زوايا الرُّوح … الأطفال يرقصون حول كيسه، يعطيهم حبَّات السُّكر ويقبِّلهم بسرعة خاطفة، فيترك في قلوبهم قرنفلة، ويحذِّرهم: “لا تذهبوا للحرب لعن الله الدَّبَّابة”.
النِّساء تفرُّ منه كالعصافير ولكن يرمي حبَّاته خلفهنَّ، لأنّه لا يأبه إلا أن يعانقهنَّ بحبَّاته، قال له فرحي: سأقبِّلُكَ.
أعطاني خدّه السُّهول الفسيحة، قبَّلته فإمتلأت روحي بعبق الزُّهور…
كابي سارة
قاصّ وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم