ميسلون هادي - فوتو كوبي.. قصة قصيرة

بدأت القصة عام 1963، عندما عثر علماء الآثار داخل قلعة (مسعدة)، الواقعة على الساحل الغربي للبحر الميت، على مخازن تحتوي على كميات من نوى البلح القديمة تركها اليهود المنتحرون فوق حصون القلعة، تأكيدا منهم على أنهم لم ينتحروا جوعاً، وانما لتسجيل موقف تاريخي أثناء حصار تلك القلعة من قبل الرومان قبل ألفي عام، فقيل إنهم فضلوا الموت على أن يصبحوا عبيداً لدى الغزاة.
تلك اسطورة تحولت إلى رمز من رموز البطولة في الميثولوجيا العبرية، وتحول أولئك الحماة المنتحرون على أسوار القلعة إلى ابطال تخلدهم الاقوال والحكايات، أما نوى البلح الذي تم العثور عليه في مخازنهم، فقد ظل متروكاً لمدة أربعين عاماً في درج من ادراج عالم النبات موردخاي من جامعة بار ايلان ، ولم يكن ليتحول في العام 2003 إلى انجاز خارق لولا فكرة أمرأة هي عالمة النبات سارة سالون، التي قالت لموردخاي ذات يوم:
– هذه البذور التي في الدرج لماذا لا نزرعها؟
ابتسم موردخاي ولم يعلق في البداية ولكنه قال قبل أن تخرج سارة من مكتبه:
– هذا ما أفكر فيه منذ زمن طويل ولكن لنسأل أولاً في ذلك .
قالت سارة تضحك:
– ومن قال أني لم أفعل.
ومن فورها ذهبت المس سالون الى الخبير الزراعي ايلون سلودي من جامعة القدس، وسألته ان كان بأمكانه البدء بزراعة ذلك النوى الذي كانت قد أطلعته عليه من قبل، فتحمس ايلون لذلك وذهب معها الى مكتب موردخاي وهو غارق في الصمت ، يفكر بأنه ليست ثمة تجارب كثيرة خاضت في هذا المجال من قبل والتجربة الوحيدة التي اطلع عليها وتأكد منها، هي تجربة عالم النبات الامريكي شين جين ميلر من جامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس وقد سجل انجازه عام 1995 من انبات شجرة لوتس من بذرة عمرها الف وثلاثمائة عام………. تلك كانت أقدم بذرة استنبتت في حدود علمه، أما نوى نخل مسعدة الذي بين يديه فعمره ألفا عام وهو الاقدم بالتأكيد من بذور اللوتس . هنا خرج ايلون من صمته بعد تفكير طويل وقال لسارة:
– هذا النوى عمره ألفا عام أليس كذلك؟
قات سارة:
– تقريبا. وقد تم التعرف على تاريخه بواسطة الفحص الكربوني الذي أكد انه يعود إلى إلى العام 73 بعد ميلاد المسيح.
ترى أية معجزة تلك التي ستجعله ينمو من جديد قال أيلون لنفسه ، وهو يقلب النوى بين يديه ليجده لايختلف عن أية نواة بلح يمكن الحصول عليها في الوقت الحاضر، ولكن مع الفرق بان الأولى مقطوعة عن اسلافها وعاطلة عن التكاثر منذ الاف السنين .
مضت أيام قليلة كانت فيه أفكار أيلون تتكون وتنمو لتخلق أفكاراً أخرى استتبت في نهاية الأمر على وضع ذلك النوى في المياه الساخنة لتليينه وجعله قادرا على امتصاص السوائل من جديد بعد فترة كمون استمرت ألفي سنة ، وبين فكرة جيدة واخرى أفضل منها، تتابعت التجارب على ذلك النوى ، وتوالت عليه أنواع السوائل والمحاليل التي رأى ايلون أن بامكانها انعاش الحياة وبعثها في هذا البذر الأصم من جديد. وبعد الماء جاء الغذاء الذي تم التغلب على صعوبات ايصاله الى سويداءات النوى عن طريق الخلاصات المأخوذة من أنزيمات الاسمدة المصنوعة من الاعشاب البحرية، والتي كان سهلاً على النوى امتصاصها. وظل علماء النبات هكذا لمدة ثلاث سنوات يواصلون التجارب التي تنجح والعيون التي تراقب، والأفكار التي تنهمر حتى جاء يوم الخامس والعشرين من شهر يناير من العام 2005 فنقلت بذور النوى الى قوارير من الصلصال لعلها تنمو في التراب مكانها الطبيعي الذي كان يروى بانتظام، وعبر نظام تنقيط بالمياه العذبة تارة، والعكرة تارة اخرى. مرت الأيام والشهور بلا جديد يذكر ، غير تلك المتابعة اليومية الروتينية لتجربة يقول العلماء إن نسبة نجاحها هو واحد بالمليون.
وفي يوم طيب من أيام اذار من ربيع العام 2006، كانت سارة تلقي نظرتها اليومية على تلك القوارير وبينما هي تتجول بينها، جفلت عندما لاحظت تصدعاً في سطح التربة لواحدة منها، وعندما اقتربت أكثر من تلك القارورة أصابها الهلع وارتجف قلبها مما رأته هناك … وجدت برعماً طرياً ولامعاً قد شق له طريقاً الى الأعلى وأطل من فطر صغير بالتربة التي كانت ساكنة تماماً لمدة ثلاث سنوات. تلك المفاجأة المدهشة جعلت سارة سالون تقف صامتة لوقت طويل أمام ذلك البرعم الجديد لا تدري ماذا تفعل أو تقول عنه: أهو غض كطفل مولود للتو أم خارق كعملاق مريد، أم انها تحلم أو تتخيل ما تراه لشدة ما تمنته أن يحدث . قالت فيما بعد إنها شعرت بذلك البرعم يشبه اّلة الزمن عادت بها ألفين عاماً إلى الوراء لتجد نفسها واقفة بحذاء نخلة ربما هي نفسها التي استلقت تحتها مريم العذراء عندما جاءها المخاض.
– ذكر أم انثى؟
سألت سارة نفسها عدة مرات وتمنت بقوة أن يكون ذلك البرعم انثى لأنه يعني أن يطرح ثمراً يساعد على استمرارها.. واستئناف سلالتها التي دام انقطاعها زمناً طويلاً…. سيكون من المفرح أن يعاود ذلك الثمر دورته من جديد. تلك امنية من أماني النساء بحق، ومن غير الاناث يهمه الحياة ويحافظ عليها. ألسن هن أول من اكتشف الزراعة وأسرار الزراعة، وأليست سارة، وهي واحدة من النساء ،هي أول من نبهت الى ضرورة زرع نواة البلحة وعرضها على الخبير الزراعي في الاساس. تلك هي دائما مشاغل النساء العجائز منهن والانسات، بينما الرجال، يتقاتلون على مقربة من الجامعة، وتستطيع أن تراهم سواء من نافذة مختبرها، وهم يحملون السلاح ويطلقون النيران على بعضهم البعض، أو من على شاشات التلفزيون، وهم يشعلون الكوارث والحروب . فيا إلهي ما أشد عشقهم للسلاح، قالت سارة لنفسها، بينما العكس هو الصحيح مع النخيل حيث الأزهار المؤنثة ليس لها لون أو رائحة تجذب اليها الحشرات، أما الازهار المذكرة فعندما تنضج متوكها تخرج منها حبوب لقاح دقيقة ذات رائحة جميلة وجذابة جداً للنحل والحشرات. فما أجملها وماأعقلها هذه الاشجار وما أحلى أزهارها وأثمارها.
صديقتها الدكتورة زهراء التي تتحدث العربية قالت لها إنها قرأت مرة في كتاب العذراء رواية غريبة عن تسمية النخل تقول ان الله أمر الملائكة فوضعوا التراب الذي خلق منه اّدم في المنخل ونخلوه، فما كان منه لباباً صافياً أُخذ لطينة اّدم عليه السلام، ومابقي في المنخل خلق الله منه النخلة.
أطلق علماء المشروع الذي تبنى إنماء النوى الاثري، اسم(ميت هسيلة) على الشجرة الاولى المستنبتة من نواة بلح قلعة مسعدة في صحراء البحر الميت، وقالوا في مؤتمرهم الصحفي ، الذي عقدوه في العام2008 ، أي بعد أن أصبح طول النخلة أربعة أقدام، قالوا إن عليهم أن ينتظروا سبع سنوات من تاريخ زراعتها لكي تؤتي تلك الفسيلة ثمارها فيعرفون أنها انثى، أو لا تأتي ثمارها فيعرفون أنها ذكر. فالإثمار ، كما قالوا، يبدأ بعد أربع سنوات في الاشجار الناتجة عن فسيلة، وبعد فترة تتراوح من سبع الى عشر سنوات في الاشجار الناتجة عن البذور. ويستمر بعد ذلك عمرها الى مئة سنة. كما قالوا في ذلك المؤتمر أيضاً إن نخلة البلح ثنائية المسكن تنمو أزهارها المذكرة في شجرة والمؤنثة في شجرة أخرى، وأن لها نقطة نمو واحدة داخل الجذع متربعة عند قمته حيث يزداد طول النخلة كل عام بضعة سنتمرات لحين يصل طولها إلى حوالي أربعة وعشرين متراً في نهاية المطاف.
هذا هو فعلاً ما وصل اليه طول النخلة بعد عشرة أعوام حيث وضعت في محمية خاصة داخل الجامعة فأكل منها الجميع تمراً شهياً وتحقق لسارة ما تمنته في أن تكون نواة البلح لنخلة انثى لكي يستمر نسلها وتستمر معه الحياة، فالنار حرب والثمرة حياة.. هكذا تتطابق الاشياء مع نفسها، كما كانت سارة تقول كلما نظرت الى عثاكل التمر، وهذه هي دائما مشاغل النساء، بينما أخبار الرجال تقول غير ذلك وانشغالاتهم العدوانية انتهت بهم إلى ارسال عساكر الحرب لقصف مفاعل نووي كان قيد الانشاء بالطائرات، فرد عليهم أصحاب المفاعل، من مفاعل آخر مكتمل الانشاء، بصاروخ نووي عابر للقارات، جعل الأرض تشتعل تحت أقدام الجميع، فكان الانتحار الجماعي هذه المرة خياراً أجبارياً لجميع سكان البحر الميت وما حوله من صحارى وهضاب وسهول، بل وتطاير رذاذ الانفجار ليعبر البحر المتوسط الى قارات أخرى بعيدة على كوكب الارض.
نوى النخل الذي نجا من كارثة تلك الحرب النووية، تم استنباته بعد ألفي عام مرة اخرى ، عندما عثرت عليه بالصدفة امرأة لا أسم لها كانت تتجول بين الاحراش ولا تعرف من الكلمات غير حروف متكررة تتكون من التقاء الشفتين مثل ماما وبابا وواوا، ولاتتكلم الا بصوت خافت، لأن الحبال الصوتية لحناجر من تبقى من البشر كانت قد تضررت بفعل العصف النووي، ولم تعد اللغات المتعارف عليها في الماضي السحيق موجودة بين الناس، وإنما أصوات مبعثرة وحروف مختلفة تكفي فقط للتفاهم بأبسط الكلمات.
في عام 4018 عثرت تلك المرأة، الخرساء تقريباً، على نواة البلح فزرعتها من جديد في حديقة كوخها ببغداد، وهي المدينة التي حاصرتها جيوش جرارة جاءت قبل ألفي عام من قارة اسمها أمريكا تقع خلف المحيط الاطلسي. تلك القارة أيضا أحرقتها ترسانتها النووية التي تفجرت بفعل اشتعال الحرب النووية وتطاير الصواريخ اليها من كل مكان في الشرق الاوسط ، فأبيدت عن بكرة أبيها ولم يبق لها وجود على الخارطة.




* ميسلون هادي : فوتو كوبي (ملف/61)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى