زرياف المقداد - البراري.. قصة قصيرة

تقول جدتي:

.. ولما أصبح القمر بدراً، واكتمل في كبد السماء، أصاب الهلع قلب الصبية. مارت، فأجهضت غيومها، وحاضت الأرض سيولا. فخرّت راكعة عندما رأت أميرها وقد عراه ضوء القمر، فعرفت فيه قزم القبيلة القميء الذي هربت منه أجهضت الأمهات لرؤيته عندها سقطت ميتة!!

منذ وطئت حوافر البشر أرض الجنوب وكنست الريح وجه الأرض فكشفت عري الطرقات الترابية..

استيقظت "نوف" أميرة الليل، حلم المراعي أنشودة المطر النقية فوق وجه الأرض، بدوية تغزل بضفائرها أغنيات الرعاة، وصهيل الخيول ورعاف البدو حول سراب الماء.

يقول بعض البدو إنّ الجد الأكبر "تيم الأشقر" كان قد رأى في منامه أنّ الموتى يلحقون بهم أنّى ارتحل، ولما خاف على قطعان الأغنام والإبل، وعلى الصبايا والفتيان قرّر أن يقيم بيوتا من اللبن، ويزرع بعض السهول، ويرتحل أيام الربيع وراء المراعي.

"نوف" قالت لجدها:

لقد رأيتهم يا جدي يلحقون بنا، تتقدمهم قطعان الأغنام، ويحملون قرب الماء على دوابهم، حداء إبلهم يوقظ النيام في الليل.

تململ "تيم الأشقر" وفكر طويلاً في أن يقيم مقبرة في الخلاء. قال لهم: في الليل يبرد موتانا، وفي النهار يرقبون باطمئنان أحبتهم سنمكث هنا، لن نتركهم بعد اليوم خلفنا يبكون نيران الخيام، ويلحقون السهارى حولها، لن نترك الليل يهوي فوقهم فيخنقهم.

ثم تابع: لقد أضعت عمري أركض وراء السراب في الصحراء، أضعت لون وجهي وسحنة دمي، تركت قبور أحبتي خلفي! الآن علينا أن ندجّن موتانا، ونرقد جوارهم.

ضحكت السماء متباهية، وفاضت دموعها غزيرة، غسلت وجه الأرض وزرعوا الكرم الأخضر. قال "تيم الأشقر" لأولاده: يكفي أكلتنا البراري. عليكم ببيوت تقف في وجه المطر.

ذات يوم جاءت نوف إلى جدها، وقالت: "إني أرى في المنام جثتي تمشي أمامي، يتعقبها أمير من الحاضرة.. ماذا تقول يا جدي؟!

راع الجد الأكبر ما سمع ومن يومها لم يغفل عن الصبية. ولم يأل جهداً في الاهتمام بها..

ومن يومها بدأت حكاية الصبية، لقد اعتادت على التيمم بالتراب، لكنها في غفلة من جدها وأمها تيممت بماء المطر..

أغواها الماء، وسحرت بندى أنامله فوق وجهها ورموشها، مدّ يده إلى تقاطيع الوجه، رسمها، طوق عينيها وجهها المدور، شفتيها، اتقدت نار الصبية، قفزت إلى الوراء، كادت تسقط، مدّ الماء يده، اخضرت الصبية، رسمت جذورها، فبدا وقع خطواتها محفورا على الطين، ولم تعد الريح قادرة على كنس آثارها.

اقتادت خلفها صبايا البدو، وحكت لهن عن حلمها: "الماء يغسل البدن والشعر يسترسل فلا نقصه كما نقص أصواف الأغنام، أيدينا خشنة تخرمش وجوهنا.. غداً يأتي الغجر، سنلحق بالغجريات لنتعلم طقوس الرقص والوشم، قص الأظافر، كحل العين والفوز بقلوب الرجال".

وأقسمت إنها ستسأل جدة الغجر الكبيرة عن حلمها. وفي غفلة من أمها، اقتربت من خيام الغجر، استرقت النظر إلى طقوسهم وخرجت في الليل لتشِم وجهها العذري بالشجر والخضرة والماء. أقامت الغجريات طقوس الوشم للصبية وخربشت الأنامل نشيد الروح فوق الوجه بالكحل والدمع والدم. زخت السماء دموعها، ووشمت الأرض وجهها بالزعتر البري والبابونج، ورفرفت الأعشاب الطرية عصافير تحت أقدام قطعانهم، كانت صبايا البدو يتسابقن مع الرعاة إلى المراعي، فتزهر دقات القلوب ويعلو أنين الناي فرحاً مغموساً بوجع الترحال.

في الليل يهجع الكون، وأصوات تأتي من رحم الهواء، يعزفها الصدى، تلمها أوتار القلب فتعزف الوجع فيها، ثمة حداء ينتظر الغروب ليصعد أدراج الليل ويسكن الصدور المغلقة دائماً على حزن ما.. وقفت في وجه جدها قائلة: أكلتنا البراري.

ذهل الكبير وصاح بأمها: كيف وشمت وجهها؟ ولم تعرف الأم ماذا تقول.. بكت طويلاً..

حتى أتت ليلة القمر وقد نظر إلى البيوت الطينية، رسم ظلالها أمامها ورسم ظلال الوجوه والمقابر والمراعي وضحك..

التفت الصبايا حول "نوف" التي قامت تتلوى، ترقص بقدمين عاريتين ووجه عار، وروح عارية، تتسلق جبال الصمت حول البيوت، وتلف خصرها الندي أعواد الريحان، وعيون العجائز ترقب بذهول صبية المراعي ويديها الناعمتين..

يقطر العسل فوق وجهها، ويرتشف ضوء القمر ظلال جسدها فوق التراب وتغني:


"هاناي لاقيت العزيز علي


وهاناي ميعادنا أوقات عشية


هاناي جاني وراد


وهاناي لاقيت الغزال الشارد


وهاناي بالمحبة جارد


وسلمت له قلبي رفعت ايديه"(1)


ودارت الصبية.. ثم توقفت.. وهي تبحث عن ظل ما.. وربما حلم ما.. في الليل ترى بريق عينيه حول النار، حتى إذا أخمدها النعاس فقدته..

وعندما يخبئ النوم جنوده تحت رموشها، ترى الأمير الملثم يحمل جثته على كتفه ويعبر من بوابة في الصحراء..

قالت لها عجوز الغجر: إياك والالتفات وراءك.. لكن الحلم.. أغواها..، لم تعد قادرة على حلب الأغنام بيديها الناعمتين كانت تغني لتوقظ عجائز البدو اللواتي لفظن الصبية وقلن: تاهت.. تاهت. مرت سنوات يركض ظل الأمير الحلم خلف قوافلهم. في الربيع، يخبرها الشيح والقيصوم عن خطواته ويختبئ في بيوت الطين التي بنوها للشتاء.

حتى حلَّ القحط في الأرض..

نحلت الأعشاب الطرية ولم تلق بذورها إلى الأرض للسنة القادمة. غارت دموع السماء، جاع الناس، والأغنام أقعت جوار قبور الموتى ثم.. قرروا الرحيل وراء الماء..

ولما رحلوا.. أقفرت السماء من إبل الغيوم، وحاضت الأرض ينابيع وسيولاً ابتلعتها قطعانهم ودوابهم.. ولم ترتوِ..

اغتسلت النسوة من إثم الخطيئة.. فجززن الشعر فوق الحجارة السود.. اتكأ تيم الأشقر على عصاه، فخذلته، بكاها وبكته..

ركضت الصبية كغزال شارد إلى الغدير، صاحت: الماء.. الماء..

لكن أشجار الخضرة فوق وجهها جفت، احدودبت العجوز أمها، ولم تعد قادرة على السير..

جاع الأمير الملثم..

نظر إلى وجهها فرأى غزالاً تركه الرعاة، وانحنى الجد الأكبر..

ركض الغزال مؤمناً، ابتسم له، ثم فاضت عيناه دمعاً وهو يمسك قوسه ونباله..

لعق الغزال دمعه ودمه فوق وجه الأمير الذي أشاح عن وجه القمر كي لا يكشف ظله.. ثم ابتدأ يتناول طعامه، وهو ينظر إلى الأفق شرب "تيم الأشقر" من الماء، روى قطعانه، لكنه مات بعدها بوقت قصير بعد سنوات شهد البدو أنَّ بوابة هناك تقف في أرض الجنوب، تطل منها بين فينة وأخرى صبية تنظر إلى جثتها موسومة بالخضرة والماء ويقطر الندى من أناملها..

كانت خاوية تماماً، وعارية تماماً.. إلا من غلالة دمع تستر روحها وجسدها يتهاوى قطعة.. قطعة..





"1"

من أغاني النجع في الصحراء الليبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى