زرياف المقداد - فاتحة.. قصة قصيرة

مدخل:

"لن يذوق طعم الحياة من لم يتنفس هواء الجبال.. هنا فوق القمم العارية، يقترب من الآلهة، يتحرر من البدن، ويصبح بمقدوره أن يمد يده، ويقطف البدر أو يجني النجوم.".

إبراهيم الكوني –المجوس ج
1


يتقدم الربيع متثائباً، تتنسم أعشابه رائحة الرطوبة، وتتثنى خجلى بين الصخور تتطاول بعض أعناق الأقحوان، ثم تغفو حانية على ذكريات من عبروا فوقها.

قادته الطرقات الحجرية، وجذبته رائحة الأزقة التائهة منذ زمن في بحر ذاكرته عاوده الإحساس بالندم، وباتهام خطير تجاه نفسه: "أنت لم تعد إلا لتدركها.. لتنالها…".

تقوقع داخل شرنقة ملابسه، واستراح قليلاً ملقياً بين ركبتيه اللتين ضمهما إلى بطنه الخاوية. جذبت الشمس أطرافها، فرت فزعة إلى مخدعها من سياط الليل القادم، فاستفاق على لسع برودة لذيذة تتجاذب أطرافه، ورائحة شوارع إسمنتية تتقدم بشراهة نحو أطراف الوادي، وبيوت فارهة تتطاول أعناقها منحنية تحت قبة السماء..

قريته.. أهي تلك التي حدثته عنها فاطمة.. بلى لم يخطئ، الساحة ما زالت قائمة.. ودكان المنصور شاهد أثري على مغارة فيها ما لذ وطاب من الحلوى.. وبابها المنحني فوق رؤوس الصغار يُفتحُ للداخل مستقبلاً رائحة أنفاسهم الدافئة التي تسكن شرايين أحجار الطين الرطبة.. وتُفتحُ للخارج على ساحة حجرية تمتد فيها عروق التراب التي تشربت برائحة الراقصين فوقها، يتذكر حين تتأجج النار تلجمه، يتشبث بثوب أمه، ويرقص أبوه حول النار بنشوة محارب قديم تلسعه أكف المصفقين وتتقدم قاتلة خطواته الجريئة..

يرقص أبوه بسيف تئن على نصله قطرات الماء الندية، ورجلاه العاريتان تقفزان فوق الصخور المدببة، وتبتلع عروق التراب بقايا جروحه ودمه. أيقظته رائحة من زمن ما.. عجوز الحي فوق رأسه .. "أما زالت" تساءل حين حدقت فيه بعينيها الزجاجيتين ولامست بيدها شعره مثقلة رأسه بالوجع المغمور..

تقدمت.. تراجعت، تقوقعت العجوز فوق عصاها، مارت، ثم انتصبت شجرة وارفة الظل، صعدت ببصرها إلى السماء، ثم استدارت قائلة: "خالد بن فاطمة.. ما الذي أتى بك؟".

تساءل الغريب القادم: هل عرفتني العجوز؟

***

بداية الحكاية

قرب المستنقع


في أسفل الجبل، قرية ما.. نامت فيها قرون الجهل والطوائف.. أصبح الضعفاء أقوياء، أخرجوا شياطينهم ونصبوهم أتقياء عليهم، ثم وضعوا حدوداً للحلال والحرام، وتاهوا سنوات وسنوات. وسط القرية أقام عراف لم يعرفوا من أين جاء..

قال لهم: ذات يوم سيلحق بكم طوفان المدن..

رجمه الصغار…

قال الكبار، العراف عارف، ما باليد حيلة…

ارتعدت عجوز الحي قرب النار، جذبها النور بنشوة غريبة، حدقت أكثر صاح بها العراف: ابتعدي..

قالت بهدوء غريب: سيرجمونني أليس كذلك؟"… صاح العراف مرة أخرى: اصمتي…

ارتعشت النسوة حين رأت العجوز العمياء تتلمس طريقها ببصيرة المبصر وتقترب من العراف الذي أكمل ووجهه معلق في قمة الجبل:

الطوفان سيلحق بكم.. عليكم بأعلى الجبل..

***

رجل ما قال لخالد: في أسفل الجبل امرأة من ماء، إن أمسكت به هرب من بين أصابعك، امرأة خضراء إن تنظر إليها ارتمى السهل في عينيك، وترامى الأفق في جسدك.. سأله خالد: ألم تنلها…؟ صمت الرجل، لمعت عيناه.. تذكر ماضيه.. حاضر.. رأى آتيه.. وصاح.. سحقاً لقد لفظتني.. قالت عجوز خرف.

ضحك خالد حتى ملأ الماء.. وربما الدمع عينيه..

بكى العجوز الخرف، فبدا مربوعاً أشيب تفوح منه رائحة المستنقع.

***

قالت له فاطمة: طردونا يا بني.. ومن يومها ابتلعته شوارع المدينة، وأزقتها..

ترهلت فاطمة، قالت له: امض يا خالد.. لك أمانة عند عجوز الحي لا تتخلَ عنها. أبوك قال:

خالد يعرف الطريق، لقد تذوق الصبي طعم الحياة ذات مرة.

خالد قرر، جذبته رائحة الأزقة في عروقه منذ زمن بعيد.

***

طرق باب عجوز الحي، حدقت فيه بعينيها الزجاجيتين.. شعر بالحدقتين تتفحصان الجسد الذي أضنته شوارع المدينة.

-ماذا تريد؟"

صمت وعيناه تبحثان وراء العجوز التي صاحت به ماذا تريد هل تبحث عنها.. طوى يديه أمام صدره ثم صاح: أريد أن أعرف كل شيء.. كيف قتلتم أبي؟" ضحكت العجوز وقالت: حقاً تريد أن تعرف كيف قتلوا أباك، أم جئت لتدرك غانية.؟!

أعاده السؤال إلى بحر ذاكرته تاه مرة أخرى في طلاسمها: امرأة من ماء.. كيف قتلوا أبي.. أيهما أريد؟..

ضحك خالد في سره وقال: أبي قتلته عقولهم المحدودة التي لا تنتج فكراً..

هل أنا ما لم تستطع كونه يا أبي..؟

امرأة خضراء،.. السهل أخضر،.. والعفونة خضراء أليس كذلك؟"

ثم تذكر حين قال له أبوه ذات مرة ويده تلم جسده الطفل وهما يعبران الجبل: انظر يا بني إلى السماء المفتوحة على الأرض.. يا بني دع الأشياء لنهاياتها المفتوحة.. لا تغلقها.. حتى لا تقتلها.. إن أنت أغلقتها قتلتها، وحين تكشف النهاية للآخرين تصبح محدودة لهم..

تصبح في نطاق معرفتهم، المعرفة يجب أن تكون مفتوحة كما السماء.. وكما هي قمة الجبل،..

حركته عصا عجوز الحي فقال لها: يقولون عن غانية (زا.. )

-دعهم يقولون ما يشاؤون، ستبقى غانية الحلم والشمس والمطر..، ستبقى راحة المسافر التي تبحث دوماً عن أفق…

-أعرفت لماذا عدت يا بن أبيك.. ماذا تريد؟".

- أريد أن أعرف كل شيء .

قالت عجوز الحي: إن عرفت كل شيء فلن يبقى لك شيء تبحث عنه، حتى تحيا يجب أن يبقى هناك مجهول في حياتك..

***

في الزمن الماضي…

تحلقوا حول غانية، اختبأت وراء العجوز العمياء.. قال لها العجوز الخرف: أرجوك.. فقط نهاية أناملك..

ضحكت الصبية وقالت له: عجوز خرف.. امض.. اجتمعت الشياطين التي خرجت من سجنها داخل النفوس الضعيفة، تحلقوا حول العجوز الخرف فقال لهم: انظروا كم قتلت من أبنائكم؟"

نقرت عجوز الحي رأسه: أنت تعرف.. لم تقتلهم سوى أحلامهم التي ما غادرت قاعدة الجبل..

***

في الزمن الحاضر:

غانية تشم رائحة الماء، تسأل: جدتي من القادم؟"

يتسلل خالد وراء العجوز، يلمح الصبية وقد أسدلت شالها فوق شعر طويل متموج، أطلت شامة رقيقة في الجيد، صوت ضحكتها العارية يلمه ورائحة الندى تعصف به..

لمس خارطة الجسد وارتعش حين انساب الماء بين أصابعه..

***

اجتمع أهل القرية، أدوا طقوس الرقص فوق عنق الضحية، قرروا أن يرجموا الصبية التي استقبلت خالداً والعجوز العمياء التي سلمته إياها..

أما خالد.. فقد قرر أن يتنفس هواء الجبال.. صاحوا بها: بيننا قاتلة اخرجي..

رجع الصدى يقول: خالد بن أبيه سيعود.. وفي رأسه مدن من الأفكار.. سيؤدي طقوس الرقص الحقيقية فوق القمم العارية، سيدمي قدميه ووحده من سيسمع غناء الماء..

***

تئن العجوز تحت رجم حجارتهم، وغانية تطلق العنان لساقيها، تمضي رحلتها في عروق الجبل. الجسد سهول خضراء ترتع مقل العيون فيه وتشهق الآهات منتحبة في ثناياه كالحلم حين يمتد مرتعداً في برودة القبر أو بارداً في وهج الشمس..

تمضي خلف خالد الذي اكتشف مسارب القرية ومضى يُغُذُّ السير ويلتهم التراب، مارداً من ماء.

توسد كتف الجبل، ألقى برأسه فوقه.. استنشق رائحة من عبروا..

أطلق العنان لكل أشيائه، تحرك دونما قيد أو شرط.. الشمس قرص أرجواني مبتسم يمضي بخطا واثقة نحو الأفق..

***

تقول الكتب هناك في قاعدة الجبل ما زال الناس يكتشفون يوماً بعد يوم مقابر لأقزام.. صغيرة.. صغيرة..
  • Like
التفاعلات: زرياف المقداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى