حين فكرتُ في افتتاح محلّ أعتاش منه، بعد عجز ربّ الأسرة، لم يكن لديّ حلّ آخر، أو احتمال أكثر خبرة وجدوى. فلا ينسى الكثيرون ممن يزوروننا أن يمتدحوا اهتمامي بالورد وأصنافه؛ وقد يبالَغ في ذلك: "هنيئاً لمن يعيش مع الورد وبين أحضانه"، لإثارة اهتمامي وغيرة زوجاتهم.. ربما؛ أو زوجي الذي يعلّق أحياناً: أكره الحصار حتى لو كان السور أوراداً!!
وكثيراً ما اتّهم الروائح الفواحة بالحساسية التي قضّت أوقاته، وأوقاتي..، ولم أكن أنزعج كثيراً؛ فهو شيء مميّز لديّ، يعوّض إحساساً بنقص في مكان ما، أو أماكن!
لم يكن حلّ آخر؛ فقد تزوجته قبل أن أكمل دراستي الجامعية، ولم أكمل، ولا مجال للوظيفة "الثانوية" إلا بجهود استثنائية، ولا حول ولا قوة. بعد أن كبر الولدان، وصارا في حاجة ملحّة إلى ما يعين لإكمال ما حُرمت منه، وكبرت، بدا أن الأمر يزداد صعوبة، ويتطلب ربما أشياء عزيزة! ارتضيت العمل بما لا يشترط أكثر من "محو الأمية"، دهشت حين أخبروني أنهم يحترمون المقامات: ثانوية ومستخدَمة؟! ودهشت أكثر حين اكتشفتُ أن في الطريق إلى هذه الوظيفة عثرات لا تقلّ رفعة وأثماناً عن الوظائف الرفيعة لأصحاب الشهادات، فاقتنعت بعد مرارة وخيبات أنْ ليس لي في رواتب الدولة نصيب!! حتى توهّمتُ -وأشيعَ- بعد حين أن الأمر تغيّر؛ وعدني المسؤول الأكبر في المحافظة بأن هذا الأمر بسيط، وأرفق الوعد بطلب بسيط، وكنت متردّدة في القبول، بعد أن باتت فواتير المؤسسات المختلفة تتزايد؛ فالمناسبات الأرضية عديدة، والسماوية أيضاً، والاجتماعية لا تعدّ، ولديّ من المهارة والتنوع والذوق ما جعل الكثيرين يقصدون هذا المحل المتواضع لبيع الزهور، في هذا الحي النائي من المدينة!
تمنّى زوجي أن أقبل، وأفوز بالمَجْدَين، وأنكرَ عليّ ولداي ذلك، وقد وافق هذا ما كنت أميل إليه، بعد أن راودتني رغبة بالقبول انتقاماً؛ لكن الطلب كان صعباً، وجاءني "الظلّ" معاتباً: لقد صُرف ثمن الإكليل نفسه بعدد المؤسسات الرسمية في المحافظة، والنسخ من فاتورتك الوحيدة التي لم ترضي أن توقّعي سواها، وحُرمتُ من التعويضات، واحترمتِ الوظيفة؛ أهنئك على هذه الإنجازات!!
سيقول أشياء أمضى وأقسى بعد مقاطعة الدوائر الأخرى، وغياب بصمتي عن الأكاليل التي لا تحصى.. وقد احتشدتْ على جدران صالات الأفراح المميزة احتفاء بدخول الأبناء الفاخرين أقفاصهم الذهبية.
-لا تندمي يا أمي؛ تكفينا أفراح أفعالنا، وأصداء ما لم نقم به؛ قال وعد، وأكّد عهد أخوه، وقال لأبيه الذي لم يطل بقاؤه بيننا، بنبرة لم أرتضيها، أشياء أخرى!!
*
احترتُ حتّى في سرّي؛ فهل أشكر الله على ازدياد الطلبات المكللة، أم أتمنّى أن يكون مصيري مثل الذين باتوا يشتكون من قلة الحيلة وضعف المردود بعد امتداد الأزمة؟! وكانت الشكاوى المُرّة تحضر أطراف الأحاديث الأمرّ عن الفقد المؤسي والغياب الممضّ والكوّات المخنوقة، والطاقات المهدورة والزمن الرديء..
كنت فيما مضى أنتظر مواسم الخير، وأيام الخصوبة التي تتكاثف آناء الصيف، وتتحيّن العطل المحتومة، والتعطل الطارئ، واغتنام المناسبات السعيدة للانشغال الثرّ. وكنت لا أرغب بانشغالات أخرى، لا تقف عند أمنياتي والأحياء الذين سيتناقصون بحكم الأمر الذي لا رادّ لسلطانه!! وكانت الحال مستقرة بتواترها المتنافر وإيقاعها غير المنتظم.
*
ما بين تصيّد الفرح العابر وانقضاء الحزن العارض، كان بالإمكان احتمال المسير أكثر، وكان يمكن للفصول أن تمرّ أقلّ وطأة وأكثر اغترافاً من أعمار وأقدار..
لكن.. لم يكن ممكناً توقّع أن يخيّم القضاء في المنطقة رغم التاريخ غير البعيد والذكريات غير السعيدة، أو تصوّرُ كلّ هذا الحجم الكارثي على الأقل؛ فيغدو ترقّب الجنازات كابوساً مقيماً، ويغور الفرح حيياً في لقاءات مكتومة، واتفاقات مكتوبة على عجل وخجل في أركان تضيق بفضائها، ولا تفيض بحضورها الذي لا يزيد على الأهل والمقرّبين!!
تخرّست هنهنات الأعراس، وبهتت أو غابت زينات العرائس، وتهدّلت زغردات الفاقدين، واحتدّت ولولات الثكالى، ولم تغب أوراد أم الوعد عن المواكب السيارة، ولم تهِن همّتُها كما لم ينُسْ اهتمامها. ولم يكن وارداً أن تهتمّ لقول الحاسدين، ونظرات الكظيمين حتّى في هذه الأوقات، من قلّة المراجعين، وشحّة الموارد، ولم يكن ممكناً، وليس هذا من طبعها!!
صار استحضار الأكاليل متعباً، ومرهقاً تزيين الحلقة واستظهار الاسم. ولا بدّ مما ليس منه بدّ؛ لم يعد التفنّن مهماً ولا الوقت قضية، ولا عطلة للورد، ولا فرص للمناسبات السعيدة، ولا الأجر يُنتظر.
الواجب يَفرِض، والمناسبات الطارئة اعتيدت، وتوزّعت المواكب المكتظّة الضاجّة القرى والبلدات والحارات، وتكاثفت ودارت!!
الحماسة لم تفارق اللحظات، ولا اللهفة للقيام بالواجب؛ فالخطر محدق، والمصير على المحكّ، والنفثات محمومة، والرؤى تغصّ في تقصّي القادم، وانتظار الجثمان أو بقية منه أو أثر، قد يطول.. تهيم الأفكار، ويوغر التوجّس الأنفاس من أحداث تتسارع، وأخبار لا تتمايز عجالاتها أو تنوس!!
*
حين جاء طلب وعد، وكنت أحضّر إكليلاً لحفرة طازجة.. قال أكثر من صوت: كلّمي واحداً من زبائنك الجدد، ليؤجله إلى حين؛ كما فعل من تعلمين، أو يفرزه إلى مكان آمن!
قلت في سرّي مع ضجيج دقات قلبي، وانخضاض في أعضاء الداخل: لم يعد مكان آمناً. وربما قلت أكثر، رغم ما كنت فيه، عن أصحاب الفواتير التي لم تعد تخصّ الورد ولا المناسبات الوطنية، وقد تضاعفت قيمها الآن، كما توارد إليّ بمرارة من بعض مراجعيّ المحدثين، الذين لا يملكون ما يبعد عن أبنائهم احتمالات قاتمة، أو يجنّبهم مواقع حارة تتكاثر، ولا يرتضون سمعة فاضحة، ويقومون بما فعل وعد، وربما يفرحون به ويسعون إليه باندفاع وتوق.
ولم يكن محدّثي يعلم، ولم أكن أدري، ولا يقدم هذا ولا يؤخّر، أنّ وعداً أعطى مُبَلِّغَهُ الدعوة للالتحاق بحماة الديار هدية، وقال: لست أعزَّ من أحد، وهناك ما هو أعز وأغلى! ولم يكن ذلك غريباً مع وجود من تقدّم بنفسه، وليس من عداد المطلوبين!
في آخر مكالمة، وكنت منهمكة في تأمين طلبات تتكاثف، وكانت الشفرات الحادة توالي فعلها في داخلي، قال وعد: أمّي.. إذا جاءكِ الخبر اليقين، فلا تتأخّري؛ ولا تتغيّبي عن المحلّ، الورد لا يعطّل، ولا تغيّري عاداتك، وكلّلي بنظراتك الحانية، وبأنفاسك الحرّى.. ليس الآخرون أعزّ من ابنك!
أردّد ذلك الآن، وأتعثّر، وعهد يساعدني محموماً، وأنا لا أستطيع التمييز إن كان الشوك في يديّ أم في الورد الذي يختلج بين أصابعي، أم هي الكبد التي لم تعد تتسع لها الأرض!
***
وكثيراً ما اتّهم الروائح الفواحة بالحساسية التي قضّت أوقاته، وأوقاتي..، ولم أكن أنزعج كثيراً؛ فهو شيء مميّز لديّ، يعوّض إحساساً بنقص في مكان ما، أو أماكن!
لم يكن حلّ آخر؛ فقد تزوجته قبل أن أكمل دراستي الجامعية، ولم أكمل، ولا مجال للوظيفة "الثانوية" إلا بجهود استثنائية، ولا حول ولا قوة. بعد أن كبر الولدان، وصارا في حاجة ملحّة إلى ما يعين لإكمال ما حُرمت منه، وكبرت، بدا أن الأمر يزداد صعوبة، ويتطلب ربما أشياء عزيزة! ارتضيت العمل بما لا يشترط أكثر من "محو الأمية"، دهشت حين أخبروني أنهم يحترمون المقامات: ثانوية ومستخدَمة؟! ودهشت أكثر حين اكتشفتُ أن في الطريق إلى هذه الوظيفة عثرات لا تقلّ رفعة وأثماناً عن الوظائف الرفيعة لأصحاب الشهادات، فاقتنعت بعد مرارة وخيبات أنْ ليس لي في رواتب الدولة نصيب!! حتى توهّمتُ -وأشيعَ- بعد حين أن الأمر تغيّر؛ وعدني المسؤول الأكبر في المحافظة بأن هذا الأمر بسيط، وأرفق الوعد بطلب بسيط، وكنت متردّدة في القبول، بعد أن باتت فواتير المؤسسات المختلفة تتزايد؛ فالمناسبات الأرضية عديدة، والسماوية أيضاً، والاجتماعية لا تعدّ، ولديّ من المهارة والتنوع والذوق ما جعل الكثيرين يقصدون هذا المحل المتواضع لبيع الزهور، في هذا الحي النائي من المدينة!
تمنّى زوجي أن أقبل، وأفوز بالمَجْدَين، وأنكرَ عليّ ولداي ذلك، وقد وافق هذا ما كنت أميل إليه، بعد أن راودتني رغبة بالقبول انتقاماً؛ لكن الطلب كان صعباً، وجاءني "الظلّ" معاتباً: لقد صُرف ثمن الإكليل نفسه بعدد المؤسسات الرسمية في المحافظة، والنسخ من فاتورتك الوحيدة التي لم ترضي أن توقّعي سواها، وحُرمتُ من التعويضات، واحترمتِ الوظيفة؛ أهنئك على هذه الإنجازات!!
سيقول أشياء أمضى وأقسى بعد مقاطعة الدوائر الأخرى، وغياب بصمتي عن الأكاليل التي لا تحصى.. وقد احتشدتْ على جدران صالات الأفراح المميزة احتفاء بدخول الأبناء الفاخرين أقفاصهم الذهبية.
-لا تندمي يا أمي؛ تكفينا أفراح أفعالنا، وأصداء ما لم نقم به؛ قال وعد، وأكّد عهد أخوه، وقال لأبيه الذي لم يطل بقاؤه بيننا، بنبرة لم أرتضيها، أشياء أخرى!!
*
احترتُ حتّى في سرّي؛ فهل أشكر الله على ازدياد الطلبات المكللة، أم أتمنّى أن يكون مصيري مثل الذين باتوا يشتكون من قلة الحيلة وضعف المردود بعد امتداد الأزمة؟! وكانت الشكاوى المُرّة تحضر أطراف الأحاديث الأمرّ عن الفقد المؤسي والغياب الممضّ والكوّات المخنوقة، والطاقات المهدورة والزمن الرديء..
كنت فيما مضى أنتظر مواسم الخير، وأيام الخصوبة التي تتكاثف آناء الصيف، وتتحيّن العطل المحتومة، والتعطل الطارئ، واغتنام المناسبات السعيدة للانشغال الثرّ. وكنت لا أرغب بانشغالات أخرى، لا تقف عند أمنياتي والأحياء الذين سيتناقصون بحكم الأمر الذي لا رادّ لسلطانه!! وكانت الحال مستقرة بتواترها المتنافر وإيقاعها غير المنتظم.
*
ما بين تصيّد الفرح العابر وانقضاء الحزن العارض، كان بالإمكان احتمال المسير أكثر، وكان يمكن للفصول أن تمرّ أقلّ وطأة وأكثر اغترافاً من أعمار وأقدار..
لكن.. لم يكن ممكناً توقّع أن يخيّم القضاء في المنطقة رغم التاريخ غير البعيد والذكريات غير السعيدة، أو تصوّرُ كلّ هذا الحجم الكارثي على الأقل؛ فيغدو ترقّب الجنازات كابوساً مقيماً، ويغور الفرح حيياً في لقاءات مكتومة، واتفاقات مكتوبة على عجل وخجل في أركان تضيق بفضائها، ولا تفيض بحضورها الذي لا يزيد على الأهل والمقرّبين!!
تخرّست هنهنات الأعراس، وبهتت أو غابت زينات العرائس، وتهدّلت زغردات الفاقدين، واحتدّت ولولات الثكالى، ولم تغب أوراد أم الوعد عن المواكب السيارة، ولم تهِن همّتُها كما لم ينُسْ اهتمامها. ولم يكن وارداً أن تهتمّ لقول الحاسدين، ونظرات الكظيمين حتّى في هذه الأوقات، من قلّة المراجعين، وشحّة الموارد، ولم يكن ممكناً، وليس هذا من طبعها!!
صار استحضار الأكاليل متعباً، ومرهقاً تزيين الحلقة واستظهار الاسم. ولا بدّ مما ليس منه بدّ؛ لم يعد التفنّن مهماً ولا الوقت قضية، ولا عطلة للورد، ولا فرص للمناسبات السعيدة، ولا الأجر يُنتظر.
الواجب يَفرِض، والمناسبات الطارئة اعتيدت، وتوزّعت المواكب المكتظّة الضاجّة القرى والبلدات والحارات، وتكاثفت ودارت!!
الحماسة لم تفارق اللحظات، ولا اللهفة للقيام بالواجب؛ فالخطر محدق، والمصير على المحكّ، والنفثات محمومة، والرؤى تغصّ في تقصّي القادم، وانتظار الجثمان أو بقية منه أو أثر، قد يطول.. تهيم الأفكار، ويوغر التوجّس الأنفاس من أحداث تتسارع، وأخبار لا تتمايز عجالاتها أو تنوس!!
*
حين جاء طلب وعد، وكنت أحضّر إكليلاً لحفرة طازجة.. قال أكثر من صوت: كلّمي واحداً من زبائنك الجدد، ليؤجله إلى حين؛ كما فعل من تعلمين، أو يفرزه إلى مكان آمن!
قلت في سرّي مع ضجيج دقات قلبي، وانخضاض في أعضاء الداخل: لم يعد مكان آمناً. وربما قلت أكثر، رغم ما كنت فيه، عن أصحاب الفواتير التي لم تعد تخصّ الورد ولا المناسبات الوطنية، وقد تضاعفت قيمها الآن، كما توارد إليّ بمرارة من بعض مراجعيّ المحدثين، الذين لا يملكون ما يبعد عن أبنائهم احتمالات قاتمة، أو يجنّبهم مواقع حارة تتكاثر، ولا يرتضون سمعة فاضحة، ويقومون بما فعل وعد، وربما يفرحون به ويسعون إليه باندفاع وتوق.
ولم يكن محدّثي يعلم، ولم أكن أدري، ولا يقدم هذا ولا يؤخّر، أنّ وعداً أعطى مُبَلِّغَهُ الدعوة للالتحاق بحماة الديار هدية، وقال: لست أعزَّ من أحد، وهناك ما هو أعز وأغلى! ولم يكن ذلك غريباً مع وجود من تقدّم بنفسه، وليس من عداد المطلوبين!
في آخر مكالمة، وكنت منهمكة في تأمين طلبات تتكاثف، وكانت الشفرات الحادة توالي فعلها في داخلي، قال وعد: أمّي.. إذا جاءكِ الخبر اليقين، فلا تتأخّري؛ ولا تتغيّبي عن المحلّ، الورد لا يعطّل، ولا تغيّري عاداتك، وكلّلي بنظراتك الحانية، وبأنفاسك الحرّى.. ليس الآخرون أعزّ من ابنك!
أردّد ذلك الآن، وأتعثّر، وعهد يساعدني محموماً، وأنا لا أستطيع التمييز إن كان الشوك في يديّ أم في الورد الذي يختلج بين أصابعي، أم هي الكبد التي لم تعد تتسع لها الأرض!
***